هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات. اعتبارا من ذلك الحين، كنا نوقف دون انقطاع ونستجوب حتى أصبحنا على مرأى الغرض من سفرتي، ألا وهو بيت آجري من طابق واحد شيد مثله مثل سائر بيوت الريف، على خطوط استحكامية، وهو ينهض بصورة واضحة على جرف ينعطف النهر حوله في مجراه. وكانت سارية للعلم تنتصب عند مدخله، لكن ما كان يسمه على اعتباره مقر القائد هو خط هاتفي يمتد منه على أعمدة رقيقة عبر الوادي. وسرنا في اتجاه المنزل على طول درب زلقة عبر دغل من أشجار الصبار، يوقفنا ويستجوبنا في المطر المنهمر عربي بعد آخر، وجميعهم نحيلون، طوال القامة، جنود يتسلحون ببنادق الموزر في أيديهم وبالمسدسات الأوتوماتيكية المعلقة في خصورهم. وعلى الرغم من أني لم أفهم شيئا، فقد أدركت سريعا أن وصولي غير المتوقع قد أثار الشبهات. وأخيرا، بعد أمر قاطع بالنزول عن دابتي، أخذنا إلى مدخل باب واطئ يؤدي إلى مكان مدهون باللون الأبيض، خال من النوافذ، كانت البنادق فيه تتدلى من كلابات في الجدار. وهكذا وجدت نفسي في غرفة حرس عبد الكريم. وفي نهاية الأمر، بعد محاولة لاستجوابي بالإسبانية، وقد رددت عليها بالفرنسية، سجل ضابط الحرس بيانا طويلا عن الغرض من رحلتي وأرسله مع بطاقتي بوصفي المراسل الخاص للديلي ميل إلى عبد الكريم نفسه. وسرعان ما ظهر شاب يرتدي ثيابا أغلى ثمنا ويحمل حزاما جميلا لمسدس مصنوع من جلد قرمزي اللون، وقد قيل لي إنه أحد ضباط أركان السلطان. وكان يفهم قليلا من الفرنسية، وقال أخيرا بلباقة تامة بواسطة المترجم: لا تستطيع أن تبقى هنا، لأن الطائرات الإسبانية التي ألقت خمسا وسبعين قنبلة حول هذا المنزل اليوم وقتلت رجلا واحدا يمكن أن تعود. إن القنبلة الأخيرة سقطت هناك. وأشار إلى حفرة دنسة تقع على بعد ثلاث ياردات من الباب الرئيسي، وكانت الشظايا فيما حولها قد انغرست بالجدار في جميع الاتجاهات. وقال إنه سيبعث بي إلى منزل أحد القادة حيث يجب أن أبقى حتى يأتي في الغداة ليخبرني ما إذا كنت أستطيع أن أقابل عبد الكريم. وهكذا انطلقنا مرة أخرى، برفقة حامية من الحرس المسلحين، في المساء الذي راق الآن، في رحلة استغرقت ساعتين على طول سرير النهر، ووصلنا بعدما خيم الظلام بوقت طويل إلى منزل قضيت فيه يومين أنتظر في كفالة قائد ذكي بني اللحية كانت جميع سلع منزله، حتى المغلاة التي يعد بها الشاي، مسروقة من الجيش الإسباني. وكتب وارد برايس رسالة أخذت إلى عبد الكريم، فاقتيد في اليوم التالي إلى حضرة القائد الأعلى. حوالي منتصف الطريق إلى مقر القيادة، حيث كنت قبلا، استدرنا حول زاوية حادة في سرير النهر فوقعنا على مشهد يمكن أن يكون مأخوذا من مسرحية مثل «الإلاهة الخضراء». كانت الشمس تتألق بلمعان عظيم فوق الحجارة الرملية الحمراء للوهاد المجاورة وفوق الحصى البيضاء لمجرى النهر العريض. وكانت أدغال خضر شائكة تتدلى فوق مسيل المياه الذي كانت ساقية ضيقة تتدفق بصخب في منتصفه. وكانت جرادات كبيرة تنطلق في قفزات طويلة من إحدى الصخور الحارة إلى غيرها. وكان الأفق مغلقا من سائر الجهات بجبال خضراء شديدة الانحدار، بينما كانت نسور ثابتة الأجنحة تحلق في العالي، على قاع السماء الزرقاء الصافية، وتحوم دون انقطاع في دوريات لا تتطلب منها جهدا على الإطلاق. لكن الأعجب من هذا كله أن رجالا طوال القامة، ثابتي القوام، يرتدون ثيابا بنية فضفاضة وعمامات زرقاء خفيفة، كانوا يقفون على مسافة خمسين ياردة من بعضهم البعض في دائرة كبيرة تضم جانبي مجرى النهار، وقد جمدوا جميعا في وضعية الاستعداد وبنادقهم إلى جانبهم.