ليس من سبيل إلى الصحة إلا بالصوم والصوم المديد المتتابع، كما يفعل المسلمون في رمضان، ومعه الحرمان من متعة الطعام؟.. وفي هذا قال «ليني جوارنتي»، الباحث في الشيخوخة من معهد التكنولوجيا في ماساشوسيت، «إذا أردنا أن نطبق تعليمات الصوم بدقة، فهذا يعني أننا سنأكل في كل يوم ثان». وهذه الحقيقة العجيبة تذكر بالحديث الذي أثنى على صيام وصلاة داوود كما جاء في الحديث الصحيح: إن أحبَّ الصيام إلى الله صيامُ داوود، كان يصوم يوما ويفطر يوما، وإن أحبَّ الصلاة إلى الله كانت صلاة داوود، كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه. إلا أن «جوارنتي» وزملاءه يعتقدون حاليا أنهم عثروا على ضالتهم في طريق مختلف، بحيث يحافظون على مزايا الصيام بدون التعرض للسعة الجوع وقرقعة الأمعاء، وهو تعويض آلية البدن على نحو مقلوب، وهي نتيجة أبحاث جاءت من جامعة هارفارد. فقد قام «دافيد سانكلير»، من كلية طب هارفارد في بوسطن، بالوصول إلى مركب دوائي أعطوه اسم «ريزفيراترول» يقوم بنفس أثر الجوع (الصوم) من الصحة والعافية، فقد جربوه على الديدان والذباب والفئران، ووصلوا في هذه الكائنات إلى المط في عمرها، بالإضافة إلى المزيد من القوة في الصحة، ونشر هذا البحث في المجلة العلمية «الطبيعة». وكانت هذه الأبحاث نتيجة تجارب على فئران أطعموها بالدسم في 60 % من طعامها ولمدة أشهر فأكلت إلى الموت، فأصيبت بالسكر وتشحم الكبد وماتت ونفقت بأعداد كبيرة، فقد أكلت بشغف حتى الهلاك. أما الحيوانات التي أطعمت عقار «الريزفيراترول»، بحسب ادعاء الفريق العلمي وبمعدل 22 ملغ للكيلوغرام من الجسم، فقد حمى الحيوانات من الهلاك. لقد سمنت ولكنها لم تصب بداء السكر أو تشحم الكبد ولم يتأثر عمرها من ذلك. كذلك، فقد جاء في مجلة «الخلية» الفرنسية عن تجربة تشير إلى ارتفاع حيوية الجسم مع تناول هذا العقار السحري؛ فقد أطلقوا تجربة الفأر الذي يدور مع الأسطوانة، التي لا تكف عن الدوران، فمشى مسافة كيلومتر، قبل أن يقع إعياءً، أما الحيوانات التي أكلت «الريزفيراترول» فقد ركضت ضعف المسافة، وعرف أن السر في هذا بطء ضربات القلب فلا يستهلك، وكثرة «الميتوكوندريا» في الخلايا وهي المسؤولة عن الطاقة في الخلية. ويعقب «جوهان آوركس»، من معهد بيولوجيا الجزيئية الجينية في الإلزاس، على هذه النتيجة بقوله: إنها تظهر المرء بطل رياضة بدون أن يمارس رياضة. وقد حقق الباحثون دوما نتائج مذهلة من زيادة جرعة «الريزفيراترول» إلى مقدار 400 ملغ للكيلوغرام من الجسم. وبالطبع، فإن هذه الأفكار لا تمر بدون فلترة نقدية في الجو العلمي، فلا يعقل أن يصل المرء إلى ينبوع الشباب، من حبة يبتلعها وجرعة دواء يتناوله. إن هذا أقرب إلى الشعوذة. ويبدو أن هذا العقار يعمل بنفس آليات الجسم التي تقي من تقدم العمر وافتراس الشيخوخة، ويقول في هذا «فيليبي سييرا»، من المعهد الوطني للشيخوخة في بيثيسدا: في الحقيقة، يبدو أن هذا الدواء يؤثر على حلقة هامة. وهو المثل الأول لمادة تؤثر على كامل مركب التقدم في العمر. وهذه القاعدة من المعلومات تم التوصل إليها في مطلع التسعينيات، في مخبر جوارنتي المذكور من قبل في معهد ماساشوست التكنولوجي، حيث درس الباحثون على الفطور التي تعيش طويلا، بسبب تغير جيني! أما الأسترالي «سينكلير» فقد تعرف على أبحاث «جوارنتي» عام 1995م، واهتدى إلى سر التغير الجيني، فقد عثر على أنزيم يحمي الكود الوراثي، وبهذه الطريقة يمد في عمر خلايا الفطريات! وعرف جوارنتي في نفس الوقت أن هذا الإنزيم (يعشِّق) على الاستقلاب في الجسم، وحين حصول الجوع فإن العضوية تطلق عقال هذا الإنزيم فيهبها مزيدا من الصحة والعمر والعافية.. فهذا هو السر المكنون في اللوح المحفوظ في الخلية.. ومنذ فترة طويلة كان الاعتقاد بأن الصيام والجوع يقومان بدور سلبي، من قلة إنتاج مواد التخريب، وتتباطأ التفاعلات عموما؛ أما أن يكون الجوع سببا في إطلاق مواد حافظة، فهذا دور إيجابي له لم يكن في الحسبان.. عرف عن هذا الإنزيم الذي يطلقه البدن أنه «السيرتوئين»، وعثر عليه ليس فقط في خلايا الفطريات بل في أعضاء أرقى، وعلى ما يبدو فهو من التراكيب الأساسية في العضوية. بل لقد عثر على سبعة أنواع منه في الثدييات، وعرف أنها تنطلق إلى الدوران بعد بضع ساعات من المخمصة (الجوع)، وتنشط بروتينات محددة. ومن الأشياء المجهولة عن هذا التأثير اللولبي رفع قوة المقاومة والحيوية في الخلية. وبالطبع، فإن الخطوة التالية أصبحت واضحة؛ وهي البحث عن مادة تقوم بدور تحفيز هذا الإنزيم (السيرتوئين) من مرقده. وخلال سنوات من العمل الدؤوب، استطاع «سينكلير» وفريقه العثور على 19 نوعا من هذه المادة السحرية في النباتات، تلك التي تنشط العافية وتمد في عمر خلايا الفطريات، وكان منها «الريزفيراترول» الذي عثر عليه في الجوز وكذلك في النبيذ الأحمر. وأن تؤثر هذه المواد من النباتات على عمر الحيوانات فله ما يبرره حتى في حياة النباتات التي تطلق هذه المادة، للحفظ في أشعة شمس حارقة، وفطر محدق بالنبات مدمر، وبه يمكن تحرير منعكس الجهد والتوتر للحماية الذاتية.. والمادة بذلك تفعل في كلا الحقلين.. وبعد أن أعلن «سينكلير» نتائج عمله، تلقفته الأيدي بعروض العمل، في أكثر من معهد، لأنه فتح بوابة الأمل في كسر حتمية الشيخوخة والمرض.. وبذلك قام بتأسيس شركة «سيرتريس» الدوائية، وفيها يعمل 40 من الباحثين لتحسين مادة «الريزفيراترول». وانطلق المشروع برأس مال 82 مليون دولار، ويعمل فيه «فيليب شارب»، الحائز على جائزة نوبل في العلوم. ليس هذا فقط، بل يبلع «سينكلير» العديد من حبوب الدواء ويقول: إن عثرتم عليّ هنا بعد مائة عام، فسيكون الدليل على صحة العقار. ونظرا إلى كون سر العقار صار في اليد فقد وصلت التجارب إلى مركبات أقوى من «الريزفيراترول» بألف ضعف، وهو قيد التجارب الآن. وأما عن الأعراض الجانبية المعروفة في كل دواء، فيجب دراستها عند البشر بغاية الحذر.. ويعلق «فايندروخ»، من ماديسون حيث أجرى تجارب القرود، بأن مقارنة أثر الجوع بتناول عقار سحري يجب التحري عنه والآثار الجانبية معه، بالإضافة إلى أن مركب الشيخوخة أكثر تعقيدا مما نظن. كما أن البعض يتندرون على نتائج حبوب الصيام، إن صح التعبير، فيقولون إن أرادت جماعة العقاقير تناول الخمر لاحتوائه على مادة «الريزفيراترول»، مثلا، ففي كل ليتر من النبيذ الأحمر 15 مليغراما، ولو أردنا أن نحصد نتائج جيدة في الفئران فعليها أن تدلق في أمعائها كل يوم 15 زجاجة من الخمر المعتق.. خلاصة البحث ثلاث أفكار: الصوم جنة، أي وقاية من الأمراض، وهو يوصل إلى التقوى من خلال التأثير على الدماغ بتخفيض كمية الطعام أو حرمانه من الطعام.. الثانية، يأتي العلم بالدليل على أثر العافية من خلف الجوع أو الصوم.. والثالثة أن من يريد قلب النسب، بأخذ أثر الصوم بدون صوم، فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا فاقصص القصص لعلهم يتفكرون أو يتندرون كما رأينا في حفلة خمر الفئران...