قبل أيام، حلت الذكرى العشرون لانهيار جدار برلين، الحدث المفصلي ونقطة التحول الأساسية في العلاقات الدولية، وأحد أبرز المفاتيح التي أكدت انهيار الكتلة الشرقية. ويمكن القول إن فيلم «وداعا لينين» يبقى إحدى أجمل العلامات السينمائية التي وثقت لهذا التحول، الذي نقل العالم من صراع الحرب الباردة وثنائية القطبين، إلى هيمنة القطب الواحد، وما تلاها من انخراط للعالم في ما عرف ب«النظام العالمي الجديد». تدور أحداث هذا الفيلم الألماني، الذي أنتج عام 2003، في الفترة الممتدة بين سنتي 1989 و1990. وهو يحكي قصة أم تجد نفسها في وضعية لا تحسد عليها، مع طفليها، «أليكس» و«أريان»، في ألمانياالشرقية، بعد فرار زوجها إلى ألمانياالغربية، حيث ستصبح مدانة ومشتبهاً فيها، من طرف النظام، نتيجة للتصرف الذي أقدم عليه زوجها، الشيء الذي جعلها تعمل جاهدة لكي تؤكد شيوعيتها وولاءها للنظام، إلى اليوم الذي سيعتقل فيه ابنها، بعد مشاركته في مظاهرة احتجاج، ضد السلطة، حيث ستسقط مغمى عليها، وتدخل في غيبوبة. ستتزامن غيبوبة الأم مع سقوط جدار برلين وتوحد الألمانيتين، حيث سيصبح ابنها، «أليكس»، عاملاً في شركة للتلفزيونات والأقمار الاصطناعية، وابنتها، «أريان»، عاملة في مطعم وجبات سريعة على الطريقة الأميركية! ستخرج الأم من غيبوبتها، وخوفاً عليها من «صدمة» الواقع الجديد، سيبني الإبن لأمه دولة ألمانياالشرقية في غرفة من 76 مترا مربعا، حيث سيعمد إلى «فبركة» أفلام، يقوم بعرضها عليها، تبدو فيها الشيوعية بخير ورموزها في أفضل حال، كما سيوفر منتجات ألمانياالشرقية، حيث كان يعمد إلى وضع المنتجات الأمريكية، التي غزت الأسواق الألمانية، في علب «شيوعية» قديمة. كان سقوط جدار برلين زلزالا هز العالم بتداعياته، وهي التداعيات التي وجدت صداها في المغرب، مثلا، وفي الرباط، تحديداً. ومن ذلك أنه لا أحد من أطفال اليوم، ممن يطلبون «ماك أرابيا» أو «بيك ماك»، من مطعم الوجبات السريعة، ماكدونالدز، المتواجد على بعد أمتار من محطة الرباطالمدينة، يعرف أن هذا المطعم الأمريكي كان في إحدى اللحظات، المعبرة عن مكر التاريخ ومآل الإيديولوجيات، مركزاً ثقافياً سوفياتياً. تفتت الاتحاد السوفياتي وتم تحويل البناية من مركز ثقافي على النمط الاشتراكي إلى مطعم وجبات سريعة على النمط الليبرالي، صورة معبرة وملخصة لمآل صراع دام أكثر من نصف قرن مقسّما العالم إلى نصفين. على مدى سنوات، كنتُ كلما دخلت هذا المطعم، تابعا خطى أحد الأصدقاء، كلما تخيلت الكتب الحمراء ممزقة. كنتُ أتخيل عناوينها تتحول إلى «كينغ بيرغر» و«تشيز بيرغر». كنتُ أتخيلُ الأفلام الوثائقية الطويلة، عن لينين وستالين والثورة الروسية وموت قيصر، تتحول إلى أفلام مكسيكية وبرازيلية، أجمل ما فيها بطلاتٌ في نصف لباس بقُدُود بَحْرية وشعر أسكتلندي. كنتُ أتخيلُ «الكيتشوب» الأحمر شماتة ليبرالية في الثورة الحمراء!! وكنتُ كلما أمعنت النظر في لون «الكيتشوب» أقولُ مع نفسي إن ذلك هو كل ما تبقى من أغلفة الكتب الحمراء وأشرطة الثورة والرايات المزينة بالمطرقة والمنجل. واليوم، يبدو أن العالم لم يستفد من درس جدار الفصل الألماني، ولذلك غرق في بناء جدران أخرى، كالجدران التي تفصل الأراضي عن بعضها، من قبيل جدار الفصل العنصري في الأراضي الفلسطينية، أو الجدران التي ترفعها بعض الدول على مستوى منظمة الأممالمتحدة (الفيتو).. غير أن أخطر الجدران، هي تلك التي تبنى في الرؤوس.