نشرت جريدة «المساء» في عددها الصادر بتاريخ 05-06/01/2008، مقالاً للكاتب المصري سعد الدين إبراهيم بعنوان «باكستان... المأساة»، وقد أعدت قراءته أكثر من مرة في محاولة لفهم ما يرمي إليه بالضبط، فلم يعلق في ذهني منه إلا مهاجمة الحركات الإسلامية عموماً وإلصاق كل التهم الممكنة بها. فمأساة باكستان، بالنسبة إلى الكاتب، نابعة من كونها دولة قامت على أسس دينية، وكل المصائب التي حلت بباكستان منذ نشأتها إلى اليوم هي على خلفية دينية، بينما جارتها الهند، والغرب عموماً ينعمون في الديمقراطية والرخاء لأنهم لم يجعلوا للدين دوراً في الحياة السياسية، ولأنهم اختاروا أن يكونوا دولاً ديمقراطية مدنية... ثم ختم الكاتب مقاله باقتراح حل سحري لمآسي باكستان، وهي أن تعاود الانضمام إلى الهند كي تنعم بالعيش في «كنف أكبر ديمقراطيات العالم». إن قارئ المقال يدرك بوضوح الرغبة المستميتة للكاتب في مهاجمة الحركات الإسلامية، وكمثال بسيط على هذه الاستماتة استباقه لكل التحقيقات بالإعلان عن أن تنظيم القاعدة وحركة طالبان هما المسؤولان عن اغتيال بنازير بوتو، رغم أنهما نفيا مسؤوليتهما عن ذلك مع كونهما لا يتورعان عن تبني ما يقومان به. إلا أن المفارقة هي أن الكاتب، وفي نفس الوقت الذي يتهم فيه القاعدة وطالبان بالعملية، نجده في الفقرة الموالية من مقاله يقول إن فريقاً كبيراً من الباكستانيين، وخاصة من أنصارها في حزب الشعب، يتجهون بأصابع الاتهام إلى المخابرات الباكستانية! فمن نصدق إذن؟ الكاتب أم أنصار بوتو؟ وهل الكاتب أحرص على بوتو وأدرى بالحقائق من أنصارها والذين حضروا اغتيالها؟ لقد حاول الكاتب باستماتة دائماً أن يجعل أس مشاكل باكستان هي أنها قامت أصلاً على أساس ديني (يقصد انفصال المسلمين عن الهند بعد الاستقلال عن الإنجليز)، وهنا نذكر الكاتب ببعض الحقائق التي لعلها تكون قد خفيت عليه. إن الهند هي أرض إسلامية، وصلتها طلائع الفتح الأولى سنة 15ه / 636م في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وظلت الهند ولاية إسلامية زمن الخلافتين الأموية والعباسية يحكمها والٍ يعينه خليفة المسلمين، إلى أن ضعفت الدولة العباسية في أواسط القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، والذي يجب ذكره هنا أن المسلمين، بقيادة بقايا الدولة المغولية، هم الذين شكلوا رأس الحربة في مقاومة الاستعمار البريطاني، ولم تصبح الهند مستعمرة بريطانية إلا بعد أن استطاعت بريطانيا القضاء على ما سمي الاعتصام الكبير الذي كان يتزعمه المسلمون، ومن ثم عزل آخر سلاطين مغول الهند المسلمين سراج الدين أبو المظفر بهادر شاه الثاني في 13 شعبان 1274 ه / 30/03/1858م. عادة خبيثة إلا أن بريطانيا على عادتها الخبيثة، وبدل أن تعيد الحكم إلى من انتزعته منهم ابتداء، سلمت الحكم بعد خروجها إلى الهندوس بقيادة المهاتما غاندي. لذلك فقد أحس المسلمون بالغبن حين أرادت بريطانيا الخروج، فهم الأسياد وهم من حكموا البلاد لقرون، لكن الاستعمار تواطأ ضدهم وسلم الحكم لغيرهم. أما عن الانفصال الذي حصل في الهند ونشأت بسببه باكستان، فهناك مثل مغربي يقول إنه «لا أحد يهرب من دار الفرح»، أي أن المسلمين لم يكونوا ليطالبوا بالانفصال لو أنهم كانوا يحسون أن الدولة الهندية الناشئة ستضمن حقوقهم، وتحسن إليهم، فاللوم لا يقع عليهم، وإنما يقع على الذين لم يتركوا لهم خياراً إلا طلب الانفصال. أورد حسين مؤنس في كتابه «أطلس تاريخ الإسلام» ما يلي: بعد أن شرع الإنجليز في إنشاء نيودلهي عاصمة الهند الجديدة، حرصوا على إبعاد المسلمين عن كل الوظائف ذات المسؤولية، ووضعوا مكانهم هندوساً وسيخاً ومن إليهم، واتخذوا سياسة معادية للإسلام، حتى أعلن اللورد إلن بورو أن العنصر الإسلامي في الهند هو عدو بريطانيا الأكبر، وأن السياسة البريطانية في الهند ينبغي أن تقوم على تقريب العناصر الهندوكية للتغلب نهائياً على سلطان المسلمين، وأصدروا قوانين لتملك الأراضي الزراعية، جعلوا فيها حق التملك شائعاً بين الهنود وغير الهنود، ووضعوا أيديهم بذلك على أراض شاسعة كان المسلمون يملكونها، وطُرد المسلمون من أراضيهم، وأُعطي جباة الضرائب من الهنود حق تملك الأراضي التي يستطيعون انتزاعها من أيدي المسلمين، وتلك هي الأسباب الحقيقية التي دفعت المسلمين إلى التجمع في بلاد السند والبنجاب وكشمير والبنغال وإعلان عزمهم على إنشاء دولة خاصة بالمسلمين في الهند، لأن العداوة التي ألقاها البريطانيون في قلوب الهندوك والسيخ نحو المسلمين جعلت من المستحيل على المسلمين الخضوع لدولة يرأسها الإنجليز والهندوك وغيرهم من الأجناس والضحية الوحيدة فيها هم المسلمون. وبالفعل، فقد أساءت الهند معاملة من بقي لديها من المسلمين، واعتبرتهم أقلية من الدرجة الثانية أو الثالثة رغم أن عددهم يفوق الآن المائة مليون شخص، والمآسي التي تعرض لها المسلمون في الهند منذ نشأتها أكثر من أن تحصى، آخرها هدم المسجد البابري (ديسمبر 1992) وما رافقه من مجازر بشعة راح ضحيتها الآلاف، ومأساة غوجارات (فبراير 2002)، ومذابح المسلمين المستمرة في كشمير... باكستان العلمانية إلا أن انفصال المسلمين عن الهند، وإن كان تم على أساس ديني، فإنه لم يقدر لأهل باكستان أن ينشئوا دولة إسلامية حقيقية، فقد بقيت باكستان على ارتباطها ببريطانيا القوة الاستعمارية السابقة، وأنشأت بريطانيا دولة باكستان ورجالاتها على عينها لتكون دولة علمانية كباقي دول العالم الإسلامي، وأكبر مثال على ذلك بنازير بوتو نفسها التي يكيل الكاتب المديح لها والتي تقلدت منصب رئاسة الوزراء مرتين (1988-1990 و1993-1996) والتي كانت تجاهر بعلمانيتها وعدائها للإسلام السياسي، ومن الأمثلة على ذلك أيضاً حاكم باكستان الحالي مشرف الذي ارتمى في أحضان أمريكا كلياً وانخرط في حربها على الإرهاب على طالبان في أفغانستان وعلى أتباعها وأنصارها في باكستان، فكيف إذن تنسب مآسي باكستان إلى الإسلام أو إلى الحركات الإسلامية؟ أما كون الحكام يستغلون الإسلام لإقصاء خصومهم أو إضعافهم، فإن الذي يجب اتهامه هو الحكام وليس الإسلام، ففي الأنظمة التي تدعي الديمقراطية، يتم تزوير الانتخابات، وإنشاء برلمانات مزيفة تسن للحاكم ما يشاء من قوانين، ومع ذلك فإن الديمقراطية لا تتهم، ولكن يتهم من أساء استعمالها، علماً أن آليات الحكم في النظام الديمقراطي هي التي يسرت للحاكم السيئ الانحراف. ثم إن معظم الاغتيالات والإعدامات السياسية والانقلابات العسكرية التي شهدتها باكستان لم تكن على خلفية دينية، ولكن على خلفية الصراع الشخصي بين أجنحة الحكم والطامعين فيه، وعلى خلفية التنافس الدولي للسيطرة على باكستان، فإعدام ذو الفقار علي بوتو في أبريل 1979 تم في إطار تصفية الحسابات مع نظام ضياء الحق الواصل إلى الحكم بانقلاب عسكري، واغتيال شاه نواز بوتو الأخ الأصغر لبنازير بوتو في منتجعه في الريفيرا الفرنسية عام 1985 عمل استخباراتي تقف من ورائه دولة، ومقتل الرئيس الجنرال محمد ضياء الحق في تفجير طائرته عام 1988 عمل لم يتورع الكثيرون عن الإشارة إلى دور المخابرات الأمريكية فيه، واغتيال مرتضى بوتو تم في تبادل لإطلاق نار مع الشرطة الباكستانية في سبتمبر من عام 1996... فكيف، مرة أخرى، تلصق تهمة الاغتيالات بالإسلام والحركات الإسلامية؟ وأما إن كان الكاتب يتحدث عما يجري من اقتتال داخلي، فهو وإن كان يتم على خلفية دينية، فإنه يجب التقسيم فيه بين أمرين: اقتتال على خلفية مذهبية (سنية/شيعية)، وهذا الاقتتال شبيه بما يجري في العراق، ولا يخفى على أحد القاسم المشترك بين البلدين وهو النفوذ الأمريكي، أي أن أمريكا هي التي تغذيه، والهدف واضح لم يعد يخفى على أحد، بل ولم تعد تخفيه أمريكا نفسها، هو الدفع باتجاه تقسيم باكستان، وأما الاقتتال بين الجماعات الجهادية الكشميرية أو المرتبطة بالجهاد الأفغاني وأجهزة الدولة، فإن النظام في باكستان منذ نشأته تبنى قضية كشمير، وهي قضية عادلة، ومد يد العون للجماعات الجهادية، بل إن مشرف نفسه قام بانقلابه العسكري لإزاحة نواز شريف بتهمة خذلانه للمجاهدين في اشتباكات مرتفعات كارغيل عام 1999، لكن مع انطلاق الحملة الأمريكية على ما يسمى الإرهاب، ورغبة أمريكا في تصفية كل الجماعات الجهادية، قامت باكستان بقطع علاقاتها مع الجماعات الكشميرية، بل وانقلبت عليها واتخذتها عدواً، فكان من الطبيعي أن تنتفض هذه الجماعات ضد الدولة، وأما الجماعات المرتبطة بالجهاد الأفغاني، فإن باكستان مرة أخرى كانت تتبنى هذه الجماعات وتهيئ لها الدعم المادي واللوجستي طيلة الحرب ضد الغزو السوفيتي، وبعد انسحاب الغزاة، تبنت باكستان طالبان بل ودفعت مرتبات موظفيها، لكن ومرة أخرى، بعد أن قررت أمريكا تغيير سياستها تجاه الحركات الإسلامية بعد ضربات 11 سبتمبر، انقلبت باكستان على هذه الجماعات، وأمعنت فيهم قتلاً وأسراً، وهدمت الدور والمساجد فوق رؤوسهم، وفتحت أجواءها للطائرات الأمريكية لقصف مواقعهم ومناطق تجمعهم، فكان من الطبيعي أيضا ًأن تنتفض هذه الجماعات ضد الدولة. ثم من قال إن خيار الهند سلوك درب الدولة المدنية الديمقراطية، قد جعلها تسير دون تعثرات مثل ساعة سويسرية كما يقول الكاتب، ألم تشهد الهند اغتيال مؤسسها الروحي المهاتما غاندي على يد متطرف هندوسي في 30/01/1948، ثم اغتيال رئيسة الوزراء أنديرا غاندي على يد متطرف سيخي في 31/10/1984، ثم اغتيال راجيف غاندي على يد امرأة انتحارية من مقاتلي نمور التاميل السيريلانكيين في 25/05/1991؟ أي أن مؤسس الهند واثنين من رؤساء وزرائها قد تم اغتيالهم في ظرف أقل من خمسين سنة، فهل يعتبر هذا سيراً عادياً بل ومثالاً يجب أن يحتذى؟ ولماذا يتهم التطرف الإسلامي ويبرئ التطرف السيخي والهندوسي؟ وكخاتمة لمقاله، يقول الكاتب إن الدولة الدينية لا مكان لها في القرن الواحد والعشرين، وهنا أود أن أطرح سؤالاً عن المقصود بالدولة «الدينية»، وما هو هذا الدين الذي يطمح أصلاً للوصول إلى الحكم؟ فأما المسيحية واليهودية، فلا أعلم تنظيماً ولا جماعة تدعوان إلى إنشاء دول على أساسيهما، والسبب راجع إلى أن الغالبية الساحقة من معتنقي هذين الدينين يتبنون العلمانية التي تقضي بفصل الدين عن الدولة، وبالتالي فهم لا يطالبون بإقامة دولة «دينية»، وحتى لو أرادوا ذلك، فإن الكل يعلم أن تعاليم هذين الدينين لم تحتو إلا على أحكام متعلقة بالأخلاق والمطعومات والمشروبات، ولا تتطرق إلى الأحكام اللازمة لتسيير أمور الدولة، من اقتصاد وسياسة داخلية وخارجية وقضاء... وما ينطبق على المسيحية واليهودية ينطبق على باقي الديانات البشرية الوثنية من حيث كونها ديانات تفتقر إلى الجانب المنظم لشؤون الدولة. فلم يبق إذن إلا الإسلام، وبالفعل فالمسلمون وحدهم الذين يتدافعون في كل أنحاء العالم الإسلامي لإيجاد دولة إسلامية تطبق أحكام دينهم، لذلك فقول الكاتب إن الدولة الدينية لم يعد لها مكان في القرن الواحد والعشرين لا يمكن أن يفهم منه إلا أن الدولة الإسلامية هي المقصودة، أي أن الدولة الإسلامية في نظر الكاتب هي التي لا مكان لها في القرن الواحد والعشرين. الدول المثالية وهنا أسأل الكاتب وأمثاله من الذين يرددون هذه المقالة، ولا يخفون معارضتهم لقيام دولة إسلامية: ماذا تنقمون من الدولة الإسلامية؟ وما هو هذا الشر المستطير الذي جلبته حتى تجندوا أقلامكم وألسنتكم لمهاجمتها؟ ألم تكن الدولة الإسلامية مشعل نور وهداية ورحمة للبشرية معظم عمرها، وهل تعاملت الدولة الإسلامية يوماً مع الشعوب المفتوحة بمنطق الاستعمار والنهب؟ أليس دخول الملايين من الشعوب المفتوحة في دين الإسلام وثباتهم عليه إلى الآن، رغم انقراض الدولة الإسلامية منذ عقود، أكبر دليل على سماحة الدين وعدل حكامه؟ وهل عرف العالم الحروب العالمية المدمرة إلا بعد زوال الدولة الإسلامية؟ وهل عرف العالم شيوع الفاحشة والرذيلة وأنواع المخدرات إلا بعد أن ضمر نفوذ الدولة الإسلامية وسيطرت مفاهيم الغرب وأفكاره؟ ثم ما هو النظام البديل الذي تدعوننا إليه وتبشروننا به؟ إن كانت الأنظمة القمعية في عالمنا العربي والإسلامي، فالأمر لا يحتاج إلى جواب، وإن كانت الأنظمة الغربية هي المقصودة فإن أنظمتنا القمعية هي إحدى ثمارها غير المباشرة، وأما ثمارها المباشرة، فهي مئات الآلاف من القتلى في العراق وأفغانستان، وشلالات الدماء في فلسطين، وعشرات الحروب الأهلية في العالم التي تحرق الأخضر واليابس، ويقف الغرب مباشرة من ورائها لتنشيط تجارة السلاح وإضعاف الدول لتسهيل السيطرة على مقدراتها. أما أن تكون الهند هي المثال المحتذى، وأن يكون حل «مأساة» باكستان بالانضواء في كنفها، فإنني كنت أتوقع من الكاتب أن يكون سقف طموحاته أرفع بقليل، فالهند التي لايزال شعبها يجهض الأجنة الإناث بالملايين أو يئدهن بعد ولادتهن، إلى درجة يختل معها الهرم السكاني، والهند التي تتعطل حركة السير فيها لمرور بقرة، ويقف الناس في الشارع للاغتسال ببولها، والهند التي يقدس شعبها الفئران والقرود ويسجدون للتماثيل والأصنام... إن دولة كهذه لا تصلح لكي تكون مثالاً يحتذى به حتى لشعب لا حضارة له، فكيف بالمسلمين الذين أكرمهم الله بعقيدة التوحيد وبنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وصنع أجدادهم مجداً وحضارة لم تعرف البشرية في تاريخها مثالاً لها. إن هذا الأوان، على عكس ما يقول الكاتب، هو أوان الدولة الإسلامية، والبشرية قد ذاقت الأمرين وقاست القهر والظلم والحرمان أصنافاً تحت حكم المبدأين الشيوعي والرأسمالي، وهي الآن مهيأة بل ومتشوقة للدولة الإسلامية التي ستنشر العدل من جديد، وتعيد بث الحياة في قيم الخير والأخلاق التي قتلتها الحضارة الغربية.