في أعقاب الهجمات التي هزت باريس في 13 نوفمبر الماضي، أعلنت الشرطة الفرنسية أنها عثرت على جواز سفر سوري قرب جثة أحد المهاجمين، اتضح فيما بعد أنه مزور. وبعد أيام على ذلك، أعلنت الشرطة الصربية أنها اعتقلت شخصا يحمل جوازا سوريا يتضمن نفس بيانات الجواز الذي عثر عليه في باريس، واتضح بأنه هو الآخر مزور. لم يكن أحد يجهل قبل ذلك بأن جواز السفر السوري صار الأكثر تزويرا في العالم، غير أن حجم التزوير وخطورته على أمن العالم فتح العيون على حقائق محرجة ظل الجميع يتجاهلها. فبدأت التحقيقات الصحافية والأمنية تتوسع في الموضوع، ومعها بدأ العالم يعي بأن تزوير الهويات وجوازات السفر أصبح تجارة مزدهرة، تدر على أصحابها أرباحا طائلة تفوق حتى ما تدره تجارة السلاح. وأكثر زبائنها المتخفين بين اللاجئين السوريين هم لاجئون عرب من شمال إفريقيا والشرق الأوسط، يوجد بينهم اللاجئ الإنساني، واللاجئ الاقتصادي، واللاجئ الإرهابي. فيما يلي عين على تجارة لا كباقي التجارات.. الجواز السوري هو الأغلى بدأ تزوير جواز السفر السوري قبل سنوات قليلة، وبدافع أسباب محض إنسانية في البداية. فقد تفاقمت معاناة السوريين بعد مرور أول عام من عمر الثورة السورية، عندما انتهت صلاحية آلاف جوازات السفر، ووجد أصحابها أنفسهم مقيدين إما داخل الأراضي السورية الممنوعين من مغادرتها، أو كلاجئين في دول الجوار وممنوعين من السفر في جميع المطارات الدولية. وكان الخيار الوحيد الذي وجدوه متاحا هو تزوير جوازاتهم، في مقابل مبالغ مالية كبيرة بالنظر إلى وضعهم. ومما ساعد على ذلك، أن بعض مراكز «الهجرة والجوازات» السورية الرسمية كانت تعرضت للنهب، بعد أن تمكنت فصائل معارضة من الاستيلاء عليها، في مدن مثل إدلب وحلب. بيد أن الجواز السوري لم ترتفع أسهمه في السوق السوداء إلا بعد أن فتحت بعض الدول الأوربية أبوابها للاجئين السوريين، الأمر الذي وجد فيه كثيرون من جنسيات أخرى فرصة للحصول على وضع لاجئ، في أحد البلدان الأوروبية، التي تستقبلهم بعد تقديم إثباتات سورية. والحال أن تلك الإثباتات تكون في الغالب مزورة، إما جواز سفر، أو بطاقة هوية، أو شهادة سياقة، أو غيرها من الوثائق الأخرى مثل شهادات الثانوية أو الجامعة أو دبلومات. على هذا النحو، ازدهرت شبكات المزوّرين في سوريا ولبنان والأردن، وخصوصا تركيا، حيث قامت بعمليات تزوير كبرى همت مئات آلاف الجوازات السورية، وباعتها للاجئين السوريين وأيضا لمغاربيين ومصريين وعراقيين وغيرهم. وبالنتيجة وجدت أوروبا، التي فتحت باب اللجوء الإنساني مضطرة أمام المنكوبين السوريين، نفسها غارقة في بحر بشري بلا نهاية. وتقدر تقارير إخبارية أوروبية مطلعة عدد تلك الشبكات النشطة في تزوير جواز السفر السوري بالعشرات، منتشرة في البلدان المشار إليها. وهي تكسب المليارات، إذ يتراوح سعر بيع الجواز المزور الواحد، لأي شخص ومن أي جنسية في العالم، بين 1500 و5000 دولار. وقد بات معروفا اليوم أن مصالح جوازات السفر الواقعة تحت سلطة النظام السوري نفسها تصدر جوازات سفر مزورة، بوساطة وسطاء يتقاضون في المعدل 300 دولار، بينما يتقاضى مسؤولو مصالح الجوازات 2000 دولار عن كل جواز سفر يصدرونه مزورا. بمعنى أن الجواز يكون صحيحا، لكن يتم ملؤه ببيانات حول صاحب الجواز لا تكون صحيحة. كما كانت أنباء راجت قبل نحو شهر من اليوم، كشفت عن ارتفاع مداخيل النظام السوري من كثرة الإقبال على الجوازات التي ما زال يصدرها. وهكذا، فمع تنامي الأرباح الهائلة لتجار وثائق السفر خارج وداخل سوريا، دخل نظام الرئيس الأسد بدوره على خط المتاجرة في جوازات السفر، التي يفترض أنه مسؤول عن إصدارها. فقد نقلت جريدة «الوطن» الموالية للأسد مؤخرا، عن مدير إدارة الهجرة والجوازات في دمشق، بأن مداخيل إدارته من رسوم الجوازات من خارج سوريا قد بلغت أكثر من 521 مليون دولار العام الجاري. وأوضح المسؤول نفسه أن تلك الواردات المالية الكبيرة تحصلت جراء ارتفاع الطلب على جوازات السفر السورية، التي سلمت سلطات بلاده منها 829 ألف جواز سفر داخل وخارج البلاد، منذ مطلع العام الحالي، وذلك بمعدل 3000 جواز سفر يوميا. وتدفع كل هذه المعطيات إلى تفهم لماذا أصبح ادعاء الانتساب إلى سوريا «موضة»، يتهافت عليها كل الحالمين بولوج «الفردوس» الأوروبي.. الجميع أصبحوا «سوريين» فجأة! في أوائل سبتمبر الماضي، كشف مدير الهيئة الأوروبية لمراقبة الحدود، فابريس ليجيري، أن «جوازات السفر السورية أصبحت بمثابة تذكرة دخول إلى الاتحاد الأوروبي، لأنها تمكّن حامليها من حق اللجوء إلى أوروبا». وكشف ليجيري عن وجود عصابة من مهربي البشر في تركيا تتاجر في تهجير غير السوريين إلى بلدان الاتحاد الأوروبي، مضيفا أن» مستخدمي هذه الجوازات يتكلمون العربية، لكنهم قد يكونون من دول أخرى في الشرق الأوسط أو شمال إفريقيا، يرغبون في الهجرة إلى أوروبا لأسباب اقتصادية». والواقع أن كثيرا من هؤلاء الذين يتسللون بين اللاجئين السوريين ويستغلون محنتهم من أجل ولوج أوروبا دون حواجز، لم يتركوا وراءهم بلدانهم مدمرة ولا محترقة. إنهم بكل بساطة ينتمون إلى ما يسمى بالمهاجرين الاقتصاديين. فهم يتحملون مخاطر جسيمة للوصول إلى أوروبا بحثاً عن حياة أفضل، ولكن لا يتم الترحيب بهم مثلما يرحب بالفارين من مناطق الصراعات، كسوريا والعراق وإريتريا. ولهذا السبب يزعمون بأنهم لاجؤون سوريون. وكانت صحيفة «واشنطن بوست» كشفت في تقرير نشرته في شهر سبتمبر الماضي، بأنه مع تدفق موجة اللاجئين السوريين الذين يطلبون اللجوء بأوروبا، أصبح يتسلل بينهم مهاجرون إيرانيون، وباكستانيون، ومصريون، وصوماليون، وأيضا من كوسوفو. وتشير تقارير أخرى وأشرطة فيديو على الإنترنت إلى تسلل مغاربيين (بينهم مغاربة) بين اللاجئين، يزعمون بأنهم سوريون. وعلى طريق الهجرة يقوم هؤلاء المهاجرون من غير السوريين بتمزيق جوازاتهم الحقيقية، وشراء أخرى سورية في تركيا. وكان صحفيون، من بينهم واحد عربي الأصل، كشفوا بأنهم أثناء تجوالهم في محطات القطارات في العاصمة النمساوية فيينا، فوجؤوا بكون الكثير من اللاجئين لم تتطابق لهجاتهم مع قصص معاناتهم. ويقدر المسؤولون الألمان هذا العام أن ما يقرب من ثلث طالبي اللجوء ادعوا زوراً أنهم سوريون. وكان شاب جزائري يبلغ من العمر 27 عاما ويدعى حمزة، صرح لأحد أولئك الصحفيين في فيينا، بأنه عندما كان هو ورفاقه في تركيا مزقوا جوازات سفرهم، ثم اختلطوا باللاجئين السوريين. وأردف موضحا: «من السهل السفر الآن مع هؤلاء اللاجئين، فقد وجدنا الغذاء والمأوى والترحاب من الناس في أوروبا. على الأقل حتى الآن». وعلى الطريق إلى أوروبا تنتصب تركيا اليوم بوابة لا بديل عنها… تركيا.. جنة المزورين في تقرير سبق أن نشرته قبل أسابيع، أشارت مجلة «البريد الدولي» إلى أنه في الجهات الأربع لتركيا، من إسطنبول وحتى طلوش، تعرض مختلف الوثائق السورية، من بطائق الهوية، وجوازات السفر، ورخص السياقة، والشهادات التعليمية، للبيع في مكاتب ومتاجر وحتى في الشارع. والحقيقة أن السمعة غير الودية التي كسبتها تركيا لدى الرأي العام الأوروبي، باعتبارها منصة كبرى لتزوير الوثائق المختلفة للمهاجرين، قد أغرت كثيرا من الصحفيين الأوروبيين بإجراء تحقيقات وقفوا خلالها على وقائع مثيرة. وهكذا، فقد دفع مراسل صحيفة «الديلي ميل» البريطاني مبلغ 2000 دولار وحصل على جواز سفر سوري، ومعه بطاقة هوية ورخصة قيادة. استطاع شراءها جميعها بذلك المبلغ في تركيا. وقبل شهرين، نشرت صحيفة دانماركية تقريرا من تركيا أفاد فيه مراسلها بأنه في إمكان أي كان الحصول على جوازات سفر سورية مزورة من الأسواق الإسطنبولية. وأكد استنادا إلى مخبر محلي، بأنه يتم تقديم رشاوى لعناصر الأمن الأتراك، من أجل غض النظر. كما كشف المراسل ذاته أن عشرات من اللاجئين يتجمعون مساء كل يوم في ميدان آكسراي بإسطنبول، على أمل اللجوء إلى أوروبا، وفي جيوبهم جوازات سفر سورية مزورة اشتروها من تركيا. وكان صحفي آخر يعمل في صحيفة تلغراف البريطانية، ادعى بأنه مصري يريد الهجرة إلى أوروبا عندما قام بالاتصال برقم تم نشره بإحدى الصفحات على موقع «فيسبوك»، وكان لمهربين أتراكا عرضوا عليه تزوير وثائق سورية مقابل 1000 دولار، مع إمكانية تهريبه من تركيا إلى اليونان مقابل 800 دولار أخرى. وفي تحقيق نشرته جريدة «الجمهورية الجديدة» التركية، كشف مهرب سوري يبلغ من العمر 38 عاماً ويعرف بلقب (ملك الشواطئ) للصحفي عدداً كبيرا من الوثائق التركية والسورية والأوروبية المزورة التي كانت بحوزته ويتاجر بها، قيمتها بآلاف الدولارات. وفي العام الماضي، قام مراسل صحيفة «فوكاتيف» بإجراء مقابلة مع مهرب في السوق السوداء يبيع جوازات سفر سورية مزورة، على الحدود التركية السورية، وأخبره بأن سعر الحصول على جواز سفر جديد هو 1800 دولار. المهرب الذي التقاه الصحفي في مقهى تركي، عرض عليه كومة من جوازات السفر على الطاولة، وشرح له جل أشكال التزوير التي يجريها على الجوازات. وتشمل تغيير الصور، وإدخال أسماء جديدة، وصفحات تأشيرات نظيفة، وتغييرا لتاريخ انتهاء الصلاحية، الخ. كما أخبره بأنه في بعض الأحيان يشتري جوازات شرعية من سوريين مفلسين، ليزورها بهويات مغايرة. على أن الأخطر في موضوع استفحال تجارة تزوير جوازات السفر بتركيا هو ما سبق أن كشفت عنه وسائل إعلام تركية الربيع الماضي، وهذه المرة لم يتعلق الأمر بتزوير الجوازات السورية. فقد أدلى مواطن تركي عضو بشبكة تنشط في مجال تزوير جوازات سفر تركية من أجل تسليمها لأعضاء تنظيم «داعش» الإرهابي خارج البلاد، بتصريحات خطيرة لصحيفة «ميدان» التركية، أكد فيها بأنه عمل على تزوير 100 ألف جواز سفر تركي وأرسلها إلى الخارج، بينها 50 ألف جواز بعث بها إلى الصين .وأكد المصدر نفسه بأن مدينة إسطنبول تعتبر مركزا لإصدار جوازات سفر تركية مزورة، تسلم لتنظيم» داعش»، الذي يرسلها بدوره لأعضائه المنتشرين في دول العالم. وأضاف أن سعر هذا النوع من جوازات السفر المزورة زهيد لا يزيد عن 200 دولار. ربما لأن الجواز التركي لا يتيح دخول بلدان أوروبا. في ظل هذا الوضع المستفحل بتزوير الجوازات على نطاق واسع، يبدو قرار فرض بعض الدول اعتماد الجواز الإلكتروني، الذي يقال بأنه يستحيل على التزوير، هو المخرج لضمان أمن بلدان العالم حتى الجواز الإلكتروني يُزَوَّر ! في أعقاب هجمات باريس الأخيرة، أعلنت فرنسا تعليق العمل برفض المسافرين الوافدين إليها والحاملين لجوازات سفر «تقليدية»، مشترطة الجوازات الإلكترونية (البيومترية). فالاعتقاد السائد أن هذا النوع من الوثائق يستحيل تزويره، أو على أقل تقدير يعتبر تزويره أمرا بالغ الصعوبة. فما صحة ذلك؟ حاولنا من جانبنا تجريب الأمر. نقرتان على موقع للبحث كانتا كافيتين لبلوغ المقصود. فقد عثرنا على إعلان في شكل فيديو على موقع للتواصل. كان صاحب الإعلان، الذي لا يظهر وجهه، يقلب بيديه ومن دون كلام، صفحات بكرا لجواز سفر إلكتروني جديد يبدو أصليا، ويشير غلافه إلى أنه بريطاني. وأسفل الفيديو يوجد ثمة عنوان إلكتروني للاتصال.! مبدئيا، يفترض في جواز السفر الإلكتروني أنه وثيقة سفر متطورة جدا، إذ يحتوي على شريحة إلكترونية تحمل بيانات شخصية وبيوومترية [رقمية] مشفرة تتعلق بصاحب الجواز، وتشمل كذلك بصماته وتوقيعه وصورة متحركة له وفق المعايير الدولية لمنظمة الطيران الدولية. ومعنى ذلك أنه يتميز بخصائص أمنية عالية، تجعل من احتمال تزويره مهمة شبه مستحيلة. فبيانات الجواز الإلكتروني مشفرة بحيث لا تقرؤها إلا الأجهزة التقنية الحديثة الموجودة على المعابر الحدودية والمطارات الدولية في أنحاء العالم. كما يحتوي الجواز الإلكتروني على رقم مشفر لا يمكن أن يظهر حتى لأكبر خبراء التزوير. زد على ذلك أن صورة حامل الجواز تظهر متحركة عند وضع الجواز على الآلة، وتخزن هذه البيانات في قاعدة بيانات دولية. يتم من خلالها استدعاء بيانات وصورة صاحب الجواز حين يفحص من قبل الآلة الخاصة في معبر حدودي. يظهر مباشرة اسم صاحب الجواز الأصلي وصورته الحقيقية. وفي حال كان الاسم وهميا، أو كان الجواز غير مسجل، أو حصل تزوير من أي نوع، يرفض الجهاز الجواز بكل بساطة، ويعلن لموظفي الجوازات بأنه مزور. لكن تقارير أمنية تفيد مع كل ذلك بأن الجواز الإلكتروني بدوره يتعرض للتزوير. وبالبحث طويلا حول الموضوع، تبين لنا بأن التزوير لا يطال البيانات التي يحويها الجواز لاستحالة ذلك، وإنما يكون التزوير شاملا من خلال صنع جواز السفر الإلكتروني من الألف إلى الياء. صدق أو لا تصدق.. جنسية سورية مزورة لرئيس وزراء هولندا! من بين الصحفيين الذين أنجزوا تحقيقات متفردة في موضوع تزوير الجوازات السورية، يحتل الهولندي (هارولد دورنبوس) الصدارة. فهذا الصحفي الذي يعمل من داخل سوريا مراسلاً لصحيفة «نيو ريفي» الهولندية المحافظة، لفت إليه الانتباه قبل أسابيع، عندما نجح في الحصول على جواز سفر سوري مزور من أحد المزورين، يحمل صورة رئيس وزراء هولندا مارك روتي، لكن ببيانات تشير إلى هوية عربية وهمية. وكشف الصحفي الهولندي في تفسير ما قام به، أنه حاول فقط تسليط الضوء على سهولة الحصول على هذه الوثائق، وبالتالي على سهولة ولوج أوروبا. فكل ما احتاج إليه (دورنبوس) من أجل الحصول على جواز سفر سوري هو 750 يورو، ورقم هاتف أحد المزورين، و40 ساعة من الانتظار، وفق ما كتب على حسابه في تويتر. لكن جواز السفر الذي حصل عليه حمل صورة رئيس وزراء بلاده، مارك روتي، مرفقاً باسم عربي وميلاد بدمشق من أم اسمها هبة، كما طلب من المزور. ونشر الصحفي صوراً للوثائق المزورة على صفحته في «تويتر»، أرفقها بهذه الرسالة: «هذا دليل واضح على أن شراء جواز سفر وبطاقة هوية سورية مزورة هو أمر بغاية السهولة». ويرى (دورنبوس) أن الهدف من وراء تجربته كان هو تحذير حكومات أوروبا من أن يستغل إرهابيو تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) الأمر نفسه من أجل التسلل إلى أوروبا، بهدف تنفيذ هجمات إرهابية. وأضاف الصحفي الهولندي قائلا: «لقد استطعت الحصول على جواز سفر سوري مزور بشكل محترف، وهذا يعني أن كل مقاتل سوري أو كل جهادي يمكنه أيضاً الحصول على مثله».