تحول مقر جمعية التضامن النسوي إلى خلية نحل لا تنام.. تستقبل الشنا فتيات وجدن أنفسهن أمهات لأطفال بلا آباء، خذلهن المجتمع، ونبذتهن الأعراف والتقاليد ليجدن في عائشة الشنا أما ثانية بحضن يستقبلهن ويستمع إلى معاناتهن.. كرمت مدينة مينيابوليسالأمريكية جهود هذه المناضلة المغربية قبل أيام، ومنحتها جائزة «أوبيس» تقديرا لمسيرتها التطوعية... بقدر ما آمنت عائشة الشنا بأن في الحياة ألما كبيرا وأن سرور الحياة أكبر من ألمها، فقد اكتشفت أن الحياة نفسها أكبر من كل ما فيها من الألم والسرور.. وهي على أعتاب عقدها السابع، لم تتوقع هذه السيدة يوما أن تصبح رمزا للدفاع عن الأمهات العازبات والأطفال الذين وجدوا أنفسهم يدفعون ثمن أنانية مجتمع لا يرحم.. محطات التكريم، على كثرتها، لم تجعل الشنا تتخلى عن التزامها بمساندة فئات منبوذة من المجتمع، ومازالت ذكريات الشباب طرية غضة في ذاكرتها.. بدأت الشنا أنشطتها في محاربة داء السل، وانتقلت إلى التنظيم العائلي لتصبح إحدى رائداته في المغرب. سنة 1972، أشرفت الشنا على تنشيط برنامج تلفزيوني حول التربية الصحية بتلفزيون الدارالبيضاء، لتنخرط في الاتحاد الوطني للنساء المغربيات بالدارالبيضاء. وسنة 1985، أسست جمعية التضامن النسوي لمساعدة الأمهات الفقيرات المسؤولات عن الأطفال في سن مبكرة. لم تنس يوما ذكريات شقاوة الطفولة بين الدارالبيضاء وعاصمة النخيل.. ولدت الشنا في المدينة القديمة بالدارالبيضاء، وانتقل والداها نحو الجنوب للاستقرار في مراكش. عادت الطفلة عائشة إلى مسقط رأسها مرة أخرى عام 1953 لتتابع دراستها في المدرسة الفرنسية فوش وثانوية «جوفر». وبعد سبع سنوات، التحقت بمدرسة الدولة للتمريض لتتوج مسارها الدراسي بها بشهادة الدولة في التمريض. خلال السنوات الممتدة بين 1962 و1980، تولت الشنا منصب منشطة التربية الصحية الاجتماعية بالمقاطعة الصحية بالدارالبيضاء. بداية العمل التطوعي دخلت الشنا فضاء العمل الجمعوي حينما عملت متطوعة بالعصبة المغربية لحماية الطفولة والتربية الصحية، من خلال إلقاء دروس حول الصحة والطفل، فزاد اهتمامها بالأطفال المتخلى عنهم، حيث انضمت إلى الجمعية المغربية للتخطيط العائلي التي تعرفت من خلالها على واقع الأمهات العازبات اللواتي لا يفارقن أطفالهن بعد التحاقهن بالجمعية. تابع النادي العالمي للنساء مسيرة هذه المناضلة المغربية من بعيد، ليقرر النادي سنة 2005 تكريمها بفرانكفورت وتسليمها جائزة «إليزابيت نور كال».. تتويج ذكرها بجائزة حقوق الإنسان في باريس التي تسلمتها قبل عشر سنوات خلت..، »إنهن يلقبنني بماما عائشة في الجمعية التي تعمل على تأطير الأمهات العازبات وتعليمهن حتى يواجهن واقعهن ويندمجن في المجتمع» تقول الشنا. وهي تكابد بإصرار المرض الذي قاست آلامه ومعاناته، لم تتردد عائشة في السفر إلى الولاياتالمتحدة لتسلم جائزة عالمية توجت مسارها الممتد لنصف قرن من العمل الجمعوي والتطوعي.. كانت مينيابوليس في انتظارها لتسلمها إحدى أرفع جوائزها، «جائزة أوبيس» 2009 التي تبلغ قيمتها مليون دولار.. وتسلم كل من المرشحين الآخرين اللذين تأهلا لنيل الجائزة, وهما الراهبة فاليريانا غارسيا- مارتان، التي تهتم بالأطفال المعاقين في كولومبيا, والقس هانس ستابل من البرازيل, حيث يدير أزيد من 60 مركزا لعلاج المدمنين, جائزة قدرها 100 ألف دولار لكل واحد منهما اعترافا بأعمالهما. ودأبت الولاياتالمتحدةالأمريكية على منح «جائزة أوبيس»، التي تكافئ الأعمال الإنسانية الأكثر تميزا في العالم، لشخصيات ساهمت من خلال أعمالها وقناعاتها في إيجاد حلول للمشاكل الاجتماعية الأكثر تعقيدا في العالم. ومنحت جائزة أوبيس في السنة الماضية لمارغاريت «ماغي» برانكيتس من بوروندي، تقديرا لعملها في مجال حماية حوالي 30 ألف طفل من ضحايا الحرب في هذا البلد. كانت الشنا وما تزال من أشد المعترفين بمقولة «اعمل أكثر من الآخرين، وتوقع أقل مما يحصل عليه الآخرون»، لذا تظل جائزة محمد السادس للتضامن في نظرها أعز الجوائز إلى قلبها. نضال إمرأة لا ينضب عائشة، الزوجة والأم والجدة، الفخورة بمغربيتها، جابت مختلف بلدان وقارات العالم، مما جعلها تغني تجربتها الكونية عن العمل التضامني، للدفاع في المغرب عن أمهات تركتهن الحياة وحيدات أمام مسؤولية الحمل والإنجاب. وكشفت دراسة حديثة أنه من بين كل خمس ولادات في مستشفيات الدارالبيضاء، اثنتان من هذه الولادات تكون لأمهات عازبات، هن في الغالب فتيات تتفراوح أعمارهن بين 14 و27 سنة، أقمن علاقات جنسية خارج الزواج وتخلى الطرف الآخر عنهن، أو سقطن ضحية لشبكات الدعارة أو الاغتصاب.. وإذا كانت حاضنة الأمهات العازبات تتحلى بالصدق والعطف ونكران الذات، والأمل في رسم ابتسامة على شفتي طفل متخلى عنه، فإن بعض الشهادات التي تضمنها البرنامج أكدت أنها تتميز في نفس الوقت بالصلابة وقوة العزيمة التي تعتبر سر نجاحها في مسارها الجمعوي والتضامني. وتقديرا لجهودها في خدمة هذه الفئة من المجتمع، حظيت الشنا بدعم الملك محمد السادس من خلال مساعدات مادية استفادت منها الجمعية، ودعمها في معركتها الشخصية لمواجهة داء السرطان. من خلال كتابها «ميزريا» تحكي الشنا قصصا مؤثرة لعشرات الضحايا: خادمات صغيرات السن وأطفال الشوارع أهملهم آباؤهم، وولوا إلى غير رجعة.. تتشابه الحكايات وتتغير فقط الأماكن والأسماء. تتحمل جمعية التضامن النسوي مسؤولية رعاية الأمهات العازبات وتخفف عنهن معاناتهن وتساعدهن في الاندماج داخل محيطهن. ترفض الشنا أن يصف الآخرون هؤلاء الضحايا بألقاب أخلاقية منحلة، وتركز على البعد الإنساني في هذه القضية بقلب كريم حاضر للحب، لتكون النتيجة مذهلة للغاية: الجميع يعتبرها أما ثانية كرست وقتها وجهدها للدفاع عن فتيات غدر بهن الزمن.