هذه هي قصة شعب «الريف» وقد هب في العشرينيات من هذا القرن، بقيادة رجل يدعى عبد الكريم، يحارب إسبانيا الطامعة في أراضيه، وذلك بالسلاح الذي يكسبه منها في ميادين القتال، فينزل بها هزائم يشهد المؤرخون أن أية دولة استعمارية لم تمن بمثلها قط، كما يشهدون على أنه كان لها أكبر الأثر في تطور الأحداث في ما بعد في إسبانيا بالذات. عين عبد الكريم أربعة آخرين من أقربائه في مراكز حساسة، فقد عهد بالشؤون الخارجية إلى أحد أصهاره يدعى سيدي محمد أزركان، وبالشؤون الداخلية إلى رجل آخر من أجدير يدعى اليزيد بن حجي، كما أن صهريه عبد السلام ومحمد بوجبار عينا لوزارة المالية ورئاسة أمانة الوزارة. ولقد حدثني بوجبار عن التنظيم الريفي، موضحا لي أن الأعمال الورقية كانت مقصورة على الحد الأدنى، وكانت الأوامر تنقل، حيث كان ذلك مستطاعا، بواسطة رسل يطلب منهم تكرار التعليمات المعطاة إليهم قبل الانطلاق إلى الوجهات المحددة لهم، وكانت الضرائب، وهي بدعة جديدة في الريف، تجمع من قبل المجالس المحلية التي كانت تسلم المال إلى الدولة ؛ وكانت هذه الرسوم تزداد بفضل الهبات الفضية والذهبية المقدمة من نساء الريف. وروى لي بوجبار أن عبد الكريم كان راغبا في اتخاذ الدستور البريطاني كمثال لدولته الريفية، وقد أصدر تعليماته إلى وزير الشؤون الخارجية من أجل الحصول على نسخة من هذا الدستور من عملائه في طنجة، ولكم كانت دهشته كبيرة حين علم أنه لا وجود لأي دستور بريطاني مكتوب. ولقد أدخل عددا من التغييرات الثورية على القانون الريفي، مبدلا العرف الذي حكم أهل الريف أنفسهم به طوال قرون عديدة، بحيث يتطابق مع الشريعة الإسلامية، ومثال ذلك أن القضاة ما كانوا من قبل يملكون حق المقاضاة إلا في القضايا المدنية وحدها، لكن عبد الكريم جعلهم مسؤولين عن القضايا الجنائية بدلا من أعضاء المجالس الذين لم يعرضوا على أية حال عن الاهتمام بقضايا من نمط السرقة والقتل. وألغى عبد الكريم القسم الجماعي الذي كان من قبل أسلوب الإثبات، مستبدلا إياه بالقسم الفردي من جانب المتهم، ففيما مضى، كان يطلب من الرجل المتهم باقتراف جرم ما إن يأتي بعدد من أقاربه ليقسموا معه على القرآن في يوم الجمعة التالي في الجامع المحلي، وذلك في حضور صاحب الشكوى أو موجهي التهمة إلى الرجل. وكان عدد المشاركين في اليمين يختلف وفقا لفداحة الذنب: ستة من أجل السرقة واثنا عشر من أجل القتل. وفي حالة القسم الجماعي بين قبيلتين، كان لابد من توفر خمسين مشاركا في اليمين، وإذا ما أخفق المتهم في تقديم العدد المطلوب من المشاركين في اليمين، أو إذا تعثر وهو يكرر صيغة القسم، فإن القسم «يكسر» إذن، وعندئذ لا بد له أن يدفع الغرامة المطلوبة. ويقول دافيد هارت إن عبد الكريم «قصر القسم على الفرد، قائلا إن المتهم وحده يستطيع أن يقسم، وذلك وفقا لمبادئ القرآن». وقد يبدو هذا النظام في أعين الغربيين مفتقرا إلى الفعالية، لكنه يجب عليهم أن يتذكروا قبلا أن قداسة القسم هي قداسة بالغة القوة في نظر المسلمين، وأنهم يؤمنون بأن الرجل الذي يقسم قسما كاذبا لا بد أن يقتص الله منه. وقد أصلح عبد الكريم أيضا القوانين المتعلقة بملكية الأرض وتوزيع المياه، مبسطا القوانين القديمة بما أدخله من دقة أعظم. وقد أصدر قانونا جديدا يستطيع بموجبه أن يصادر الأرض من أصحابها الذين لا يستطيعون زراعتها ويعطيها إلى أناس آخرين. وقد أعطي للجماعيات الآن، بالأحرى من الأفراد، الحق في تحديد استخدام مجاري المياه التي تجتاز أراضيهم. وحين سألت بوجبار: «هل كان عبد الكريم معترفا به كسيد من قبل جميع أهل الريف؟» أجابني بأنه كان ثمة بعض المنشقين، وبصورة رئيسية من أولئك الذين كانوا يأملون الحصول على ربح أعظم عن طريق التعاون مع الغزاة. ولقد علمت أن الإسبانيين رشوا، طوال فترة الحرب، عددا من الريفيين البارزين لمعارضة عبد الكريم، ويروي هارت أن اثنين منهم اعتقلا ونفذ حكم الإعدام فيهما، وكانت الغيرة هي حافز البعض الآخر، ويستشهد كون في كتابه لحم الثور البري ببقيش، أحد الزعماء الرئيسيين لقبيلة كسينا، الذي وصف عبد الكريم بأنه «قواد الإسبانيين الذي خان شعبه»، وبني ورياغل «منتفخون عنجهية».