كان عام 2007 هو العيد الستين لكل من دولتي الهند وباكستان. والذكرى الستينية في حياة البشر في معظم بلدان العالم هي مناسبة للتقاعد من العمل، وخاصة من الوظيفة العامة في الحكومة والقطاعين العام والخاص. وفي حياة الدول هي نقطة الوصول إلى النضج، ومناسبة لتأمل مسيرة هذه الدولة أو تلك. وقد بدأت في بداية عام 2007 سلسلة من المقالات للتأمل في واقع ومستقبل كل من الهند وباكستان، واللتان ولدتا في نفس اللحظة من وفاض شبه القارة الهندية، بعد أكثر من مائتي عام من الاستعمار البريطاني. ولكن قبل الاستعمار البريطاني كان المسلمون المغول، أحفاد جنكيز خان، يحكمون الهند، بأغلبيتها من غير المسلمين الهندوس والسيخ. ورغم أن الأسر الحاكمة المسلمة شيّدت حضارة متقدمة، كانت «تاج محل» بعاصمتهم «أجرا»، هي أحد رموزها، وهي من عجائب الدنيا السبع. إلا أن دولة المغول الإسلامية هذه لم تصمد في وجه الاستعمار الأوربي الحديث، الذي غزا العالم كله بفضل منتجات ثورته الصناعية، من مدافع وذخائر وبضائع وأفكار. ولكن، كما يقول كارل ماركس، تنطوي كل مرحلة تقدم في التاريخ الإنساني على بذور فنائها. فرغم ما جلبه الاستعمار البريطاني من تحرير الأغلبية الهندية من حكم الأقلية المسلمة، فإن نفس هذه الأغلبية ستنتفض بزعامة المهاتما غاندي إلى أن تجبر الإنجليز على الرحيل. وهنا كان أمام قادة المسلمين، وزعيمهم محمد علي جناح أن يظلوا جزءاً رئيسياً (25%) من الهند المستقلة، مع ضمانات دستورية بالمواطنة الكاملة، وبأحد المناصب الرئاسية الكبرى (رئاسة الجمهورية، أو رئاسة الوزراء، أو رئاسة البرلمان أو رئاسة أركان القوات المسلحة). ولكن القيادات في حزبهم الرئيسي، وهو «الجامعة الإسلامية»، أصر على أن ينفصل المسلمون في دولة خاصة بهم، فولدت باكستان من الأقاليم والولايات التي كان المسلمون يكوّنون فيها أكثر من خمسين في المائة من السكان. وكانت تلك بداية مآسي باكستان. فبداية، كان المسلمون يتركزون في إقليم «البنغال» في شرق الهند، وإقليم البنجاب والسند في غرب الهند. وهكذا ولدت باكستان في شطرين تفصلهما شبه القارة الهندية، بأكثر من ألفي كيلومتر مربع. وأدى بملايين المسلمين والهندوس والسيخ إلى الهجرة القسرية من مواطنهم إلى حيث كانت أغلبية من أبناء ديانتهم تعيش. وفي هذا الهرج والمرج فقد حوالي مليون إنسان حياتهم، وتشرد أكثر من عشرين مليوناً آخرين، ظلوا لعدة سنوات بلا وطن أو مأوى. وسمى المسلمون منهم أنفسهم ب«المهاجرين» ولكنهم ظلوا مهاجرين بلا «أنصار» رغم مرور ستين عاما. ولم يكن الانفصام الجغرافي هو العيب الخلقي الوحيد في الدولة الجديدة، باكستان. ولكن أسوأ من ذلك، تسلط أبناء الإقليم الغربي، واستئثارهم بقسط أكبر من ميزانية التنمية والمناصب الهامة. ومع اختلاف اللغة والعادات بدأ سكان إقليم البنغال في شرق باكستان يتمردون ويطالبون بالانفصال والاستقلال عن غرب باكستان. وبدلاً من أن يعالج قادة غرب باكستان الموقف المتفاقم سلمياً، اختاروا استخدام القوة العسكرية لإخماد الانفصاليين، الذين شجعتهم الهند ودعمتهم، حتى استسلمت لهم القوات الباكستانية الغربية! وأعلن عن ميلاد دولة جديدة هي «بنغلاديش»، برئاسة الشيخ مجيب الرحمن، الذي قاد الحركة الانفصالية عام 1971، أي بعد الانفصال الأول عن الهند ب 24 عاماً. وبعكس الهند، التي حرصت على أن تكون دولة مدنية ديمقراطية، فإن باكستان ظلت تلعب بورقة الدين، التي سيثبت في حالتها، كما في الحالات التي تلاعب فيها الفرقاء بهذه الورقة، أن الخسائر لا تتوقف. فما أسهل وأرخص من المزايدة بالدين. فمن هو الأكثر تديناً؟ ومن هو الأكثر تقوى؟ هل هو الأكثر تعصباً؟ هل هو الأكثر تزمتاً؟ هل هو الأطول «لحية»؟ هل هو من يصر على تطبيق الحدود، وحبس النساء وراء الحجاب؟ هل هو الأكثر استبعاداً «للآخر» غير المسلم، حتى ولو كان قد ولد وعاش على نفس التراب الوطني؟ أما إذا كانت المزايدة في الاستبعاد هي «الإسلام الحق»، فلم لا يستبعد «المسلمون السنة» «المسلمين الشيعة»، بدعوى أنهم «جماعة رافضة»؟، ولم لا يُستبعد المسلمون السُنة «المتصوفة»، مثل «الأحمدية» و«الناقشباندية» و«الجيلانية»؟ إن هذا بعينه ما حدث ولايزال يحدث في ما تبقى من باكستان. وما حركة «طالبان» الأفغانية إلا النموذج الدرامي الاستبعادي التزمتي الذي يُكفر كل من لا يشاركه نفس التزمت. وتكفير المستبعدين، هو الخطوة قبل الأخيرة «لإبادتهم»، أي التخلص منهم جسدياً. وتمثل حركة طالبان، والتي خلفتها المخابرات الباكستانية، نموذجاً فظاً لذلك. ولقد لعبت جميع القوى والمؤسسات في باكستان بورقة الدين في مزايدات غوغائية بلا حدود. وما الاغتيال الأخير لزعيمة حزب الشعب الباكستاني، السيدة بنازير بوتو، إلا أحد تجليات هذه المزايدات، والتي انخرط فيها جهاراً نهاراً، تنظيم القاعدة، وحركة طالبان. بل وأصدر اثنان من زعمائهما إنذارات يتوعدان فيها بقتلها، وهما «بيت الدين مسعود»، و«الحاج عمر». وقال الأخير في رسالة مكتوبة، تسلمتها بنازير، إنه سيذبحها كما تذبح الشاة من رقبتها في عيد الأضحى. وهذان الزعيمان المتطرفان يناهضان كل من يدعو إلى الديمقراطية وتعليم المرأة وتحريرها، أو يتحالف مع الغرب. وكانت بنازير بوتو تجسيماً حياً لكل ما يبغضه هؤلاء المتزمتون، من «أمراء الحرب». فهي امرأة متعلمة في أرقى جامعتين في الغرب، وهما جامعتا أكسفورد البريطانية وهارفارد الأمريكية، وهي أقوى داعية إلى الديمقراطية وحقوق المرأة، فضلاً عن أنها كانت في طريقها إلى كسب الانتخابات النيابية، وتقلد منصب رئاسة الوزراء، للمرة الثالثة خلال عشرين عاماً، وكان ذلك سيكون سابقة لم تحدث في تاريخ باكستان، لأي شخصية سياسية أخرى -رجلاً كان أو امرأة- عسكرياً كان أو مدنياً. طبعاً يظل فريق كبير من الباكستانيين، وخاصة من أنصارها في حزب الشعب، يتجهون بأصابع الاتهام إلى الأجهزة الأمنية الباكستانية، وخاصة جهاز المخابرات المعروف باسم «آي إس آي» (ISI)، والذي يضم سبع هيئات أمنية داخلية وخارجية، وهو جهاز متشعب في كل شرايين الحياة الباكستانية، ويتحكم مباشرة في موارد وأصول مادية هائلة، ويملك حصصاً من أسهم أكبر المصارف والشركات الباكستانية. وهو المسؤول عن خلق ورعاية حركات «المجاهدين» و«طالبان» و«القاعدة»، منذ الثمانينيات، أي منذ حقبة مقاومة الاحتلال السوفييتي لأفغانستان. وكالعادة، فإن خلق هذه الكيانات لا يعني بالضرورة أنها ستظل تحت سيطرة من خلفوها. ولنا في «حماس» عبرة. فقد خلفتهما أجهزة المخابرات الإسرائيلية في الثمانينيات لتكون مناوئة «لمنظمة التحرير الفلسطينية» و«حركة فتح». ولكنها سرعان ما انقلبت على إسرائيل أيضاً. بل إن هذا ما حدث مع التنظيمات الطلابية الإسلامية، التي شجعها ورعاها الرئيس أنور السادات، لمناهضة التنظيمات اليسارية والناصرية المعادية له، ولكنها بعد أن قامت بهذا الدور، انقلبت عليه، حتى أردته قتيلاً في 6 أكتوبر 1981. وعودة إلى باكستان، التي ولدت ولادة دينية قيصرية، فجاءت كياناً مشوهاً، ويزداد تشوهاً بمرور الزمن، ففي نفس الساحة التي اغتيلت فيها بنازير بوتو في أواخر عام 2007، اغتيل أول رئيس وزراء لباكستان وهو لياقت علي خان، في أواخر عام 1951، وأيضاً بواسطة متطرف ديني. وبين الاغتيالين تم إعدام رؤساء وزراء واغتيال رؤساء جمهورية، وحروب مع الجيران من أجل كشمير، وحروب أهلية لرفع مظالم هنا أو هناك، وانقلابات عسكرية متوالية. ومرة أخرى يتم ذلك باسم الدين والإسلام، وهو من كل هذا براء. أما الجارة الهند، فقد مضت في مسيرتها بثبات نحو ستينيتها الأولى، ديمقراطية مدنية، بانتخابات منتظمة في مواقيتها، مثل ساعة سويسرية، وبلا انقلاب عسكري واحد، خلال ستين عاماً. لذلك لا عجب أن يشهد العالم كله المعجزة الهندية الاقتصادية والتكنولوجية، واللتين تؤهلاها للانضمام إلى نادي الكبار الأعظم في القرن الحادي والعشرين. إن وقف فصول المأساة الباكستانية قد يتطلب إعادة النظر في «شهادة ميلادها». فالدولة الدينية لا مكان لها في القرن الحادي والعشرين. وما ينطبق على باكستان ينطبق على إسرائيل، التي ولدت مشوهة أيضاً بعد باكستان بسنة واحدة. إن المستقبل هو للدولة «المدنية التعددية»، التي تعطي كل من يولد أو يعيش على أرضها نفس حقوق المواطنة المتساوية. وربما يكون الأفضل للباكستانيين أن يعودوا للعيش في كنف أكبر ديمقراطيات العالم، وهي الهند. والسؤال هو: هل تقبل الهند عودة باكستان إلى حماها؟ إن الله أعلم