لحم، خبز، كتب إسلامية، ملابس، منتوجات شرقية ومغاربية، مخادع تليفونية: إنه الانطباع الأولي الذي يشعر به زائر هذا الحي. وهو انطباع دفع ببعض الأقلام الصحفية إلى اختزال مسلمي الحي في الأكل والعبادة. انطباع زائف، على اعتبار أنه من وراء كل حرفة بشر بتاريخ، هوية وقناعة دينية. وفي شهر رمضان تشعر برسوخ هذه القناعة لدى المؤمن الذي يركن إلى الراحة على الكرسي أو البائع للمنتوجات الرمضانية. في الظهيرة، أخذت الباص رقم 96 الرابط بين حي مونبارناس وحي «ميري دي ليلا» في الشمال الشرقي لباريس. يعبر الباص شارع «اوبيركامف» الذي أصبح بفضل المقاهي، المطاعم والأندية الليلية العصرية محجا لشباب بورجوازي يترك أحياءه الراقية لأماسيه الواقعة على خط آخر الصرعات الموسيقية. في هذا الشارع توجد محطة راديو بور، radio Beur وكذلك بيت المؤرخ الجزائري محمد حربي الذي زرته عدة مرات. ما أن يصل الباص إلى محطة مينيلمونتان، وهي النقطة التي أنزل فيها، حتى يتغير مظهر الحي وإيقاعاته، حيث يطغى طابع «كوسموبوليتي» على هيئته، سواء من خلال المظهر البشري (خليط عربي، إفريقي، يهودي، آسيوي)، أو من خلال المحلات التجارية: مطاعم تونسية، جزائرية في حوزة يهود منحدرين من هذه الدول، مشاوي تركية، مكتبات ومجازر إسلامية، دكاكين متخصصة في الأثواب الإسلامية، مخبزات تونسية أو مغربية... «بدر» الحلاق أتردد على الحي على الأقل مرة في الشهر لاحتساء قهوة بمقهى لوصولاي الشهير الذي يرتاده الزبناء مساء للاستماع إلى صوت قيتارة حزينة أو صوت مغنية ترتجل أناشيد العشق لجان سيباستيان باخ. هنا تختلط الجنسيات في نوع من الانصهار. أقصد بعدها في الجهة المقابلة الحلاق بدر، الذي لست متأكدا من أنه اسمه الحقيقي، لجلسة يقص خلالها ما تبقى من الشعيرات على قبة رأسي وهو يصب جام غضبه على فرنسا ومن فيها وعلى بعض الدول الإسلامية التي لا تتشدد بما فيه الكفاية إزاء احتقار البلد للمسلمين. لم يتجاوز الأربعين من عمره. وهراني تقربه لهجته نسبيا من اللهجة المغربية. يفتخر بإسلامه ولا يفرط في طقوسه. على حائط الصالون علقت شاشة مسطحة تبث آيات من الذكر الحكيم. لما دخلت الصالون اكتشفت أنه اقتسمه مع حلاقة إفريقية عرفت فيما بعد أنها تنحدر من الزايير. بعد أن باركت له رمضان، رميت له عنوة بهذه الملاحظة: «آيوا يا بدر، دابا تلاقا الزايير مع الدزاير!». الحقيقة أن الحلاقة التي قدمت نفسها كمتخصصة في تسريح الشعر الإفريقي وتلوينه في جمالية فائقة، قضمت الفضاء وشوهته بتعليقها ل«بيروكات» ملونة تتدلى من السقف، وعرضها لأظافر مصطنعة وعلب الصباغة بحيث لم يبق من صالون الحلاقة الذي ألفته نظيفا وأنيقا سوى الاسم. أجابني غاضبا في لهجة وهرانية: «واه آصاحبي. كن نصيب نحفف لبابها بلا ماء. لكن الله غالب». وحكى لي وهو يمرر المقص على شعيراتي الخفيفة أن ثمن الكراء باهظ وأن الزبناء المسلمين وخاصة العرب منهم، يحلقون لبعضهم البعض، ويفضلون لأسباب اقتصادية قصة النيميرو زيرو. لكن المصيبة الأخرى التي يعاني منها بدر هي أن سوزي، وهو اسم الحلاقة الزاييرية، لا تهتم بالنظافة وتأتي بسندويتشات تركية (دونير)، لتأكلها في الصالون!! أنهى بدر ما يسميه ب«التحفاف»، شكرته على براعته. خاطبني وأنا أغادر الصالون «يا الله، صحة فطورك». سوق فرنسي للمنتوجات الشرقية تركت مقبرة «بير لاشيز» الشهيرة خلفي لأواصل السير في اتجاه محطة كورون وبيلفيل، التي تقع تقريبا على بعد 800 متر من مينيلمونتان. على جهتي بولفار بيلفيل، توالت المطاعم، المكتبات الإسلامية، المخابز، متاجر اللباس الإسلامي والمنتوجات الرمضانية.... جلس على الكراسي تحت أشجار أرخت أوراقها الخضراء مسنون مغاربيون كلهم رجال لتبادل الحديث في الحياة الدنيا والآخرة. وكان حديث الساعة وباء أنفلونزا الخنازير وتأثيره على موسم العمرة والحج. وأثناء النقاش، حصل إجماع على أن لا أحد يمكنه منع المسلمين من السفر إلى الديار المقدسة. لما تصل إلى ميترو كورون، تنبض على الجهتين حركة متواصلة لباعة سريين يصيحون أمام أكياس الفواكه، الأخضر منها واليابس، بأثمنة مخفضة بأربعين في المائة عن الأثمنة الرسمية. «الله ينعل لاكريز: إجاص بأورو للكيلو.. تمر بثلاث أوروات...هيا تعالو...» إن زرت المكان أيام السوق الذي يقام مرتين في الأسبوع ( الثلاثاء والخميس)، يستقبلك صخب نداءات بائعي الحوت، الخضر والفواكه، والجبنة، ويترامى السوق على طول الشارع من الجهتين على مسافة تقارب 700 متر. ويعتبر سوق بيلفيل أكبر سوق فرنسي للمنتوجات الشرقية. «تفيض» على جنباته أسواق برغوث مصغرة يعرض فيها كل ما التقطه العاطلون أو المتقاعدون من أكياس قمامات العمارات الفخمة لأحياء الشان إيليزيه، السان جيرمان أو نوييه: دراجات هوائية للأطفال، أشرطة فيديو، كتب جيب، عاصرات آلية، هواتف نقالة مهترئة... أما عن صلاحيتها، «أنت وزهرك». وبعد انتهاء السوق، ما أن يشرع المنظفون في تنقية الشارع، حتى يهجم بعض المعوزين على بقايا الصناديق لعزل بعض الفواكه والخضر التي أتلفت جزئيا. الصينيون ينافسون العرب تترك خلفك زنقة كورون والمقاطعة عشرين، لولوج زنقة جان-بيار تامبو بالمقاطعة الحادية عشرة. وتعتبر هذه الزنقة، إلى جانب زنقة ميرا، ولاكوت دور، la goutte d’or، بحي باربيس، القلب النابض للتواجد العربي، وبخاصة المغاربي. تتركز هذه الجالية التي تحاول جاهدة صد هجوم الجالية الصينية على الحي، والتي بدأت في قضم المحلات التجارية ودور السكن بشرائها بأثمنة ذهبية. إلى درجة أن الصينيين بحسهم التجاري الفائق بدؤوا في مغازلة الجالية المسلمة للحي بفتحهم لمطاعم صينية حلال مائة في المائة. مثل مطعم «حدائق بيلفيل»، الذي يوفر للزبون وجبات وافرة وبأثمنة مناسبة. بجانب «مقهى الميترو» المقابل لمحطة كورون توجد مكتبة «أوريانتيكا» الإسلامية، وقد حلت محل مجزرة إسلامية. عرضت على واجهتها كتب تراثية ودينية في موضوع سيرة الرسول والصحابة. كما علقت أمام الباب أقمصة إسلامية أو ما نطلق عليه في المغرب كندورة. تدفع بالخطو بضعة أمتار لتعثر على مقهى ومطعم cannibale. في الأسفل مقهى آخر في اسم Assassin. في الطرف المواجه من نفس الزنقة، يتجاور اللحامون (الكزارة)، المكتبيون، العلب الهاتفية، محلات الانترنت، والغاسلات الآلية، محلات الأثواب الإسلامية. فيما يشبه المفترق، يوجد على يمين الشارع، في زنقة موران، وتحديدا في الرقم 76 من زنقة جان-بيار تامبو، مسجد عمر بن الخطاب الذي خصته وسائل الإعلام الفرنسية بتغطيات يقول فحواها إنه معقل للجماعات الإسلامية. وقبل أن تشمل الساحة أشغالا كبرى وتوضع دبابيس حديدية وقائية في الساحة، كان المسجد «يفيض» بالمصلين على الساحة. أما اليوم، فقد تم تقنين ارتياد المسجد والتحكم في مسألة الأمن أيام صلاة الجمعة. قبالة المسجد يوجد مقهى ومطعم لوفيدال، المؤمن. ماركس يجاور ابن تيمية المكتبات الإسلامية هنا لا تقتصر على بيع الكتب وحسب، بل هي عبارة عن «بازارات» تعرض الأعمال الكاملة لأبي حامد الغزالي وحلوى الشباكية. طارق رمضان والتمر، الحجاب والقشابة الإسلامية، زيت الزيتون وخطب الإمام القرضاوي. وظيفتها دعوية وتجارية في نفس الوقت. لكنها لا تقتصر فحسب على بيع كتب التراث الخالص، بل تعثر أيضا بين رفوفها على مؤلفات ماركس إلى جانب نتاج ابن تيمية! خارج إحدى المكتبات، على الرصيف، وضعت مسجلة تنبعث منها آيات للذكر الحكيم، فيما امتلأت عربات حديدية بأشرطة فيديو تخص مواضيع الدعوة ومناسك الحج وحياة الرسول والصحابة. كتب جيب في مواضيع الوعظ والإرشاد، وسلة خاصة بقطع الصابون المصري. سألت صاحب المكتبة عن ماء بئر زمزم، كان جوابه باللهجة المصرية: «ارجع يا افندم بعد ثلاثة أيام». وفسر لي بأن عدم سفر بعض الحجاج هذا العام لأداء العمرة والحج، ساهم في تفاد الماء وغلاء الأثمنة». عن سؤال ماذا يقرأ المسلمون في شهر رمضان، أجابني صاحب المكتبة بأن سيرة الرسول وقصص الأنبياء تبقى من الكتب المبيعة خلال هذا الشهر. ثم هناك المحاضرات الدينية المسجلة على أقراص ديفيدي أو على الأشرطة لبعض الأئمة والتي تعرف إقبالا لدى القراء. لما رآني أتصفح في ملصق إشهاري لمشروب غازي في اسم «إيفوكا كولا»، فسر لي أنه مشروب الساعة. «مزايا المشروب هو أنه مستخلص من الحبة السوداء وهي مادة أتى على ذكرها النبي محمد (صلعم) في الكثير من الأحاديث». وهكذا بعد مكة كولا، قبلة كولا، وزمزم كولا، طرح آخر منتوج غازي رسمي يوضع على مائدة الإفطار هو أيفوكا كولا. وقد أطلق المنتوج في بريطانيا، ويباع أيضا في بلجيكا، فرنسا وإفريقيا الجنوبية. «حج وحاجة»، وبثمن 3 أورو من لتر ونصف. تدور الساعة على مهلها، ثم من دون سابق إنذار تسري ما يشبه الرعشة في الحي في حدود الساعة السادسة والنصف. تتزايد الزحمة على جنبات الشارع ويشتد اللغط عند باب الميترو لبائعي الفواكه والتمر والحليب. تتشكل الطوابير أمام المجازر الإسلامية، المخابز، والمتاجر الصغيرة التي يبيع بعضها الحلويات والرغائف بأصنافها المغاربية: ملاوي، حلوى شباكية... وكما في البلاد، لم يتعلم إخواننا ثقافة الطوابير: كل يريد أن تقضى حاجاته قبل الآخرين. في أحد المجازر القريبة من الميترو وقع هذا التبادل: «آخويا، آسيدنا، راني طلبت 4 كيلو دجاج وثلاثة غنمي و...»، «واش بغيتي الكرعين؟» يجيبه الكزار، ليلطف من الجو. لكن الزبون، انسحب وهو يتمتم في دواخله. ثم أضاف الكزار فيما يشبه الصراخ: «الخير موجود، كلكم غادين تفطرو». وشرعت مزامير السيارات، وهو شيء يكاد ينعدم في هذه البلاد، في جوقتها بسبب الزحمة التي يتسبب فيها بعض السائقين الذين يتركون سياراتهم للذهاب لشراء الخبز أو اللحم، ليجدوا بعد عودتهم غرامة ألصقها البوليس المتنقل على نافذة السيارة... في هذه اللحظة أقصد محطة بيلفيل التي تبعد بضعة أمتار عن محطة كورون. نفس الزحمة ونفس الخليط. لكن الطابع الآسيوي غالب على مظهر المكان. الظاهرة اللافتة للنظر هنا هي كثرة المومسات الصينيات اللائي غادرن حي السان دوني إلى بيلفيل بحكم تواجد جالية مهمة بالمكان. في بيلفيل، كان مهاجرو أوروبا الشرقية وبخاصة يهود بولونيا، الآرمن، هم أول اللاجئين الذين استقروا في المنطقة، قبل أن يليهم المغاربيون ثم الافارقة وبخاصة الماليين. وقد وصل إلى الحي في الخمسينيات المغاربيون، التونسيون ثم الجزائريون فيما بعد. وآخر النازحين هم الصينيون، أغلبهم لاجئون سياسيون. وهم اليوم في طور إعادة تشكيل الجغرافية البشرية والمعمارية للحي. إذ مع التحديث العمراني انقرضت العديد من المساكن والفنادق ومراكز الاستقبال وكذا المقاهي. ولا تزال بعض جيوب المقاومة المغاربية نشطة قدر المستطاع. في الطريق إلى «باربس» أنزل إلى نفق الميترو متجها نحو حي باربيس لمعاينة مشاهد بنكهة مغايرة. لميترو باريس روائح شبيهة بروائح الكهوف والمغارات، روائح هي خليط بين الرطوبة المتعفنة والواد الحار.. ست محطات تفصل بيلفيل عن باربيس. لكن يحدث في بعض الاتجاهات التي تربط بين بعض النقاط والمحطات أن تلطف روائح النعناع والتوابل التي ينقلها معهم المسافرون العرب، الهنود أو الصينيون، من هذه العفونة. تتنسم هذه الروائح الإيكزوتيكية من قزبر، كامون، كرافس، أو توابل حارة وقد تسوقها المسافرون حيث تكتظ القاطرات بشعوب آتية من كل الفجاج. في شهر رمضان، تتحول بعض عربات الميترو على الخط الرابط بين بيلفيل وباربيس إلى دكاكين متنقلة، تثير إزعاج البعض، فيما يتعرف فيها البعض الآخر على تواجد الأجنبي وثقافته المعطرة. درب غلف بباريس قبل أن أخرج إلى شارع روشوشوار، ولا زلت في المصعد الآلي، أخرجت كاميرا رقمية لأخذ بعض اللقطات. وقعت العدسة على بائع سري للسجائر. ما أن خرجت حتى التفت حولي كوكبة من الشباب لا يتعدى سن أكبرهم الثلاثين عاما. ألح الشخص الذي التقطت صورته بلهجة تونسية عدوانية أن أفسخ الصورة، وهو ما فعلته. لكن أحدهم انتزع مني الكاميرا ليطالبني بخمسين أورو إن أردت استردادها. «ها حنا دخلنا للشبقات !». وبعد تبادل عنيف وتهديدات، أرجع إلي المصورة، وانفض المجمع. ما عليهش، إنها مخاطر المهنة. خرجت إلى الشارع لأتجه نحو زنقة لاكوت دور الشهيرة، ومنعت على نفسي أخذ أية صورة. خلافا لحي مينيلموتان وبيلفيل اللذين تشعر فيهما بتمازج إثني منتظم وتراتبي، يبقى الاختلاط بحي باربيس مفتوحا إلى حد الفوضى. تشعر هنا ب«التريسينتي» في الجو: نقل الجزائريون إلى أزقة الشارع تقليد الترابندو: يتاجرون بالعلالي أمام أعين البوليس في كل ما هو مغشوش من البضائع: حقائب موقعة بعلامة فويتون، ساعات «روليكس- خردة» بعشر أوروات، سراويل ديازيل.. بكلمة ارتجلوا على جنبات الشارع، درب غلف لكن من نوع مصغر وبلا قانون. تصادف السعاة من كل الجنسيات وبخاصة المغاربيين، أغلبهم نساء. بعد الأشغال التي قامت بها ولاية باريس في حي لاكوت دور، شذب الطابع العربي الأصيل للحي. اكتسحت الزنقة دكاكين الهواتف النقالة، دكاكين أحذية الرياضة وأسواق التغذية الكبرى مثل فرانبري. في ساحة لاكوت دور، وضعت بعض النساء على طاولة قنينة غاز ومقلاة وشرعن في إعداد رغائف لمسمن المحشو بالبصل والفلفل الحار! على بولفار روشوشوار، توجد متاجر تاتي الرخيصة التي أسسها جيل واكي، وهو يهودي من أصل تونسي عام 1948. كما توجد قبالتها سينما لوكسور الشهيرة التي شيدت عام 1921 وكانت تعرض أفلاما عربية وبخاصة الكوميديات المصرية. وهي اليوم مغلقة. ما أن بدأت الشمس في المغيب، حتى بدأ الحي يفرغ تدريجيا من المارة. بدل أن أدخل نفق الميترو عائدا إلى البيت، أخذت الباص لمعاينة التلاشي التدريجي لنبض الشارع مع حلول الإفطار. وإفطار مبروك.