نشرت جريدة (الاتحاد الاشتراكي) في عددها 8767 المؤرخ ب14 يناير 2008 بالصفحة الثالثة، نص كلمة الأستاذ محمد اليازغي أمام المجلس الوطني لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، التي ألقاها يوم الأحد 12 يناير 2008. والكلمة المنشورة تعتبر بحق وثيقة هامة على أكثر من صعيد، فبالإضافة إلى كونها مرافعة يدافع من خلالها الأستاذ اليازغي عن مواقفه وممارسته في الظرفية الأخيرة، بل ويدافع عن جزء من تاريخه أيضا، فهي شهادة توثق لجوانب كانت خفية في السياسة المغربية باستمرار، وتفصح عن أسرار بالغة الدلالة. من خلال «وثيقة 12 يناير» أصبحنا نتوفر على مرجع مسؤول لمعرفة بعض مما جرى ويجري في الساحة السياسية المغربية والاطلاع على نموذج للكيفية التي تشكل بها الحكومات في بلادنا. لم يكن الأستاذ اليازغي في شهادته الأخيرة، مقتراً في كشف الأسرار والإفصاح عن الوقائع المرتبطة بكواليس تشكيل الحكومة، كما كان في الماضي، بل ظهر ذ. اليازغي هذه المرة شفافا إلى أبعد الحدود، ربما اقتناعا منه بأن مغادرة موقع الكاتب الأول للحزب تحرره من أي تحفظ في هذا الشأن، وتمنحه حرية الكلام، وتجعله يلقي بهذا الكم من المعلومات والمعطيات دفعة واحدة على مسامع أعضاء المجلس الوطني وهم يعدون بالمئات، تاركا للآخرين بعده تحمل «التبعات» التي كان يخشى تحملها هو شخصيا في الماضي. والمهم أن نشر الكلمة في جريدة الحزب نفسه يسوغ لنا حق استعمالها بدون تخوف من أن نتهم بالاعتماد في نقل كلام الكاتب الأول «السابق» على مصدر غير ذي ثقة قد يشتبه في قيامه بتحريف مضمون ذلك الكلام أو عدم التزام الأمانة المطلوبة في روايته. قبل 12 يناير كان الكثير من الباحثين الذين لا تحركهم إلا حوافز علمية بحتة، يجهدون أنفسهم في البحث والتنقيب عن الأخبار المتعلقة بما يمور به الجسم الاتحادي وبمخاض ولادة الحكومة الحالية، وكانوا يستندون في أغلب الأحيان إلى قراءة بعض المؤشرات وتوليد بعض القرائن وتحليل بعض البيانات الإخبارية المتداولة أساسا في الصحافة المستقلة والتي لا يوجد هناك ما يؤكد صحتها بالضرورة، أما الآن فإن أمامهم على الأقل نصا حزبيا منشورا بصفة رسمية في الجريدة الناطقة باسم حزب الاتحاد الاشتراكي، يفترض أنه قابل للاستعمال بدون تحفظ كبير، إلى أن يثبت العكس عند الاقتضاء. وجدير بالذكر، أن إتاحة الفرصة للكاتب الأول الذي أعلن عن تجميد عضويته في المكتب السياسي، لمخاطبة المجلس الوطني لحزبه وشرح موقفه وسرد تفاصيل المسلسل الذي أفضى إلى إعلان قرار التجميد، ونشر مضمون تدخله، هو في حد ذاته عمل إيجابي عرفته دورة 11 و12 يناير الجاري للمجلس المذكور. وإذا كنا لا نستطيع الجزم بمآل النقاش والتفاعلات الداخلية الجارية بالاتحاد الاشتراكي، فإننا على الأقل نسجل إيجابية الجو الذي خيم على مداولات المجلس الوطني للحزب المذكور، ونسبة الحضور العالية، وكثافة الحوار، وأهمية القرارات الأولية المتخذة، وذلك في انتظار معرفة الطريقة التي ستتم بها لاحقا معالجة الأزمة العميقة والبنيوية التي يعرفها الاتحاد. إن تحليل وثيقة «12 يناير» يسمح لنا ربما بالخروج ببعض الاستنتاجات الأولية: -1 نهاية مرحلة اليازغي: لقد اضطر الرجل إلى تقبل الأمر الواقع، وانتهى إلى الاعتراف بأن مكانه لم يعد على رأس حزبه، وأن صفحة من تاريخ هذا الحزب عنوانها اليازغي قد طويت. كان هذا الأخير واضحا في تصريحه التالي: «لابد من التأكيد أنني غادرت موقعي ككاتب أول للحزب، ولن أعود إليه» و«أؤكد بخصوص المؤتمر الثامن أنني لن أترشح فيه لأية مسؤولية. وأعد أخواتي وإخواني بأنني سأظل في خدمة الحزب والوطن والشعب المغربي». قدم محمد اليازغي لحزب الاتحاد الاشتراكي الشيء الكثير، وكان معروفا بمواظبته وسهره على ضبط الآلة التنظيمية، وساهم بشكل أساسي في بلورة استراتيجية النضال الديمقراطي وفي بناء اللوجستيك الأساسي الحالي للاتحاد، وتحريك قطاعاته وهياكله. وفي خضم ذلك العمل الدؤوب كانت تدب خلافات بين رفاق الدرب استعملت فيها أحيانا، تحت شعار الدفاع عن وحدة الحزب، وسائل مشكوك في نظاميتها. يذكر الأستاذ اليازغي في كلمته أمام المجلس الوطني أن علاقته بالفقيه البصري، إذا كان لا يقول إنها كانت سيئة، فإنها كانت «غير ودية»، ويرجع ذلك إلى الخلاف حول استعمال السلاح ضد النظام، لكن الغريب أن تستمر العلاقة كذلك حتى بعد أن تخلى الفقيه عن مشروع «الثورة المسلحة» ودخل المغرب، بينما احتفظ عبد الرحيم بوعبيد وهو المهندس الرئيسي لاستراتيجية النضال الديمقراطي بعلاقة ودية دائمة مع الفقيه البصري. -2 الوضع الحالي لليازغي هو محصلة عملية إبعاد مرتبة وليس شيئا آخر. ورد في الكلمة أمام المجلس الوطني ما يلي: «لقد اجتهد إخوان لكم في المكتب السياسي في التفكير في كيفية الخروج من الأزمة التي نشعر بها ومعنا الرأي العام. وقد وصل اجتهادهم إلى ضرورة خلق صدمة قوية، وهي الصدمة التي لا يمكن أن تكون إلا برجوعنا إلى القيادة الجماعية التي اعتمدت في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في البداية، من أجل أن تعود الثقة في الاتحاد الاشتراكي. وتعني القيادة الجماعية، بهذا المعنى، أن يكون للحزب مكتب سياسي بدون كاتب أول وبدون نائبه». يستخلص من هذا الكلام أن هناك أزمة وأنها تتمثل في فقدان الثقة في الاتحاد، وأن المعالجة التي تبناها المكتب السياسي ابتداء هي التضحية بالكاتب الأول ونائبه، وهذا توجه خاطئ في نظر الأستاذ اليازغي الذي صرح بأنه قد أوضح من جهته بأنه «مع الصدمة، لكن مع التذكير بأن القيادة الجماعية لن تخرج بنا من الوضعية الحالية». والغريب أن اليازغي يشكك في جدوى وصفة «القيادة الجماعية» أي «مكتب سياسي بدون كاتب أول وبدون نائبه» كما لو كانت اختيارا نهائيا ودائما لبقية رفاقه، فليس هناك عاقل يتصور أنهم يريدون الإبقاء على الوضع الحالي إلى الأبد! -3 اليازغي يقدم نفسه كشهيد الدفاع عن استقلالية القرار الحزبي. يقول اليازغي بهذا الصدد: «اتصل جلالة الملك بالأخ عبد الواحد الراضي وسأله: هل لا يريد اليازغي أن يشارك الاتحاد في الحكومة بوضع شروط تعجيزية؟ فكان جوابي بطريقة غير مباشرة أن الأمر يتعلق بمفاوضات، وأن الوزير الأول يمكنه أن يتفق مع مطالبنا أو لا يتفق»، ثم يعود ليؤكد: «لقد اقترحت علينا وزارات بأسماء اختيرت لنا، ولم نوافق». الفكرة التي يريد الأستاذ اليازغي إبرازها هي أن تشبثه بمطالب الحزب ورفضه توزير وجوه باسمه مملاة من فوق، هو الذي جر عليه سيلا من المتاعب. وبناء عليه، يبدو اليازغي مناصرا لفكرة مبدئية مؤداها أن الحزب هو الذي يقترح وزراءه وليس جهة أخرى، وأن مهمة المفاوض باسمه هي أن يقاتل من أجل ضمان تعيين الوزراء المقترحين حزبيا. لكن فقرات أخرى من كلمة اليازغي تثبت أن تلك الفكرة الجميلة لم تكن أبدا هي المنطلق. يقول الأستاذ اليازغي: «كان إدريس جطو قد التقى بالوزير الأول المعين عباس الفاسي بحضور الأخ فتح الله ولعلو، وخاطبه بالقول: لا يمكن ألا نكون حاضرين في الحكومة، أنا وولعلو لأننا وضعنا التصاميم الأساسية للاقتصاد، وبما أنه يتعذر علي أن أكون، فلابد أن يكون ولعلو ضمن التشكيلة، فطالبنا مجددا بالمالية والاقتصاد، غير أن القرار الملكي كان غير ذلك». إذن لا يذكر اليازغي هنا أنه بذل أي مسعى خاص للإقناع بتعيين ولعلو، أي لمحاولة إعمال قرار حزبي، وبالمقابل فإنه قال: «أما وزارة الدولة فقد كانت إشارة من جلالة الملك ليجيبكم عما طرحتموه عندما طالبتم بمعاملة خاصة تستجيب لوزن حزبكم السياسي. لقد كان إسنادها لنا قراراً ملكيًا استجابة لقرار المجلس الوطني يميز حضوره داخل الحكومة الحالية». عمليا يريد الأستاذ اليازغي أن يقول إن إسناد الوزارة إليه شخصيا باقتراح من فوق هو تشريف للحزب، واقتراح أسماء اتحادية أخرى من فوق هو تدخل يتعين رفضه. إذن هناك ربما كيل بمكيالين، وليس هناك «استشهاد» ولا هم يحزنون، خاصة إذا عدنا إلى تأكيد اليازغي: «لقد تحملت مسؤوليتي كاملة في ما يرجع إلى الأسماء المقترحة، وقدرت أن من الصعب طرح الموضوع للنقاش داخل المكتب السياسي تفاديا للتجريح أو التنابز»، أي بعبارة أخرى أن اليازغي نفسه سيقدر تلقائيا صواب القرار الملكي بتعيينه، ويحرم إخوانه في المكتب السياسي من حق الاعتراض عليه، أو من حق اقتراح الصيغة التي يرونها ملائمة ل«تشريف» الحزب وإيلائه «وضعا اعتباريا خاصا» في الحكومة يطابق «وزنه السياسي»! -4 دور الأحزاب ثانوي في تشكيل الحكومة، فحسب شهادة الأستاذ اليازغي، وبالإضافة إلى الوزراء غير الحزبيين في الحكومة الحالية والمتواجدين فيها بوصفهم لامنتمين، فإن هناك وزراء يتواجدون فيها بوصفهم منتمين فرض على الأحزاب توزيرهم باسمها، يقول اليازغي: «كنا الحزب الوحيد الذي لم تفرض عليه أسماء»، أي أن حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية وحزب التجمع الوطني للأحرار، لهم جميعا وزراء لم يخترهم الحزب، بل اختيروا من خارج الحزب، وخضع هذا الأخير لقرار توزيرهم. هذا يدل عمليا على انعدام التدخل الحاسم للأحزاب في مسلسل تشكيل الحكومات، وأن هذا التشكيل يتم وفق ترتيب مسبق وجاهز تقريبا، لا يؤثر المعطى الحزبي في صياغته إلا جزئيا، وأن الأحزاب عموما لا تحظى بقيمة كبرى ولا بالاعتبار اللازم الذي يطابق وظيفتها. -5 قيادة الملك بصفة مباشرة وشخصية لعملية تشكيل الحكومة: ليس هناك دور أكثر حسما وأعمق تأثيرا من دور الملك. نستخلص من كلام اليازغي أن الوزير الأول المعين أو المستشارين، إنما يساعدون الملك الذي يتولى إنجاز المهام الأساسية لصناعة الحكومة، ولا يحتاج في كثير من جوانبها حتى إلى وسطاء. فالملك هو الذي هاتف اليازغي وأخبره بأن المقاعد التي كانت مخصصة للحركة الشعبية ستوزع على بقية الأحزاب المشاركة، مما يعني الزيادة في حصة كل حزب: «ناداني جلالة الملك وقال لي إن الحركة أخبرته بأنها ستتجه إلى المعارضة، وعليه فإن حقائبها ستوزع على باقي الأحزاب المشاركة».والملك هو الذي رفض إسناد حقيبة المالية إلى ولعلو كما جاء في فقرة سابقة الورود. والملك هو الذي قرر ضم قطاع الاستثمارات إلى وزارة الصناعة والتجارة: «هناك أيضا وزارة الصناعة والتجارة والتكنولوجيا الحديثة، وهي من أهم الوزارات في الحكومة الحالية، خصوصا بعد أن قرر جلالة الملك إلحاق الاستثمارات بها». والملك هو الذي قرر إسناد وزارة الدولة بدون حقيبة إلى اليازغي «تشريفا للحزب»... إلخ. -6 تأثير «قضية الهمة» في مسار الأحداث داخل الاتحاد الاشتراكي: يقول اليازغي: «الساحة الوطنية توضحت، إذ هناك قطب يميني سيضم كل اليمين، وقطب اشتراكي عليه أن يتقوى، ولا يمكنه ذلك إلا إذا اتجهنا نحو بناء ذاتنا وتوضيح مشروعنا واستخلاص العبر، أما الباقي فلا يهمني. فإذا كان هناك من يريد أن ينظم هؤلاء «الليبراليين الحداثيين» فلا يمكن أن ندخل معهم في صراعات دونكيشوطية». وبمعنى آخر، فإذا كانت القيادة الحزبية خائفة من إفرازات ظاهرة الهمة، فلا يمكن، حسب اليازغي، أن يكون هو الضحية، فمواجهة الظاهرة لا يكون بعملية جراحية تجبر الكاتب الأول على مغادرة موقعه. -7 رفض الاتحاد الاشتراكي -في مرحلة أولى- تسلم حقائب وزارية معروفة بالمشاكل المزمنة التي تعشش فيها أو بتأثير تسييرها على وضع الحزب الانتخابي رغم طابعها الاستراتيجي. يقول ذ. اليازغي بهذا الخصوص: «كما اتفق المكتب السياسي على قطاعات يجب تفادي المطالبة بها من قبيل التعليم والمالية والاقتصاد». وإذا كان مثل هذا السلوك ليس غريبا على حزب من اليمين الإداري، فإن صدوره من حزب حداثي يساري تقدمي يمثل أمرًا مفاجئاً تماما ومؤشرا على انحدار خطير. فالحزب في هذه الحالة يترقب الفشل، وهذا يناقض التفاؤل الذي مهر الخطاب الاتحادي في الانتخابات، والحزب عمليا يشكك في قدرته على حل مشاكل المغاربة، وهو الذي أصبح يصر على تقديم نفسه في صورة حزب يمتلك البرامج الكفيلة برفع معاناتهم وتشغيل أبنائهم، والحزب هنا يعطي الأسبقية لحل مشاكله الانتخابية ولو بالتنكر لوظائفه إزاء المشاكل والقضايا العمومية للمغرب كله، وهذا عين اللامسؤولية. بقي أن نشير إلى أن التعليق على الوقائع المروية على لسان الأستاذ اليازغي في «وثيقة 12 يناير» لا يعني الجزم بصحة تلك الوقائع، فالعهدة على الراوي.