إلى حدود صباح أمس الثلاثاء، توقفت المنافسة على منصب المدير العام لليونسكو عند مرشحين اثنين، أحدهما مرشحنا المصري، الذي يسعى إلى أن يكون الأول من كل العرب، الذي يترأس هذه المنظمة الأممية راعية الثقافة والعلوم؛ وثانيهما المرشحة البلغارية، الوزيرة السابقة للشؤون الخارجية، إرينا بوكوفا. فكلاهما حصل على 28 صوتا، ليتساوى الإثنان في انتظار إجراء الدور الخامس من التصويت، اليوم، للحسم في الأمر. أما إذا تساوى المرشحان مرة أخرى، بقدرة قادر كما حدث في الدور الرابع ! فستنتهي العملية إلى القرعة، ليكون مدير اليونسكو بحالها وقدها منتخبا بالقرعة. لكن، لمَ حدث كل هذا الذي حدث؟ ببساطة لأن من بين المرشحين يوجد مرشح عربي وجد نفسه، أو ورط نفسه، في ورطة ما كانت لتعرقل ترشحه بهذه الدرجة من الحدة لو أنه كان يتنافس على إدارة منظمة عربية أو إسلامية يعود الحسم في أمر مديرها العام إلى العرب والمسلمين فحسب. فاروق حسني دخل منافسة شرسة على خلفية اتهامه من قبل مثقفين فرنسيين ومنظمات يهودية بمعاداة السامية بعد أن قال، مجيبا على جواب مستفز من أحد الإخوان، بإحراق الكتب الإسرائيلية لو وجدت في المكتبات المصرية. صحيح أنه يحظى بدعم الجامعة العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، إلا أن قوله ذاك وعلاقته الوطيدة مع «الرايس» حسني مبارك والمساحة الزمنية الطويلة التي قضاها مسؤولا عن الكتاب وهموم الكتاب والثقافة في مصر، دون أن يغير الشيء الكثير كما يقول معارضوه، لم تجعل طريقه إلى قمة اليونسكو سهلة، لا بل إن ظاهرة الانسحابات التي وقعت حتى اليوم وتوحد الوفود الأوربية من أجل إقصاء الوزير فاروق لا تبشر بالخير في الدور الأخير. الوضع الذي خلقه ترشح فاروق حسني لإدارة اليونسكو وضع شاذ بالتأكيد، ويدعو إلى إعادة النظر في عديد أشياء يتميز بها وضعنا الثقافي العربي عن بقية المجالات الجغرافية والوجدانية المشتركة الأخرى. شخصيا، كنت سأكون داعما، ولو من دون حق في التصويت، للمرشح المصري لأنه عربي، أولا، ولأن موقفه تجاه الكتب الإسرائيلية كان نابعا من رغبة أكيدة في التضامن مع الفلسطينيين في محنتهم؛ إلا أنني أجدني متبرما من هذا الدعم فقط لأنني كالغالبية العظمى من بني العرب ساخط على حال العرب وحال الثقافة وعلى علاقة التبعية والموالاة، التي تربط ، دائما، بين أهل الشأن السياسي وأهل الثقافة. فالمرشح المصري عمر طويلا على رأس وزارة الثقافة المصرية، قاطعا الطريق على غيره من الشخصيات التي يمكنها أن تضخ دماء جديدة في شرايين الثقافة المصرية؛ كما أن العديد ممن يعرفونه يقولون إنه يبدل مواقفه بحسب مصلحته... وسواء صحت اتهامات المعارضين أم أخطأت فحال ثقافتنا ومسؤولينا الرسميين ما زالا لم يوفرا شروط إنجاب مرشح يستطيع أن يلم حوله القوم المصوتين ويعفي الجميع من حمل الأدوار الأربعة أو الخمسة. هذا لا يعني أنني أبرىء الغربيين تماما من النوايا المبيتة أو من الأحكام الجاهزة والقبلية التي تحكم مواقفهم، بل أقر بأن الكثير منهم لا يملكون موضوعية الحكم وبأن نظرة الدونية إلينا تعمي عيونهم عن رؤية الحقيقة. فالمثقف الفرنسي برنار هنري ليفي، الذي وصف المرشح المصري ب «بوليسي» الثقافة، معروف بمواقفه المتسرعة واندفاعاته ويؤاخذه الكثيرون على العديد من المواقف سواء الفكرية أو السياسية... فالرجل متعدد «المواهب» التي تتفرق بين الفلسفة والسينما والإنتاج والصحافة والأعمال والمال والسياسة... منظمة «مراسلون بلا حدود»، التي كانت سباقة إلى شن حملة ضد فاروق بإصدارها بيانا يدعو، بشكل مبطن، إلى «مقاومةّ» المرشح المصري، ليست بنزيهة كل النزاهة التي يدعيها مؤسسها برنار مينار. فالمنظمة تستفيد من أموال طائلة من مؤسسات أمريكية وازنة في العالم لها علاقات مشبوهة مع مختلف أجهزة المخابرات الأمريكية؛ والسيد مينار ادعى أنه آمن بمشروع «تحرير» الإعلام وحرية التعبير في العالم العربي عندما قبل ترؤس مركز حرية الإعلام بالدوحة قبل أن يفطن إلى استحالة تحقيق هذا التحرير ويعلن الانفصال، لكن من غير أن يخرج خاوي الوفاض ( المالي طبعا). جهات غربية أخرى كثيرة تدعي الحياد لكنها بعيدة عنه كل البعد. إلا أنه مهما يكن من أمر هؤلاء، فغياب النزاهة ليس خاصية سائدة وعامة عندهم، كما أن الثقافة ليست تشريفا وتوكيلا رمزيا، والجوائز الثقافية لا تعطى من خزائن الرؤساء والملوك والأمراء، ولجن التحكيم لا تعينها الجهات الحكومية الرسمية، والإبداع لا يخضع لحسابات ضيقة، واتحادات الثقافة لم تعد كائنة كما هي عندنا، وتنشئة المواطن لا تبنى على الخوف من السلطة بدل أن تكون الأخيرة في خدمة الأول، والقارئ لا يقرأ بضع صفحات في السنة، والكتاب لا يستهلك من باب الكماليات، بل من باب الحاجة إلى تغذية الفكر، ووزراء الثقافة لا يأتون إلى الثقافة بالصدفة... ختم القول أن الثقافة ليست تشريفا ولا لقبا، بل مسؤولية وفعلا، والتاريخ ذاكرته باقية أبدا.