كم كانت دهشة أحد الموظفين الصغار الذين يتنقلون بين الرباط والدار البيضاء عبر القطار كبيرة عندما ذهب لتجديد بطاقة اشتراكه الشهرية فاكتشف أنه مطالب، حسب التعرفة الجديدة للمكتب الوطني للقطارات، بإضافة مائة وخمسين درهما إلى المبلغ المعتاد. عندما احتج وطالب الإدارة العامة بتوضيحات كان هناك من أخبره بأن الزيادة جاءت بعد دراسة عميقة مبنية على برنامج معمول به في فرنسا يقسم اليوم إلى فترتين، «فترة زرقاء» هي فترة الذروة التي يستعملها الموظفون والعمال والطلبة، و«فترة بيضاء» لا يستعملها سوى القلة من المسافرين. وشرحوا له كيف أن الإدارة، لكي تشجع المسافرين على التنقل خلال الفترة البيضاء، فإنها رفعت سعر السفر في «الفترة الزرقاء»، مما يعني أن الإدارة تطلب عمليا من الموظفين والعمال والمستخدمين أن يغيروا مواقيت عملهم لكي يستفيدوا من أسعار «الفترة البيضاء» المخفضة مقارنة بأسعار الفترة الزرقاء. كما لو أن قرار تغيير مواقيت العمل يوجد بأيدي هؤلاء الموظفين الصغار وليس بأيدي رؤسائهم ومديريهم. ولكي يستفيد الموظفون الصغار والمستخدمون من «الطاريفة البيضاء» المخفضة، حسب التعرفة الجديدة، يجب عليهم أن يشتغلوا من الثانية عشرة إلى الرابعة زوالا ومن الثامنة مساء إلى ما بعد منتصف الليل. وبما أن الموظفين المغاربة جربوا، إلى حدود الآن، التوقيت الشتوي والتوقيت الصيفي والتوقيت الرمضاني، فأنا أقترح على ربيع الخليع أن يسمي هذا التوقيت الجديد بالتوقيت «اللي ما عند بوه لا ساس ولا راس». والمصيبة هي أنه عندما تزور الموقع الخاص بشركة السكك الحديدية الفرنسية التي نقل منها ربيع الخليع التعرفة البيضاء والتعرفة الزرقاء، نكتشف أن ثمن البطاقة البرتقالية la carte orange التي تعطي صاحبها الحق في التنقل على متن القطارات من 1 ألف إلى 6، لا يتعدى ثمنها الشهري 123.60 أوروها. أما ثمن بطاقة الانخراط الشهري في القطارات الرابطة بين الرباط والدار البيضاء فثمنها وصل مع الزيادة الأخيرة إلى 1200 درهم، مما يعني أن «الطاريفتين» الفرنسية والمغربية لا تختلفان كثيرا عن بعضهما البعض، طبعا مع الفارق الكبير في جودة الخدمات بين قطارات شركة السكك الحديدية الفرنسية والمكتب الوطني للسكك الحديدية المغربي. هل تعرفون الآن ما هي مأساتنا نحن المغاربة، إنها رغبة وزاراتنا ومؤسساتنا العمومية في تقليد فرنسا والدول المتقدمة فقط في أسعار خدماتها، وليس أبدا في جودة هذه الخدمات. عندما نقل غلاب وزير التجهيز نظام الغرامات المعمول به في الدول المتقدمة وحاول تطبيقه عبر مدونة السير على المغاربة، نسي أن تلك الغرامات الباهظة التي تفرض على مخالفي قانون السير في أوربا تحترم الدخل الفردي الخام لمواطني تلك البلدان، وإذا دفع مواطن فرنسي غرامة قدرها 4 آلاف درهم «جات معاه»، فمستوى الدخل الأدنى عندهم هو 12 ألف درهم في الشهر. ورغم أن الدخل الفردي الخام في فرنسا يضاعف الدخل الفردي الخام للمغربي بحوالي 12 مرة فإن هذا لم يمنع ربيع الخليع «مول الترانات» من استنساخ أسعار قطارات فرنسا وتطبيقها بحذافيرها على المغاربة بدون سابق إشعار. إن الوضع المنطقي والطبيعي هو أن تكون أسعار تذاكر القطارات في المغرب أقل مما هي عليه في فرنسا ب12 مرة على الأقل، بحكم أن فرنسا تنتج سنويا الثروة 25 مرة أكثر مما ينتجه المغرب، ويصل الدخل الخام الفردي فيها سنويا إلى 33600 دولار في مقابل 2700 دولار التي لا يتعداها الدخل الفردي الخام لكل مغربي. فكيف بالله عليكم يريد ربيع الخليع ووزيره في التجهيز الاستقلالي كريم غلاب القفز فوق كل هذه الأرقام والمعطيات من أجل وضع القدرة الشرائية للمغاربة في نفس مرتبة القدرة الشرائية للفرنسيين، مع أن ما بين الاثنين من تباعد هو نفسه ما بين السماء والأرض. وحتى إذا كان الرجلان مصابان بضعف البصر ولا يستطيعان قراءة هذه الأرقام التي يمكنهما العثور عليها في تقارير المندوبية السامية للتخطيط، فإنهما على الأقل مدعوان إلى تقليد فرنسا في البنيات التحتية لشبكة طرقها ووسائل نقلها العمومية قبل تقليدها في أسعار هذه الخدمات. ونحن مع فرض غرامات على مخالفي قانون السير تصل إلى أربعة آلاف درهم مثلما هو الحال في فرنسا، لكننا أيضا مع تجهيز الطرقات وتعبيدها وتوسيعها وتجهيزها بعلامات المرور والوقاية كما هو الحال مع طرق فرنسا. في فرنسا عندما يتعرض سائق لحادثة سير، يسارع إلى مكان الحادث رجال الشرطة ورجال الوقاية المدنية وسيارات الإسعاف المجهزة بكل وسائل الإنقاذ. وإذا كانت المنطقة جبلية تحضر الطائرات المروحية لتسريع عملية الإنقاذ. أما عندنا فعندما يتعرض سائق لحادثة سير فعليه أن ينتظر وينزف «على خاطرو» حتى يصل رجال الدرك ورجال الإسعاف، هذا إذا لم يسبقهم إليه عزرائيل. وأول شيء يقوم به بعض منعدمي الضمير والإنسانية من رجال الدرك والوقاية المدنية عندما يحضرون إلى مكان الحادث هو إفراغ جيوب الضحايا ومحافظهم من المال وانتزاع الأساور الذهبية والساعات والخواتم من معاصم وأصابع النساء، وإذا بقي شيء في ملكية الضحايا فإن بعض الممرضين في المستعجلات يتكفلون بإتمام المهمة. هكذا، عندما يستفيق كثير من ضحايا حوادث السير في المستشفى يجدون أنفسهم «ربنا خلقتنا»، ويكتشفون أنهم كانوا ضحية حادثتين وليس حادثة واحدة. وشخصيا، أعرف عائلات أصبحت تفضل السفر بجيوب فارغة سوى من مصاريف السفر، وبدون «دبالج» أو خواتم تجنبا للنهب في حالة وقوع حادثة. وطبعا، هذه الأشياء لا يعرفها كريم غلاب، لأنه لم يلتق ضحايا حوادث السير الذين تمت تعريتهم من معاطفهم وتجريدهم من أحذيتهم في مكان الحادث عوض المسارعة إلى إنقاذهم. وفي فرنسا، هناك دفتر للشكايات موضوع رهن إشارة مستعملي القطارات و«الميترو» لتسجيل شكاواهم وانتقاداتهم للخدمات التي تقدم إليهم على متن هذه القطارات. وتصبح الإدارة مجبرة على أخذ هذه الشكايات بعين الاعتبار من أجل إصلاحها. وفي كثير من الأحيان، يتم تعويض المسافرين الذين يتسبب تأخير القطار في عرقلة مشاريعهم المهنية أو ضياع مصالحهم. ونحن أيضا في المغرب عندنا في محطات القطارات دفتر للشكايات، قليلون هم الذين يقصدونه لتدوين شكاياتهم لمعرفتهم المسبقة بأن هذا الدفتر لا يقرؤه أحد، وإذا قرأه أحدهم فإنه لا يعير الشكايات المكتوبه فيه أية قيمة، والدليل على ذلك أن نفس الانتقادات التي توجه إلى خدمات السكك الحديدية منذ عشرين سنة هي نفسها، ومع ذلك لا شيء تغير نحو الأحسن، بل إن الخدمات في السنوات الأخيرة سارت من سيئ إلى أسوأ. وما لا يعرفه ربيع الخليع ووزيره في النقل هو أن كثيرا من المسافرين على متن قطاراتهما يجدون أنفسهم، رغم دفعهم لثمن التذكرة المرتفعة، مضطرين إلى السفر «بالواقوفي»، أي أن المكتب الوطني للسكك الحديدية لا يستطيع أن يوفر مقعدا لكل مسافر، وفوق ذلك يتجرأ على رفع سعر التذاكر. وهذه الوضعية لا يسلم منها حتى المسافرون على متن الدرجة الأولى حيث سعر بعض الرحلات يقترب من سعر الرحلات عبر الطائرات في الدول الأوربية. «بالعربية تاعرابت راكم زدتو فيه»، وطبعا لا نقصد الزيادة في الأسعار فقط وإنما الزيادة في الضحك على ذقون المغاربة بالخطابات الحكومية التي تدعي الحرص على قدرتهم الشرائية في الوقت الذي لا تذخر فيه وزارة غلاب جهدا لطحن هذه القدرة الشرائية برا وبحرا وجوا. فهل هي مجرد مصادفة أن تتزامن الزيادة في ثمن تذاكر القطارات مع زيادة شركات النقل البحري بين طنجة والجزيرة الخضراء بحوالي 35 في المائة، حيث انتقل سعر التذكرة الواحدة من 110 أوروهات خلال مارس الماضي إلى 157 أوروها مع بداية موسم عودة الجالية المغربية إلى أرض الوطن. إلى درجة أن جمعيات حقوقية، على رأسها جمعية «حقوق كونية»، هددت بشن حملة لمقاطعة عملية «عبور» لهذه السنة بسبب هذه الأسعار المجنونة. أما أسعار الرحلات الجوية عبر شركة الخطوط الجوية الملكية فتلك حكاية أخرى. وربما هذه هي الشركة الوحيدة في العالم التي تطبق أسعار مماثلة مقابل خدمات رديئة وتأخيرات تعد بالأيام وليس بالساعات. «الحاصول هاد الشي خصو شي تشطيبة بالما وسانيكروا»، لعل وعسى يفهم هؤلاء المسؤولون أن «ريحة شي وحدين فيهم عطات».