انشغل العالم خلال الأسبوعين المنصرمين بفيروس جديد خرج من المكسيك لتطال عدواه 23 دولة في مختلف القارات. ورغم أن ضحاياه مازالوا يعدون بالعشرات، فإنه خلف هلعا لا يمكن أن يخلفه غير وباء قاتل. ولهذا بادرت الدول المختلفة إلى اعتماد أقصى درجات الحذر، وهيأت اللقاحات والأقنعة لمواجهة الأسوأ. ولم يكن المغرب ليبقى بمنأى عن الموضوع، خاصة أنه يجاور أكثر البلدان الأوربية تأثرا، إسبانيا التي ترتفع حالاتها المحتملة يوما عن يوم، بسبب العلاقات الوطيدة التي تربطها بالمكسيك. ودواعي التخوف نابعة من مئات الآلاف المغاربة من الذين يدخلون سبتة ومليلية يوميا بدافع التهريب المعيشي، أو المهاجرين الذين يعود جلهم إلى أرض الوطن عبر التراب الإسباني، إضافة إلى مئات الآلاف من السياح. كما أن هذه الأنفلونزا أعادت حيوان الخنزير إلى الواجهة، سواء من حيث تربيته، أو استهلاك لحومه، أو المواد الغذائية المهربة التي تستعمل في صناعتها دهون الخنازير، بما فيها بعض أنواع البسكويت والشوكولاطة. لكن هل الخنزير كله مساوئ، ولعل آخرها الأنفلونزا المرتبطة باسمه؟ فالثابت أنه ظل مصدر بعض الأدوية منذ زمن ابن سينا، وأكثر من ذلك أن البعض يذهب إلى أنه قد يكون مستقبل الإنسان كما جاء في مجلة «ماريان». أما عن أعداد الخنازير الداجنة في المغرب وتوزيعها الجغرافي فإنه يصعب إعطاء، تقدير دقيق لأعدادها على اعتبار أن الخنازير البرية تعيش في الغابات . أنسولين مرضى السكري يصنع من بنكرياس الخنزير القليلون فقط من يعرفون أن الحرب على الخنزير يجب ألا تتحول إلى إبادة شاملة لهذا الجنس الحيواني، فبفضل الخنزير يستمر الملايين من البشر من رجال ونساء وأطفال في العيش، فقط لأن المختبرات الطبية العالمية تنتج مادة «الأنسولين» لمرضى داء السكري من بنكرياس الخنازير. في ثقافتنا الشعبية وموروثنا الديني، عادة ما تشتق وتقترن القذارة في شقيها المعنوي والمادي بالخنزير، وهو من آكلات العشب واللحوم، ويقتات على القاذورات والفضلات، ويفضل أكل الفئران والجرذان والجيف والميتة، وبالرغم من تطور تربيته في مزارع خاصة بأوربا فقد أثبتت التجارب أن الاقتصار في تغذيته على الأعشاب والنباتات السليمة والطاهرة لا يساعد على نموه العادي، وأن أنيابه وشكل أمعائه ومعدته يجبلانه على أكل اللحوم. في الدين الإسلامي، حرم الله تعالى في كتابه العزيز أكل لحم الخنزير في أربعة مواضع من سور البقرة والمائدة والنحل والأنعام، بشكل بلاغي صريح لا لبس أو اجتهاد فيه، وفي الإنجيل قال عيسى عليه السلام: «لم آت لنقض الناموس بل لأكمل فيه»، بمعنى أنه لم يأت ليغير التشريعات اليهودية بل ليكملها، ومن ضمنها تحريم أكل لحم الخنزير. وفي سنة 2007، جدد البابا شنودة، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، طلبه للمسيحيين وأتباع كنيسته بعدم تناول لحم الخنزير، قائلا: «إنه رغم عدم تحريم أكل هذا النوع من اللحم، فإن تناوله يتسبب في إصابة الإنسان بالعديد من الأمراض كونه يحتاج إلى طهي جيد، ولأنه من الحيوانات التي تتناول القاذورات والمخلفات غير النظيفة». في كتابه «إحياء علوم الدين»، أورد أبو حامد الغزالي اجتهادا فقهيا أحل بموجبه بعض المحرمات على أساس قاعدة أن الأذى إنما يحل بالضرورة، وقال بهذا الخصوص: «لأن الأذى إنما يحل بضرورة، وهي أن يكون السائل مشرفاً على الهلاك ولم يبق له سبيل إلى الخلاص ولم يجد من يعطيه من غير كراهة وأذى، فيباح له ذلك كما يباح له أكل لحم الخنزير وأكل لحم الميتة، فكان الامتناع طريق الورعين». أما ابن حزم، فقد أورد في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» أن طوائف من المعتزلة كانت قد غلت فقالت بتناسخ الأرواح، وآخرون منهم قالوا إن شحم الخنزير ودماغه حلال، كما هو شأن أبي غفار، أحد شيوخ المعتزلة، الذي كان يزعم بأن الشحم والدماغ من الخنزير حلال، أما الجاحظ في كتابه التحفة «الحيوان»، فقد نقل عن أبي إسحاق قوله في وصف الخنزير: «هو قبيح المنظر، عاري الجِلدِ، ناقص الدّماغِ، يلتهم العَذِرة ويأكل الجرذان صحاحاً والفأرَ، وزَهِمٌ لا يُستَطاعُ أكلُه إلاّ محسِيّاً ولا يتصرَّفُ تصرُّفَ السمك، وقد وقع عليه اسم المِسْخ، لا يَطِيب مملوحاً ولا ممقوراً، ولا يؤكل كباباً، ولا يُختارُ مطبوخاً، ويُرمَى كلُّه إلاَّ ذنَبه». وفي كتابه الشهير «الامتاع والمؤانسة»، يتحدث أبو حيان التوحيدي عن الخنزير بقوله: “والثبات الذي في طباع الذئب، والتحرز الذي في طباع الجاموس من بنات الليل، والحذر الذي في طباع الخنزير، والتقدم الذي في طباع الفيل أمام قطيعه تمثلاً بصاحب المقدمة، ولهذا قال بعض الحكماء: خذ من الخنزير بكوره في الحوائج، ومن الكلب نصحه لأهله، ومن الهرة لطف نفسها عند المسألة. وقالت الترك: ينبغي للقائد العظيم أن تكون فيه عشر خصال من ضروب الحيوان: سخاء الديك، وتحنن الدجاجة، ونجدة الأسد، وحملة الخنزير، وروغان الثعلب، وصبر الكلب، وحراسة الكركي، وحذر الغراب، وغارة الذئب، وسمن بعروا، وهي دابة بخراسان تسمن على التعب والشقاء، الخنزير إذا تمت له من ولادته ثمانية أشهر ينزو على الأنثى، والغراب يعادي الثور والحمار وينقرهما، والحية تعادي الخنزير وابن عرس، لأنهما يأكلان الحية حيث وجداها. وفي الشعر العربي، من النادر جدا أن نجد بيتا شعريا يذكر فيه اسم الخنزير، إلا ما تسرب من شعر البياري في هجاء بن جرير بقوله: «ولقد رأيت مكانهم فكرهتهم ككراهة الخنزير للإيغار»، وهو بيت نادر أورده الميداني في كتابه «مجمع الأمثال». أما الزمخشري في كتابه «أساس البلاغة»، فقد وصف جلد الخنزير ب«الجلد الذي لا يندبغ»، أي لا تسري عليه دباغة الدباغين لباقي الجلود الحيوانية. وفي قاموس «العين» للخليل ابن أحمد، عرف هذا الأخير صوت الخنزير بالقَبَع، ويقال قبع الخنزير بصوته قَبْعاً وقُباعاً، فيما الخنص أو الخِنَّوْصُ هو ولد الخنزير، وجمعه: خَنانِيصُ. لكن أحد أغرب وأندر ما كتب عن الخنزير في تراثنا العربي الإسلامي هو ما أورده العالم والفيلسوف ابن سينا (980 م/1037 م) في كتابه الشهير «القانون في الطب»، الذي ترجم إلى كل لغات العالم، ووصفه علماء أوربا بأمير الأطباء وبأبي الطب، وهو أول من ألف عن الطب في العالم، وبقي كتابه الشهير يدرس ويعتمد كليا في تدريس الطب في كل جامعات العالم حتى نهاية القرن التاسع عشر الميلادي. يقول ابن سينا عن الخنزير في كتابه «القانون في الطب»: «بول الخنزير يفتت الحصاة في الكلية والمثانة ويدرهما، وبول الحمار ينفع من وجع الكلى، وبول الإنسان مطبوخاً مع الكراث ينفع من أوجاع الأرحام إذا جلس فيها خمسة أيام كل يوم مرة. دم الإنسان ودم الخنزير متشابهان في كل شيء، واللحمان متقاربان في كل شيء، حتى إنَ واحداً كان يبيع لحم الناس على أنه لحم الخنزير، فخفي ذلك إلى أن وجدت فيه أصابع الناس. قالوا: ومن أراد أن يجرب شيئاً على دم الإنسان، فليجربه على الخنزير، فإنه وإن كان أضعف قوة من دم الإنسان، فهو شبيه به، ونحن سنكتب الأشياء المنقولة في الدم وأكثرها غير معتمد». إستعمال أعضاء الخنزير لتعويض أعضاء بشرية مريضة يبدو أن أعضاء الخنزير هي، حسب العلماء والخبراء، الأفضل من أجل تعويض أعضاء شخص مريض، فلأعضاء الخنازير فضائل بالمقارنة مع أعضاء القردة، بالرغم من أن هذه الأخيرة تعد، فيزيولوجيا ومناعيا، قريبة من الإنسان. ومع ذلك، يعتقد الخبراء أن طريق زراعة أعضاء الخنازير داخل أجسام من يحتاجون إلى ذلك من مرضى البشر مازال طويلا... كل شيء في الخنزير جيد، هذه العبارة نسمعها، عادة، على لسان بائعي لحم الخنازير، ولكننا لم نتوقع أن نسمعها على لسان الأطباء والجراحين. مع ذلك أنتم لا تحلمون: ففي الوقت الذي تعتبر فيه زراعة الأعضاء البشرية أحد أهم وساوس الطب الحديث بسبب الخصاص الكبير في بعضها، مثل الكليتين، اختار الأخصائيون، في العالم بأسره، الخنزير لأن يكون المزود الرسمي للإنسان بمثل هذه الأعضاء في المستقبل. وقد بدأت الاستعمالات الطبية للخنزير لعلاج بعض الأمراض البشرية في الغرب، فحوالي 180 مريضا في العالم يعيشون، الآن، بفضل الخنزير. فعلى سبيل المثال، في الولاياتالمتحدةالأمريكيةوفرنسا، 43 شخصا استفادوا من «كبد طبيعية اصطناعية»، أي من أكياس تحتوي على خلايا كبد الخنزير، وهي تساهم أو تساعد على تصفية الدم لدى شخص مصاب بداء الفيروس الكبدي. وهذه التصفية لا تدوم إلا يوما واحدا أو يومين على الأكثر، وذلك في انتظار أن يتم زرع كبد حقيقية. وتعد مثل هذه العمليات هي المحاولة الوحيدة المرخص بها حاليا في فرنسا، وبشكل خاص في مستشفى بول بروس بتعاون مع الشركة الأمريكية سيرك بيوميديكال. أما في روسيا، فإن عشرات المرضى تلقوا علاجا مماثلا، ولكن هذه المرة باستعمال طحال الخنازير. أما في ما يخص «الأنسجة الخلوية»، فإن 14 مريضا من نيوزيلاندا خضعوا لعمليات زرع أجزاء من بنكرياس الخنزير، و20 شخصا ألمانيا تعرضوا لحروق خطيرة خضعوا لعملية زرع جلد خنزير. كما أنه منذ حوالي ثلاثين عاما، يعد الخنزير أهم مورد لصمامات القلب. إن الخنزير أصبح يفرض نفسه كأهم مورد ل«قطع الغيار» بالنسبة إلى الإنسان، إلى درجة أن التوقعات هي الآن أكثر تفاؤلا، فقد أبرزت دراسة دولية، أنجزت عام 1996 بين أخصائيي زرع الأعضاء، أن أولى المحاولات الطبية لزرع كبد وقلب خنزير بدأت منذ 2002، وأن ممارسة عادية لهذه العمليات ستتم حوالي 2010. وقدر المحللون الماليون السوق المفترض لعمليات زرع من هذا القبيل، بحوالي 30 مليون فرنك فرنسي. وإذا كان ثمن الخنزير تهاوى في الشهور الأخيرة، فإنه من المحتمل أن يصل إلى أرقام خيالية، ولكن ليس من أجل الاستهلاك وإنما لأهداف طبية. غير أن الطريق مازال طويلا ومزروعا بالعراقيل. فإلى حد الآن، كل المحاولات الهادفة إلى زرع قلب أو كبد أو كلية خنزير أو أي نوع آخر من الحيوان، باءت بفشل ذريع. ومن أجل كسب الوقت، فإنه كان من السهولة اختيار الشامبانزي، مثلا، من أجل مد الإنسان بأعضاء سليمة على اعتبار أنها الأقرب إلى الإنسان على المستوى الفيزيولوجي. غير أنه فضلا عن كون هذه الأنواع محمية بسبب أنها في طريقها إلى الانقراض، فإن إنتاج الخنازير سهل بالمقارنة مع الشامبانزي. هذا دون أن ننسى أن تطور الشامبانزي بطيء (من سبع إلى عشر سنوات)، في حين أن الخنزير ينمو بسرعة خلال ستة أشهر. كما أن خطر العدوى هو أكبر بين الأنواع القريبة، مثل الإنسان والقرد، منه بين الأنواع البعيدة: فالفيروسات، في حالة الأنواع القريبة، يمكنها أن تتأقلم بدون مشاكل لدى الإنسان ويمكن أن تكون قوية. غير أن تقريرا، نشر في أكتوبر الماضي من طرف إحدى المؤسسات الفرنسية المختصة في زرع الأعضاء، يخالف هذا الرأي. وفي هذا الإطار، يقول الدكتور جون جيلفيز، المسؤول عن وحدة سلامة زراعة الأعضاء: «إن الأوبئة الكبرى التي شهدتها الإنسانية كان السبب فيها الأنواع البعيدة. فالطاعون يتأتى من الفئران والحمى الصفراء من الذباب، والأنفلونزا يمكنها أن تتأتى من الإنسان كما من الخنازير أو من البط». ويظهر التقرير أنه، إلى حد الآن، من المستحيل تقييم الأخطار الحقيقية للعدوى بالنسبة إلى الإنسان خلال عمليات زرع الأعضاء كيفما كان نوعها. ويبقى المشكل الحقيقي الذي يعترض مثل هذه العمليات والذي يصعب حله، هو مشكل عدم تقبل العضو المزروع. فخلال عمليات زرع الأعضاء، فإن النظام المناعي لمستقبل العضو المزروع يعتبر هذا الأخير كدخيل، وبالتالي، فبدون علاج مناسب، فإن عضوا بشريا مزروعا لا يمكنه أن يقاوم إلا ثلاثة أسابيع داخل جسم آخر قبل أن يطرد، وعضو قرد يبقى فقط ثمانية أيام، في حين أن عضو خنزير يبقى فقط ثلاث دقائق. ومن أجل حل هذه الإشكالية، عمد الخبراء إلى فكرة فريدة من نوعها، وهي «خنزرة» الإنسان. وتقضي هذه الطريقة بحقن المريض المراد إجراء عملية زرع عليه، بخلايا الخنزير الذي ستؤخذ منه الأعضاء، حتى يتأقلم النظام المناعي البشري مع خصائص جسم الخنزير. غير أن هذه الطريقة لم تلق الترحيب من قبل العلماء. وبالمقابل، يبدو تقريب الخنزير من الإنسان هو الحل الأمثل. فالأخصائيون في علم الوراثة يبحثون في «أنسنة» الخنازير من أجل جعل أعضائها قابلة للتأقلم داخل الجسم البشري. وبفضل هذه الطريقة، فإن الباحثين يحقنون جينات بشرية داخل أجنة خنازير، والهدف هو إنتاج خنازير تقترب جينيا، إلى حد كبير، من الإنسان. النتائج كانت مخيبة للآمال، ولكن بعض الفرق العلمية تتقدم بشكل أسرع، مثل فريق دافيد وايت بإنجلترا الذي تمكن في 1995 من إنتاج خنزير على هذه الشاكلة. غير أن هذه المحاولات لم تمر دون أن تسجل موجة من الاحتجاجات.