لن تبقى منطقة المغرب العربي وحدها من ساحات التنافس والتدافع بين فرنساوالولاياتالمتحدة، حيث ان باريس شرعت في تصعيد وتيرة تنافسها مع واشنطن في منطقة الخليج العربي، خاصة منذ العقد الأخير من نهاية القرن العشرين. فرنسا لم تركز أولا على توسيع نفوذها السياسي او بناء التحالفات العسكرية، خاصة لأن قدراتها الذاتية لم تكن متناسبة مع حاجيات المنطقة التي تواجه تحديات ضخمة والتي ارتبطت في هذه المجالات مع الولاياتالمتحدة التي ورثت الجزء الأكبر من نفوذ بريطانيا القوة الإستعمارية السابقة. وقد نجحت باريس في فتح أسواق عديدة في المنطقة النفطية الغنية، خاصة ما يتعلق بالسلاح الذي اعتبرت الحكومات المتعاقبة بماتنيان انه يمكن أن يشكل مدخلا لنفوذ أوسع في كل المجالات الأخرى. كما استفادت باريس من الحذر المتصاعد تجاه واشنطن من جانب بعض حكومات المنطقة التي أصبحت تسعى لتنويع وموازنة علاقاتها الخارجية بحيث لا تبقى رهينة للبيت الأبيض. الرئيس الفرنسي الجديد ساركوزي يريد ان يعطي هذه العلاقات دفعة كبيرة جديدة، وهو طموح في مساعيه هذه وحسب مصادر أمريكية فهو يريد جزء كبيرا من الكعكة الخليجية مما يضع باريس في خط تنافسي مع واشنطن التي تعتبر أنها أصبحت مزعجة. هذا التدافع الفرنسي الأمريكي برز هذه الأيام الأولى من شهر يناير حيث يزور الرئيسان الأمريكي والفرنسي المنطقة في نفس الوقت تقريبا، ويتدارسان وبإستثناءات قليلة نفس الملفات. ويعتقد بعض الملاحظين ان ساركوزي سيحاول ان تستعيد بلاده مكانتها في دول خليجية كانت تعتبر شيراك ولمدة 12 سنة صديقا عائليا لحكامها، وذلك بعد فقدانها هذه الوضعية نتيجة مخاوف دول المنطقة من اقتراب باريس في عهده بشكل كبير من السياسة الامريكية. ولا ينسى المقربون من ساركوزي ما نقلته وكالة رويترز عن مسؤول سعودي قبل أسابيع عن انه كان ليشعر بالذل لو كان فرنسيا عندما سمع خطاب ساركوزي امام الكونغرس الامريكي في نوفمبر الماضي، حين مجد عظمة الولاياتالمتحدة بشكل ابهر حتى بوش وقد قاطعه اعضاء مجلس النواب والشيوخ اكثر من عشرين مرة بالتصفيق الحاد. في محاولة لإعطاء قيادته صورة جديدة والحصول على الغنائم بدأ الرئيس الفرنسي يوم الأحد 13 يناير جولة خليجية عربية هي الاولى منذ توليه الرئاسة، استهلها بالسعودية وبعدها قطر ثم الامارات العربية وسيكون لها مضمون سياسي قوي على حد تعبير الاليزيه، الذي اكد ان زيارة ساركوزي الى الدول الثلاث تهدف الى التأكيد مجددا على صداقة فرنسا لهذه البلدان التي يعرف رئيس الجمهورية قادتها بشكل جيد. من جانبه قال الرئيس الفرنسي ان الهدف من زيارته للسعودية إضفاء بعد جديد على شراكتنا الاستراتيجية التي بدأت سنة 1996 وتجديد العلاقة القائمة بين بلدينا من أجل أن نكيفها على نحو أفضل مع رهانات اليوم وأولويات المملكة. وأشاد بدور السعودية الحليف الذي لا غنى عنه لفرنسا في المنطقة، لكونها جسرا لازماً بين العالم العربي الإسلامي والغرب، مبديا سعادته للقائه الثاني مع الملك عبدالله بن عبد العزيز الذي تربطني به علاقة مبنية على الثقة والتقدير. ويسجل ان مواقف الرياض وباريس تلتقي كثيرا حول الأزمة اللبنانية وتتصادم مع مواقف سوريا وقوى المقاومة في لبنان. ولهذا وعندما سألت صحيفة الحياة اللبنانية ساركوزي عن علاقة بلاده بدمشق في ضوء عدم نجاح اتصالاتهما لحل الأزمة اللبنانية، أجاب ان فرنسا لم تدخر جهدا من أجل أن يقوم مختلف الأطراف المهتمة بالوضع في لبنان بممارسة تأثير إيجابي في عملية البحث عن حل، لافتاً الى ان الاتصالات مع سوريا لم تكن بحد ذاتها بداية لعودة العلاقات الطبيعية. ولكنها كانت تقتصر أساسا على حل الأزمة اللبنانية. وكما سبق لنا أن قلنا دائما، عندما سيتم الحصول على نتيجة ملموسة في لبنان فسيمكننا ابتداء من هذه اللحظة تصور عودة حقيقة للعلاقات الطبيعية واستئناف حوار سياسي حقيقي مع دمشق حول كل الموضوعات الإقليمية، وليس فقط بصدد لبنان. الى جانب لبنان سيركز الرئيس الفرنسي مع محدثيه على قضايا فلسطين والوضع في غزة حيث تسيطر حماس وما تعتبره فرنسا ضعف مركز السلطة في رام الله وخطورة سيطرة حماس وأنصار المقاومة حتى من فتح على الضفة الغربية خاصة اذا تبخرت وعود الإدارة الأمريكية بإيجاد تسوية مع نهاية .2008 وفي هذا الإطار قال الرئيس الفرنسي ان الوقت قد حان للإسرائيليين كي يقوموا بتحركات تسمح بإثبات أن السلام أمر ممكن تحقيقه. ويعد التجميد الكامل والفوري للاستيطان أولوية، بما في ذلك في القدس الشرقية... ويجب أن يبذل الفلسطينيون كل ما في وسعهم من أجل تدعيم قوات الأمن التابعة لهم ومكافحة الأعمال والحركات الإرهابية... إن احترام هذه الالتزامات أمر واجب من أجل أن لا تكون عملية أنابوليس مجرد عملية جديدة تضاف إلى سابقتها. والواضح هنا أن ساركوزي يحرض على تصفية حماس ويذكر أنه طرح في ديسمبر 2007 فكرة ارسال قوات غربية الى غزة لإعادة سلطة محمود عباس عليها. الإهتمامات الفرنسية في المنطقة تتعلق كذلك بالقضية النووية الإيرانية والتوزنات العسكرية في منطقة الخليج العربي خاصة على ضوء المازق الأمريكي في المستنقع العراقي وزيادة نفوذ طهران وما يعتبره البعض تهديدا من جانبها، ورغبة دول مجلس التعاون في تعزيز قدراتها الذاتية العسكرية والصناعية وكذلك النووية. ويقول خبراء ان باريس التي وقعت عقود تسلح سنة 2006 و 2007 مع الرياض بقيمة تصل الى 7 ملايير دولار، وقبلها مع الإمارات بأكثر من 4 ملايير دولار، تتطلع خلال الزيارة الحالية لرئيسها لربط اتفاقيات تزيد قيمتها على 14 مليار دولار توزع بين المعدات العسكرية وتقاسم التقنيات العسكرية وتطوير القدرات النووية المدنية، وذلك بعد أيام من طرح البيت الأبيض أمام الكونغرس عقودا عسكرية مع الرياض ب 20 مليار دولار. وبالفعل وقعت الحكومتان السعودية والفرنسية الاحد اربع اتفاقيات تعاون وخصوصا في مجالات الطاقة والتعاون السياسي وبحثتا مشاريع عقود تصل قيمتها الى 40 مليار يورو، ووقعا ايضا اتفاقا للتعاون في قطاعات النفط والغاز والثروات المعدنية واتفاقين اخرين حول الإعداد الجامعي في فرنسا، وتطوير التدريب المهني في فرنسا من جهة اخرى. ويتناول الاتفاق الرابع التنسيق السياسي على مستوى وزيري خارجية البلدين. كما ترغب باريس في تخفيض الإختلال في مبادلاتها مع الرياض ويشار إلى أن الميزان التجاري بين البلدين يسجل عجزا لصالح السعودية، حيث تصل قيمة وارداتها من فرنسا إلى 1300 مليون يورو، مقابل صادرات بقيمة 3100 مليون. وتتركز المبيعات الفرنسية على المواد الاستهلاكية والتجهيزات بحصة تتراوح ما بين 4 إلى 5 في المائة من السوق السعودي لتحتل المرتبة الثامنة بين شركاء المملكة التجاريين، فيما تحتل السعودية المرتبة الرابعة بين شركاء فرنسا في المنطقة بعد تركيا، إيرانوالإمارات العربية المتحدة. الصفقات الكبرى يمكن أن تحدث توازنا، وليس هناك أفضل من السلاح والمفاعلات. دول مجلس التعاون الخليجي الست وهي السعودية والامارات والكويت وقطر والبحرين وسلطنة عمان كانت قد قررت في ديسمبر 2006 اطلاق برنامج مشترك للطاقة النووية السلمية. وصرح وكيل وزير الطاقة الاماراتية علي بن عبدالله العويس مؤخرا ان هدف مجلس التعاون هو الحصول على محطة نووية مشتركة يمكن تشغيلها اعتبارا من العام .2025 الا ان مسؤولا اماراتيا قال طالبا عدم الكشف عن اسمه لرويترز ان كل بلد في المجلس وبالتوازي مع المشروع الخليجي المشترك يمكنه ان يفعل ما يشاء وان يتابع طموحاته النووية الخاصة. وفي هذا السياق، قال المصدر القريب من الملف ان مجلس التعاون الخليجي فتح الباب امام التعاون، الا انه في المقابل يبقى هناك البعد الثنائي. وذكر المصدر ان الاتفاق النووي الذي تم توقيعه في ابوظبي يضع اسسا لتعاون مستدام ويحدد الشروط لذلك، وسيكون تتويجا لمسيرة فرنسية بدأت في الجزائر وتلتها ليبيا نهاية سنة 2007 على يد الرئيس الفرنسي الجديد الذي يريد كذلك بهذه العقود الضخمة إخراج الإقتصاد الفرنسي من مرحلة الركود الحالية وينشط سوق الشغل.وإذا كانت الامارات الدولة الخليجية الوحيدة التي توقع اتفاقا للتعاون النووي مع فرنسا خلال جولة ساركوزي، الا ان الموضوع طرح ايضا من دون شك في الرياض والدوحة، خاصة ان آن لوفيرنيون رئيسة المجموعة النووية الفرنسية اريفا كان ضمن الوفد الذي رافق الرئيس الفرنسي. وذكر مصدر فرنسي لوكالة فرانس برس ان محادثات في هذا الشأن بدات قبل مدة مع السعودية خاصة خلال زيارة ملكها لباريس في نهاية سنة 2007 الا ان الامور ليست واضحة حتى الأن انها فكرة في مراحلها الأولى وليس هناك طلب واضح في الموضوع النووي من قبل السعوديين. ويشير الفرنسيون الى أن السعودية مهتمة منذ عقدين بمجال البحث الذري وقد ساهمت بمئات ملايين الدولارات في برنامج باكستان النووي الذي مكن هذا البلد من أن يصبح اول قوة نووية إسلامية.اما بالنسبة لقطر، فقد اكد المصدر نفسه ان هذا البلد الغني الذي يملك ثالث احتياطي غازي في العالم بعد روسيا وايران، اجرى اتصالات مع جميع الشركات المزودة للطاقة النووية السلمية في العالم لبناء علاقات معها. وان المسؤولين القطريين مهتمون بالمسألة الا ان لا شيء رسميا حتى الآن. زيارة ساركوزي للخليج العربي ستمكن من الإجابة على الكثير من التساؤلات حول سياسة باريس المستقبلية ومدى استعداد ساكن الإليزي للإبتعاد عن التبعية لسياسة واشنطن.