الدور الفرنسي الحاسم في منح المغرب الوضع المتقدم، يندرج في سياق المحددات التقليدية للسياسة الفرنسية التي تجعل من المغرب نقطة ارتكاز أساسية في نفوذها بمنطقة المغرب العربي ومنطقة الشرق الأوسط. يقرأ البعض في الوضع المتقدم الذي منحه الاتحاد الأوربي للمغرب على أنه شهادة حسن سيرة في ما يخص الإصلاحات المؤسساتية التي باشرها المغرب منذ عقدين، ويعتبرها الاتحاد نموذجا للاقتداء بالنسبة إلى العديد من دول الضفة الجنوبية للبحر الأبيض المتوسط. ويرى البعض الآخر أن الوضع المتقدم هو نوع من التعهد الأوربي بمواكبة الإصلاحات المغربية على مستويين: الأول سياسي ويشمل الحريات العامة وحقوق الإنسان وتحسين النظام القضائي..، والثاني اقتصادي ويهم الاندماج التدريجي للمغرب في السوق الداخلية للاتحاد الأوربي بناء على قاعدة الانفتاح والتحرير الاقتصادي. المحددات التقليدية غير أن القراءتين معا لم تقفا بشكل معمق على الدور الفرنسي الحاسم في منح المغرب هذا الوضع، وهو دور يندرج في سياق المحددات التقليدية للسياسة الفرنسية التي تجعل من المغرب نقطة ارتكاز أساسية في نفوذها بمنطقة المغرب العربي ومنطقة الشرق الأوسط، حيث المغرب لعب على امتداد عقود دورا تواصليا هاما بين فرنسا والوطن العربي. وتنظر فرنسا إلى المغرب كمجال طبيعي لنفوذها السياسي والاقتصادي والثقافي، وهي مستعدة لخوض أي صراع من أجل إبقائه ضمن فلكها حتى لو كان المنافسان من حجم الصين والولاياتالمتحدة اللتين تبحثان بإلحاح عن موطئ قدم لهما داخل دولة تستمد أهميتها الجيو-إستراتيجية من موقعها كبوابة لإفريقيا ومن روابطها القوية مع منطقة الشرق الأوسط، وخاصة دول الخليج العربي. وتدرك فرنسا جيدا أنه بعد تخلي بريطانيا عن أطماعها في شمال إفريقيا وانسحاب المنافس الروسي من الحلبة بعد سقوط القطب السوفياتي، بدأت أطماع الغول الأمريكي تتقوى منذ بداية القرن الجديد بالمنطقة بعد أن استحوذ قبل سنوات قليلة، على مناطق كانت تعد ضمن نفوذها التقليدي، من بينها دول غرب إفريقيا التي يعتبر المغرب بوابة الفرنسيين إليها. وحتى وإن كانت فرنسا تتقدم حتى الآن على الولاياتالمتحدة في المضمار الاقتصادي والثقافي المغربي بحكم تاريخ العلاقات المشتركة بين باريس والرباط، حيث تعد الشريك التجاري الأول للمغرب وزبونه الرئيسي في الصادرات الزراعية والنسيج والسمك المعلب وبعض مشتقات الفوسفاط، فإنها تخشى مع ذلك أن يجد الخصم الأمريكي في المغرب أرضا خصبة لترويج منتوجاته التجارية والعسكرية وحتى الثقافية. وقد حظي المغرب في العشر سنوات الأخيرة باهتمام أمريكي متزايد توج بإبرام البلدين اتفاقية للتبادل الحر تزامنت مع تسلل عدة شركات أمريكية بعد نجاحها في الحصول على امتيازات اقتصادية بدءا من توريد الأسلحة والمعدات العسكرية إلى قطاعي الطاقة والفلاحة وغيرهما من القطاعات الاستثمارية الأخرى. ولم تنظر فرنسا بعين الارتياح إلى الاهتمام الذي أبداه المغرب بالطائرات الأمريكية إيف 16 وتراجعه عن مقاتلات رافال الفرنسية، حتى وإن حاول المقربون من الرئيس ساركوزي التأكيد على احترام فرنسا للاختيار المغربي، ولاسيما أن باريس ما تزال حاضرة بقوة في قطاعات حيوية مثل مشروع شركة «فيفندي» في اتصالات المغرب ومشروع «دانون» مع مركزية الحليب، فضلا عن مشروع شركة «رونو» ببناء أكبر مصانعها في إفريقيا قرب طنجة باستثمارات تقدر ب600 مليون يورو. غير أن هناك بعض علامات التوتر في العلاقات بين البلدين سببها انفصال مجموعة «أونا» التي تسيطر على أكثر الصناعات المغربية ربحا عن شريكتها «أكسا» الفرنسية للتأمين وعن مجموعة «أوشان» الفرنسية إثر خلاف بشأن خططها الخاصة بمتاجر التجزئة. وتعرضت «فيوليا» و«سويز»، اللتان تديران مرافق للخدمات في الرباط وطنجة والدار البيضاء، لدعاية سيئة بعد احتجاجات بشأن فواتير المياه والكهرباء المرتفعة. العنصر الأمريكي ويثير التدافع الأمريكي الكبير باتجاه المغرب في المجالات الاقتصادية (اتفاقية التبادل الحر) والسياسية (دعم موقف المغرب في الصحراء) والأمنية (التعاون في مجال مكافحة الإرهاب) مخاوف قوية لدى الفرنسيين من أن تخرج الرباط المحسوبة على خطّ الفرنكفونية من قبضتهم وأن تغازل البيت الأبيض المسكون حاليا بهاجس التطرف الديني الممتد من غرب إفريقيا. فإذا كان الفرنسيون يسلمون اليوم باستحواذ واشنطن على مجمل المنطقة الشرق أوسطية التي لا يعتبرونها حاليا من أولوياتهم الجيوسياسية والاقتصادية، فإنّهم لن يقبلوا، مهما كلفهم ذلك من ثمن، أن يكون لواشنطن نفوذ قوي في منطقة المغرب العربي الذي تعتبر الرباط محوره الرئيسي. ومن هنا، فإن الحفاظ على المغرب ومن خلاله على منطقة الغرب الإفريقي، دفع بفرنسا انطلاقا من أواسط الثمانينيات إلى لعب وظيفة محامي «المغرب» لدى الاتحاد الأوربي، الذي أصبح جراء ذلك يعيش حالة استقطاب بين ألمانيا التي تطمح إلى إلحاق دول شرق ووسط أوربا بالمجموعة الاتحادية، فيما تعمل فرنسا على انتزاع بعض المصالح لمستعمراتها القديمة في الضفة الجنوبية للمتوسط، وفي مقدمتها المغرب. ثم إن الاهتمام الفرنسي بالمغرب وبمجموع الدول المغاربية، ليس اهتماما اقتصاديا واستراتيجيا فحسب، بل هو ثقافي وأمني أيضا. ففرنسا تريد الإبقاء على المغرب دولة فرنكفونية إن أرادت الحفاظ على مصالحها الاقتصادية، وهي من هذا المنطلق تعمل ضمن قاعدة أن أحسن من يحافظ على مصالح فرنسا في المغرب العربي، هم المغاربة الناطقون بالفرنسية والمؤمنون بما يسمى قيم الحضارة الفرنسية ومبادئها المثلى. والحديث عن نفوذ فرنسي كبير في المغرب اقتصاديا وثقافيا، حيث الاستثمارات الفرنسية تمثل 60 في المائة من معدل الاستثمارات الخارجية في المغرب، لا يعني بالتأكيد خلو العلاقات الفرنسية المغربية من أزمات بين الفينة والأخرى، أهمها مرتبط بحقوق الإنسان والحريات العامة. ويمكن، في هذا السياق، استحضار غضبة الرئيس دوغول الذي لم يقبل بتاتا أن يحدث اختطاف الشهيد بن بركة في باريس. فكان أن طلب من الحسن الثاني أن يتخذ قرارا واضحا بشأن أوفقير لضلوعه في اختفاء واغتيال الفقيد. ولم يتفاعل الحسن الثاني، بطبيعة الحال، مع رغبة دوغول، فكان أن حدث فتور في العلاقات بين البلدين بعد أن تم استدعاء السفيرين، الأمير مولاي علي من باريس، وروبير جيلي من الرباط. نفس الفتور حصل بين الرئيس ميتران والملك الحسن الثاني بسبب سجن الراحل عبد الرحيم بوعبيد لموقفه الرافض للاستفتاء في الصحراء المغربية. وقد زاد هذا الفتورَ حدة، دعمُ عقيلة الرئيس الفرنسي، دانييل ميتران، لجماعة البوليساريو. المصلحة العليا للدولة غير أن هذه الأزمات أو المعوقات الدبلوماسية التي تطفو، بين الفينة والأخرى، على السطح، ليست سوى تجليات اعتراضية لإرضاء بعض المنظمات غير الحكومية. فالرئيس ميتران الذي انتقد اعتقال وحبس عبد الرحيم بوعبيد، هو من سارع إلى لقاء الحسن الثاني بالمغرب لإعطاء دفعة جديدة للعلاقات بين البلدين غاضا الطرف عن خروقات حقوق الإنسان لأن ذلك يتضارب مع ما يسميه «المصلحة العليا للدولة». وهو ما فعله أيضا الرئيس شيراك أثناء زيارته لتونس والجزائر والتي تلافى فيها الحديث عن الخروقات والانتهاكات التي يرتكبها هذان النظامان في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة، لأن الحديث عنها يتعارض هو الآخر مع «المصلحة العليا للدولة». تلك المصلحة التي جعلت فرنسا تدافع بقوة عن منح المغرب «الوضع المتقدم» الذي هو، كما شرح ل»لمساء» رئيس مجلس الدراسات والتحاليل الاقتصادية لدى الوزير الأول الفرنسي، وضع بين المنزلتين، أي أنه أكثر بقليل من الشراكة، وأقل بكثير من العضوية. ومن حسناته أنه يمنح المغرب امتيازات سياسية عبر عقد قمم أوربية مغربية والمشاركة في العمليات الأوربية لإدارة الأزمات، وأخرى اقتصادية من خلال إقامة مجال اقتصادي مشترك مستوحى من القواعد التي تسير المجال الاقتصادي الأوربي الذي يشمل كلا من الاتحاد الأوروبي وسويسرا والنرويج وإيسلندا. وبذلك، فإن «الوضع المتقدم» وإن كان غير ذي ثقل قانوني إضافي، فإنه يضع المغرب مع ذلك في وضع أكثر تميزا عن البلدان الأعضاء في «سياسة الجوار» للاتحاد الأوربي. ومن شأنه أن يسمح له بالمشاركة في عدد من الهيئات الأوربية مثل يوروغوست (قضاء)، ويوروبول (شرطة)، والوكالة الأوربية لأمن الطيران والمرصد الأوربي للمخدرات والإدمان. قد نفهم، كما فهم البعض، أن في منح المغرب وضعا متميزا في النسيج الأوربي، مكافأةً على انخراطه في مسلسل الإصلاح السياسي. وقد نفهم، كما لا يريد أن يفهم آخرون، أن هذا الامتياز الذي لعبت فرنسا دورا حاسما في تكريسه أوربيا، لم يأت فقط بدافع حسن السلوك المغربي في المجال الحقوقي، بل فرضته بالتأكيد قواعد أخرى أهمها قاعدة «رابح رابح» التي تتقنها البلدان الأوربية أكثر من مثيلاتها في الضفة المتوسطية الجنوبية. فالمغرب هو المجال الجغرافي الأنسب لتأمين الامتداد الطبيعي لأوربا نحو إفريقيا، وهو فوق ذلك يمتلك مفاتيح استقرارها وأمنها باعتباره الشريك الأساسي في محاربة ما تسميه بالإرهاب والقضاء على الهجرة السرية وتضييق الخناق على تجارة المخدرات. عوامل كثيرة تجعل من «الوضع المتقدم» الممنوح للمغرب ضرورة أوربية ملحة وليس فقط وسام رضى توشح به أوربا صدور من نجحوا في حسن السيرة. ومكافأة «الوضع المتقدم» التي منحت اليوم للمغرب ليست أكثر من مدخل ل«أوضاع متقدمة» ستشمل، دون شك بلدان المغرب العربي وجميع الشركاء العرب في الفضاء المتوسطي بما يخدم المصلحة الأوربية بالأساس. وحتى العضوية المغربية في أوربا، المرفوضة حاليا من الوجهة السياسية والجغرافية وحتى الإنسانية، ستصبح ممكنة حينما تستوجب المصلحة الأوربية ذلك. وليس اعتباطا أن طلب الملك الراحل الحسن الثاني من الرئيس ميتران انضمام المغرب إلى الاتحاد الأوربي، وهو من تبنى دائما فكرة السياسة كالفلاحة، كلاهما قائم على فلسفة النضج قبل جني الثمار. وقد بدأت بعض الأصوات الأوربية على غرار وزير الخارجية السابق، روبير فيدرين، والاشتراكي دومنيك ستروس كان، المدير الحالي لصندوق النقد الدولي، تنادي اليوم باتحاد أوربي من القطب الشمالي إلى الصحراء. طريق الرباط إلى أوربا تمر عبر باريس ليس من قبيل المصادفة أيضا أن أعد الملك محمد السادس سنة 1993 أطروحته حول التعاون بين المجموعة الاقتصادية الأوربية واتحاد المغرب العربي، خاصة إذا علمنا بأن مغربيا من كل عشرة يعيش في الخارج، و88 في المائة منهم بأوربا الغربية، أضف إلى ذلك أن عشرة ملايين هم في عداد الفرنكفونيين. قد يكون في هذا التمازج الجغرافي والثقافي ما يبرر التطلع الأوربي إلى المغرب، خاصة وأن تركيا تعتبر نفسها أوربية لمجرد موطئ قدم صغير لها في الجهة الغربية من البوسفور. ثم إن الشروع في بناء نفق بمضيق جبل طارق لتأمين مرور أزيد من خمسة ملايين مغاربي، أي أكبر هجرة موسمية في العالم، قد يؤدي إلى تقوية حظوظ المغرب، ومعه البلدان المغاربية في الانضمام في المستقبل المتوسط ربما إلى الاتحاد الأوربي بدل الاكتفاء بالوضع المتقدم. أليس في الحرص الفرنسي على أن يمنح المغرب وضعا أوربيا متقدما ما يؤكد أن النفوذ الفرنسي في المغرب هو نفوذ حيوي بالنسبة إلى باريس ولا يخرج بالمرة عن معادلة الربح ثم الربح وأخيرا الربح بمنطقة تعيش حالة تمزق وتنافر بين أقطارها، حيث التبادل التجاري لا يتجاوز 5 في المائة من حجم التجارة الخارجية للدول المغاربية الخمس. ويبقى على المغرب، في سياق معادلة الربح، أن يستفيد هو الآخر من الوضع الجديد بالتركيز على ورشتين تهمان تعزيز الاندماج المغربي في السوق الداخلية الأوربية مع الحصول على امتيازات في مجال التصدير، وأيضا دعم التعاون الثقافي والتربوي والعلمي في علاقاته بالاتحاد الأوربي.