تسلق سلم النجاح درجة درجة، لم يُغرِه المال ولم يشأ يوما أن يمد يده لطلب ما تعفف عنه طيلة حياته، وعندما كان يسأله الملك الراحل الحسن الثاني عن حاجته كان يقول «عطفك علي ورضاك», وكانت أسعد لحظات حياته عندما أهداه الملك جلبابا لازال في حوزة العائلة للذكرى. لقد عاش الفنان الراحل محمد بلقاص لخدمة الفن والمسرح، ولم يشأ أن يستغل نجوميته لتحقيق مآرب شخصية مثل بعض الفنانين، وعندما مات لم يترك لأبنائه سوى دين قدره 45 مليون سنتيم حيال البنك. «المساء» استضافت ابنه نور الدين الذي كشف في هذا القاء من جوانب كثيرة مجهولة من حياة هذا الفنان الذي خدم المسرح المغربي لأكثر من 30 سنة. - ما هو الإرث الذي تركه لك والدك محمد بلقاص؟ > ترك اسما بناه بجهده وكفاحه، وبالمناسبة فهو ليس اسمنا الحقيقي كما يظن جل الناس، بل كنا مضطرين إلى تغييره من «بيوس» الى بلقاص، كما ترك لنا سمعة طيبة في كل ربوع المملكة، خاصة وأنه عرف بسلوكه المستقيم وتعامله الجيد. لقد كان رحمه الله متواضعا إلى درجة لا يمكن تصورها. - ما الذي افتقدته في والدك بعد مرور ست سنوات على وفاته؟ > افتقدت الصديق قبل الأب. وعندما تزوجت تغيرت علاقتنا وأصبحنا صديقين يتحدثان في مختلف الأمور. وقد كان سعيدا وهو يرى أبناءه يكبرون ويدخلون معترك الحياة من بابها الواسع، معتمدين في ذلك على إمكانياتهم وقدراتهم الذاتية فقط. ورغم أن والدي محمد بلقاص لم يدخل مدرسة في حياته، فإنه كان من الصعب على أي شخص كيفما كان أن يستخف بذكائه. - من هي عائلة محمد بلقاص وكم ترك من الأولاد؟ > أنا أوسط إخوتي. شقيقتي أمينة هي البكر، يليها يوسف وأنا ثم فاطمة الزهراء وآخر العنقود منير، إلا أنني كنت الأقرب إليه من بين إخوتي. -ما هي الصفات التي كانت تميزه؟ > عرف عن بلقاص أنه كان لا يعطي رأيا إلا بعد الاستشهاد بالأمثلة والحكم والمأثورات. لقد كان كلامه موزونا، وكان يحفظ بسرعة ومولعا بحفظ الأمثلة والحكم التي كان يسردها باستمرار على مسامعنا. طفولة قاسية - كيف كانت طفولته؟ > غادر والدي بيته من فطواكة، الواقعة ناحية دمنات، في سن مبكرة رفقة إخوته إلى مراكش مشيا على الأقدام، وقد تنقل عبر حرف ومهن كثيرة. حيث كان في البداية يغسل الخضر ويحملها إلى الأسواق، ثم انتقل إلى العمل في المزارع والضيعات يجني الزيتون، وبعد ذلك انتقل للعمل في الدارالبيضاء عند شخص يدعى عمي حسن. وكان دكان البقالة الذي عمل فيه هو المدرسة التي تعلم فيها الكتابة والقراءة والحساب. - ومتى بدأ مسيرته الفنية وهل كان يتميز بروح الدعابة في البيت؟ > منذ صغره كان والدي محبا للدعابة والنكتة، وكان عندما يغادر مكان تجمعات الأصدقاء والمعارف يترك الجميع غارقين في الضحك. لقد بدأت موهبته في الإضحاك والعرض في سن مبكر. - هل ورث أحدكم عنه موهبته الفنية؟ > عندما كنت صغيرا شاركت في مسرحيات وأنشطة مدرسية، ولما لاحظ والدي, رحمه الله, ميلي للفن انتهز الفرصة في إحدى العطل الصيفية وطلب مني أن أرافقه في جولة عبر المغرب لعرض إحدى مسرحياته، وكانت فرصة جعلتني أعرف مجموعة من الحقائق التي كنت أجهلها عن حياة الفنانين آنذاك وعن معاناتهم، حيث رأيت بأم عيني كيف بكي فنان من الجوع بعد أن انتهى من عرضه المسرحي، وكيف كان بعض الفنانين ومن بينهم والدي ينامون داخل حافلة قديمة. وقد جعلتني هذه التجربة أتخلى عن طموحي الفني، خصوصا عندما اضطررت للمبيت ذات ليلة فوق الحافلة رفقة سبعة أشخاص آخرين من أعضاء الفرقة، خوفا من العقارب والأفاعي. - كيف كانت علاقته بوالدتكم؟ > كانت مبنية على الود والاحترام المتبادل, إلى درجة أنها لم تتحمل فراقه وفارقت الحياة سنتين بعد وفاته، وقد دفنت رحمها الله عند قدميه. - كيف تعرف عليها وهل كانت تمارس العمل المسرحي مثله؟ > مثلت والدتي إلى جانبه في مسرحية «الحراز» لعبد السلام الشرايبي، وفي مسرحية «الزواج بلا إذن»، فأعجب بها وتم الزواج. لكن بعد ولادتنا ابتعدت أمي الحاجة عائشة عن الخشبة بسبب انشغالها بالبيت وتربية الأطفال. وقد كانت ترافقه أحيانا في جولاته وهو يتعقب مباريات سباق الدراجات لأنه كان مهووسا بهذا النوع من الرياضة. - ما هي أهم العيوب والميزات التي اشتهر بها محمد بلقاص؟ > كان صارما وحازما، وكنا بمجرد ما نسمع صوت محرك سيارته نتجمد في مكاننا دون حراك. وكان رحمه الله يفضل الطاجين المغربي ويحب «العصيدة». كما كان كريما إلى درجة كبيرة، وكل الذين عايشوه يعرفون عنه ذلك، وحتى في أحلك الظروف كان بيتنا يعج بالضيوف، وكان يتصرف كما لو كان غنيا ولديه مال كثير. - هل هناك لحظات معينة افتقدت فيها والدك؟ > عندما كنت طفلا ألمت بي أزمة صحية أرغمتني على إجراء عملية جراحية لإزالة الدودة الزائدة، وكان والدي وقتها في جولة فنية في بعض المدن الصحراوية، ولما اتصل للاطمئنان على أحوالنا أخبرته والدتي بأنني مريض، فطلب منها أن تتصل بأحد أصدقائه ليتكفل بكل شيء، ولم يأت والدي إلا بعد مرور عشرة أيام تقريبا. - وما الذي كان يفعله ليعوضكم غيابه الدائم عنكم؟ > كنا نسافر معه لقضاء عطل قصيرة، إلا أنها كانت تكفينا للاستمتاع برفقته. لم يكن يحرمنا من شيء، ولم يكن يبخل علينا بشيء في حدود إمكانياته المتواضعة. وقد أضاع والدي رحمه الله فرصا عديدة كان من الممكن أن تنقله آنذاك إلى حياة مترفة. - هل كان يتقبل انتقادات الآخرين لأعماله؟ > كان والدي يتقبل انتقاداتنا لأدواره ويناقشنا فيها، وأحيانا كان يعترف بأنه كان غير مقنع في بعض المشاهد. - وكيف كانت علاقته برفيق دربه عبد الجبار الوزير؟ > كانت تربطهما علاقتان منفصلتان. فهناك العلاقة الفنية التي بدأت قبل 44 سنة تقريبا ، ثم العلاقة الإنسانية. لقد تعرفا على بعضهما قبل أن يتزوجا، وبعد ذلك ستنشأ صداقة قوية لازالت مستمرة إلى غاية اليوم بين العائلتين. وبالنسبة إلى العلاقة الفنية فقد كان يكفي أن ينظر أحدهما في عين الآخر لكي تصل رسالته، خاصة وأن والدي كان سيد الارتجال في المغرب دون منازع. - ماذا تذكر عن أيامه الأخيرة؟ > مباشرة بعد عودته من أكادير بعد جولة فنية أصيب أبي بأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى في مراكش، وقد تكفل الراحل الحسن الثاني رحمه الله بمصاريف علاجه، واستطاع أن يتجاوز تلك المحنة التي عاودته مرة ثانية لأنه كان مصابا بداء السكري بالإضافة إلى مرض القلب، وفي تلك الفترات تكفل به الملك محمد السادس. لكن إرادة الله كانت أقوى من كل شيء حيث اختاره الله إلى جواره. - وكيف تلقى الفنان عبد الجبار الوزير نبأ وفاة الوالد؟ > انتابه حزن عميق بسبب فقدان صديقه، إلى درجة أنه طيلة فترة العزاء لم يبرح مكانه في بيتنا إلا للصلاة. فقد كان أخا وصديقا ورفيقا في مسيرة فنية دامت أزيد من أربعين سنة. علاقته بالحسن الثاني - معروف أن محمد بلقاص كان يقدم عروضا في حضرة الملك الراحل الحسن الثاني. كيف كانت علاقته بالملك الراحل؟ > كانت تجمعه علاقة طيبة بالراحل الملك الحسن الثاني. وكان كلما حل هذا الأخير بمراكش استدعاه لتقديم جديده، وأذكر أنه أثناء آخر عرض قدمه أمام حضرته أهداه الملك جلابة لازالت تحتفظ بها شقيقتي أمينة، ونحن نعتز بها كثيرا. لقد كان والدي متعففا إلى درجة كبيرة، حيث يحكي الذين عايشوه بأنه لم يكن يطلب من الراحل الحسن الثاني رحمه الله إلا رضاه وعطفه. لقد بتنا اليوم نشاهد بعض الفنانين يملكون رخص سيارات «كريمات» وشققا لا تعد ولا تحصى، في حين أن والدي لم يترك لنا سوى دين قدره 45 مليون سنتيم حيال البنك. لقد دفع ثمن اختياراته الفنية. للأسف فأنا لا أفهم لماذا يتفادى الفنانون والمثقفون الحديث عنه، وما يحز في نفسي هو أن أرى الناس يتجاهلون محمد بلقاص، حيث لا أحد يفكر في تكريمه رغم من مرور ست سنوات على وفاته. لقد كان والدي زاهدا في الدنيا ولم يهتم قط بجمع المال الذي كان آخر انشغالاته. - هل سهل اسم بلقاص عليكم بعض الأمور؟ > لا أنكر ذلك لأنه كان يحظى باحترام العديد من الناس، وأعترف أنني عندما أدخل مؤسسة عمومية أو خاصة تقضى حاجتي، وهذه وحدها تكفي لأن تعوضنا عما يتعرض له تاريخ والدي من تجاهل. - من كان أقرب الفنانين والفنانات إليه؟ > كان الحاج كبور ركيك رحمه الله من أقرب الفنانين إليه، وكان يعتبره واحدا من العائلة، وكذلك أصدقاؤه من فرقة الوفاء المراكشية، أما سي عبد الجبار الوزير فقد ظلت العلاقة قائمة بعد أن أصبحت علاقة عائلية، أما عن علاقته بالفنانات فقد كانت فضيلة بنموسى تحظى بمعزته، وكذلك ثريا جبران. - وهل لازالت ثريا جبران تتصل بكم بعد وفاة الوالد؟ > للأسف لا. - كيف يرى الأحفاد محمد بلقاص؟ > ابني يشبهه كثيرا، فهو يهوى التمثيل مثله ومهووس بترديد الأمثلة والمأثورات التي لا أعرف من أين يحفظها. - ماهي الأمور التي لم يسعفه الوقت لتحقيقها؟ > كان يريد أداء دور سيدي عبد الرحمان المجدوب، ولازلت أحتفظ ببعض الأوراق التي كتبها بخط يديه. أما على المستوى المادي فلم تكن له أية تطلعات، باستثناء مشروع خياطة كان أبي قد جند له كل إمكانياته، لكن للأسف لم ينجح بسبب بعض الظروف الخارجة عن إرادته. وعندما كنت ألفت انتباهه إلى هؤلاء الذين يملكون «الكريمات» كان يرد علي «لا أقبل أن أصبح علكة في أفواه الناس». - ما الذي تنتظره من الفاعلين والفنانين في المدينة؟ > ما إن طرح أحد الفاعلين في المدينة اسم محمد بلقاص حتى رحبوا بالفكرة، وأطلقو على فضاء تابع لمندوبية الثقافة اسم محمد بلقاص، ولولا هذا الفضاء لما ذكر اسم محمد بلقاص في المدينة، حيث لم أعد أرى اسمه إلا في الكلمات المتقاطعة. - ما الذي يمكن فعله لتكريم ذكرى والدك؟ > لو كنت أملك المال لأنشأت مسرحا باسم محمد بلقاص.