لقد أظهر الصيام المتتابع أنه يبقى الكائن بصحة جيدة، بل ويطيل العمر 50 %؟! هذا ما أظهرته التجارب على العناكب والسمك والفئران، وأخيرا قردة الريسوس. فهل ينطبق على بني البشر ما ينطبق على العناكب والسمك والجرذان والفئران؟ لقد قفز العلماء قفزة جديدة في التفكير في محاولة تفكيك آلية تأثير الصيام، وكيف يملك الجوع قوة الشفاء؟ فوضعوا أيديهم على «أنزيم» تحرره الأنسجة مع الجوع هو «السيرتوئين»، فقالوا ماذا لو حقنّا الجسم بهذه المادة السحرية؟ وبدون الجوع؟ فهل ستكون النتيجة واحدة؟ أي تحقيق أثر الجوع صناعيا بدون جوع. وهكذا، بدأ الأطباء يجربون عقاراً يحقق نفس الأثر بدون الجوع المديد هو «الريزفيراترول».. ولكن هل سيصل الفريق العلمي إلى قهر الشيخوخة والعمر المديد والصحة الوافرة فلا تكدر بمرض أو تعكر بهم وحزن وألم؟ وهل سيحققون طول العمر؟ مع صحة متدفقة وشيخوخة ناعمة، دون نصب، وهم في الغرفات آمنون؟ تبدأ القصة من جامعة «ويسكونسين» من «ماديسون» من مركز الأبحاث الوطني للحيوانات البدائية في أمريكا، حيث انطلقت التجربة على القرود عام 1989م ولمدة 17 سنة متتالية، بعد تحققها على كائنات بدائية مختلفة، وقامت التجربة على وضع 30 قردا، بعمر عشر سنوات، من نوع الريسوس في مجموعتين من الأقفاص، ضم كل قفص 15 قردا؛ فأما المجموعة الأولى التي ينتسب إليها القرد «أوين» فقد سمح لها بأن تأكل لما فوق الشبع وتلتهم كل طعام بدون تحديد الكالوري، فأكلت كما جاء في الحديث: الكافر يأكل بسبعة أمعاء والمؤمن يأكل بمعي واحد.. وأما المجموعة الثانية التي ينتسب إليها القرد «كانتو» فقد حرمت من الطعام، وجُوِّعت وقُتِّر عليها، وحدد الكالوري بكمية أقل ب30 % مما تحتاجه، وهكذا صامت صوما مديدا لمدة سبع عشرة سنة ويزيد.. مع هذا، تمت مراعاة إطعام الفريقين من حاجتهما اليومية من المعادن والماء والفيتامينات. ولكن الطعام كان مباحا بدون حدود لمجموعة القرد «أوين»، ومحرمة ناقصة بمقدار الثلث لمجموعة القرد «كانتو». فأما الأول فملأ من شحم عضديه، وأما الثاني فبات يصوم ويشد على بطنه. وكان الباحث «ريشارد فايندروخ» يراقب العملية بصبر ودقة وإحصاء. وبعد كل هذه المدة، فقد بلغ كلا الفريقين من القرود في المجموعتين العمر الافتراضي 26 عاما، بحيث يمكن مقارنة شيخوخة كل فريق بشيخوخة الآخر. وهنا، بدأت الفروق جلية كما قال الباحث، فأما مجموعة «أوين» فقد ظهر فيها التجعد على الوجوه، مع تكوم الكروش، وتشحم الكبد، والضعف العام، والهمة الفاترة، وتساقط الشعر، والانكماش في المكان، والكسل في الحركة، وتهدل الجلد، مع عيون غائرة انطفأ فيها لمعان الحياة، في ظل شيخوخة طامة ونكس قاتل.. كان منظر «أوين» من مجموعة «تحشية» الأمعاء، بما لذ وطاب بدون حدود عجيبا، من كتف معلق، وعيون غائرة، وكرش مدلى، وإذا قدمت إليه موزة رفع ذراعه بصعوبة وتثاقل، ومد يدا ترتجف. أما «كانتو» من المجموعة (الصائمة) فكان رشيقا نشيطا، بدون كرش، بجلد مشدود، يقفز بفرح، ويسلم على الزوار بمرح، ويتناول طعامه برشاقة، ويقشر الموزة بخفة، ويلتهم محتواها بشغف، جلده مرن مطاطي، ووجه عامر طافح، وتلمع عيونه بالحياة.. وكان جل طعامه من الفاكهة... هذه التجربة الرائدة كان القصد منها الوصول إلى السؤال الأزلي الذي طرحه جنكيزخان على الحكيم الصيني: هل من طريق إلى الأبدية؟ وهنا في الطب ليس من أبدية!! بل جواب الحكيم الصيني للطاغية المنغولي: يا سيدي ليس عندي من أكسير للحياة الأبدية، ولكن بقدرتي أن أنصحك كيف تعيش حياة مديدة بصحة طيبة. وهذا الذي يسعى خلفه البشر فلا يستطيعون إليه سبيلا ولا يحققونه، لذا كان وزير الخارجية الكندية محقاً في أن يعلن عن تطليق السياسة والعودة إلى الطبيعة، بعد أن لاحظ تفجر الدم من منخريه وعمره 63 عاماً؟ كانت النتيجة حاسمة في مستويين: فأما مجموعة «أوين» الملتهمة للأطعمة كيفما اتفق، فقد مات أكثر من نصفها وأصيبت بنخر في الكبد، وتهدل في القلب، واكتنز أكثر من 70 % من جسمها بالشحم، وعاش من تبقى من عناصرها بصحة متردية، ومات من أصل 15 قردا ثمانية؟! وأما مجموعة «كانتو» النشيطة (الصائمة) فقد مات منها الثلث (خمسة) وعاش بقية الثلثين بفرح وصحة. ويقول الباحث فايندروخ، الذي قاد التجربة كل هذه الفترة بصبر ودأب: ليس هذا فقط، بل بدأنا نستوعب أهمية فائض الحياة الذي يحققه الصيام. الصيام يمد في العمر، وفي القرآن : وأن تصوموا خير لكم، ولم يجرب المسيح من الشيطان إلا بعد صوم ثلاثين يوما، فلما جاع أخيرا جاءه الشيطان يجربه، ففاز فوزا عظيما، وانتصر على أوهام الشيطان، حين أراد امتحانه، في مجموعة تجارب: أن يرمي نفسه من مكان شاهق فتتلقفه الملائكة ولا تترضرض سلقه من خدش؛ وأن يطلب ثروات العالم؛ أو أن يعيش من الطعام دون الكلام. فكان جوابه لا تمتحن الرب إلهك، وملكوت السماوات أفضل من غرور العالم، ولا يحيا الإنسان بالخبز وحده، بل بكل كلمة طيبة! أما موسى فقد دخل نفس التجربة، فواعده الرب ثلاثين ليلة، ثم أتمها بعشر فتم ميقات ربه أربعين ليلة، ثم ذهب للقاء الله.. وعند الحيوانات ثبت أن الصيام يمد عمرها.. ثبت هذا عند خلايا الفطور والعناكب والذباب والسمك والفئران والجرذ، ويسمون هذا «تحديد الكالوري»، ووضعوا له قاعدة عامة تقول: من يأكل 30 إلى 50 % أقل يعش أكثر ب30 إلى 50 % من نسبة العمر أكثر. بل وأهم من ذلك: من يصمْ يبقَ في نجاة من العديد من الأمراض، فالصوم لا يطيل العمر فقط بل يطيله وبصحة وافرة، فيخلص من السكري الثانوي والسرطان وجلطات الدماغ والعته الشيخوخي والخرف، وإن حصلت هذه الأمراض فإنها تأتي متأخرة وليس من النوع الشديد. ويبدو أن نظام تحديد الكالوري ينشط ويحرض آليات البقاء القديمة، فهو يمنح الهدوء للأعضاء المعنية، بحيث تنخفض درجة الحرارة نصف درجة، وهو ما يتيح لآليات ترميم الخلايا العمل أفضل.. وبالنسبة إلى التجارب التي بين أيدينا على القرود مازالت تنقصنا البينات على أثر الجوع في بني البشر كما هو الحال عند قردة الريسوس. وهناك من الدراسات التي قامت بها جامعة ولاية لويزيانا على بني البشر، فقد طبقت نظام الحمية على 24 من المتطوعين لتنزيل وزنهم، فسمحت لهم بتناول 75 إلى 88 % من حاجتهم من الكالوري، وبعد ستة أشهر قامت بدراسة الوظائف الحيوية عندهم، فتبين وجود دلالات واضحة على سكر أفضل في الدم وجينات بوضع أصح، بكلمة أدق: أذى أقل في تركيب الكود الوراثي.. وهناك دراسة أخرى أظهرت نقصا واضحا في شحوم الدم، مما جعل الباحث فايندروخ يقول إن الصيام يقي من أمراض القلب والأوعية الدموية. وهي في كثير من الأحيان قاتلة.. ولكن المشكلة في هذا الموضوع جدل متناقض يذكر بقصة أهل روما، الذين كانوا يلتهمون الأطعمة، ثم يلجؤون إلى (مقاييء) خاصة فيها يتقيؤون الطعام، ليرجعوا من جديد، فيتذوقوا طعاما آخر أطيب. أو ما نلاحظه عند بعض النساء من عقل الفم بالأسلاك، أو لف المعدة بالبالون، كله من أجل الجمع بين أمرين: متعة الطعام مع طول العمر والصحة والرشاقة.. وهي أمور لا تجتمع، فليس من سبيل إلى الصحة إلا بالصوم والصوم المديد المتتابع ومعه الحرمان من متعة الطعام؟..