ارتياد الكتابة مِن باب الهواية لا يمكن أن ينتج عنه أدب ذو بال، لأن الهواية مبدئيا، وفي كل المجالات، تبقى مقترنة بممارسة عقلانية، نتصيد لها وقت الفراغ، ونجد لها المبرر، خاليا من حس الإفراط الضروري للخلق والتجاوز. إن البقاء داخل حدود المقاييس العامة، في الحياة وفي الكتابة، لا يمكن أن ينتج عنه إلا أدب غث، يتلمس طريقه بصعوبة نحو الفن. والكتابة بمنطق الهواية وشروطها لا يوفر العُصاب الضروري لكسر الحدود، واجتياز الحواجز، لاستحقاق ما حرصَ الشاعر الفرنسي، آرتير رامبو، على عيشه وتسميته من حداثة مطلقة. حداثة مَن باع ساعته، وانتعل نعالا من ريح، وهام على وجهه، من أجل نوع آخر من الشعر. كتابات عربية كثيرة، في مختلف أجناس الأدب، تفتقر إلى حس الانتهاك، لأنها نتيجة حساسية تقوم على الهواية وتربَّتْ في شروطها. حساسية تصبح أكثر ضغطا، عندما تتسلح بتصلب ذوق اجتماعي وسياسي يجعل الممنوع في مكانه الملائم لمُمارسة سطوته على الإبداع ورقابته على الخيال. إنها مُعينات خمول إرادة الخلق، التي تجعل الكتابة المنحدرة منها، تصطف في تراتبية الخطابات المجاورة لها، دون إحساس بتمزق في الوعي، أو تهدج في الصوت ينادي بالمختلف، النقي، البعيد المسَعَّر بجرعة النار الأولى التي تلتهب في كل أدب يستحق اسمه. أدب الهواية هو أدب الوقت الثالث. خصائصه مِن خصائص هذا الوقت، الذي لا تجد فيه الذات إلا حيزا ضيقا للاكتشاف والبحث والقراءة. إنه أدب يأتي بعد الانتهاء من كل الالتزامات، لذلك يكون مصابا بالعياء المترتب عن القيام بها. أدب لا يبقى له من الوقت والجهد والعُصاب إلا ما يسمح ببناء كليشيهات تُشبِع الغرور الشخصي الذي يمنحه إيانا نعت الكاتب. ومهما كان هذا النعت مُفرغا مِن الداخل، فإنه يُبقي على بريق يمنح الإطمئنان، ويبعث على جَني مكتسباته الإجتماعية. النتيجة هي أن مثل هذا الشخص الُمُنتحل لصفة مؤلف، يُصدر بضعة كُتب يُعطي بها الدليل للجميع بأنه كاتب. وقد يُصادف الأمر هوىً، في نفوس كثير مِن الأشخاص والمؤسسات، فَيعقُب انتحال الصفة فعل إضفاء الجلال عليها. تاريخ الأدب لا يعنى كثيرا بهذا النوع مِن المؤلفات، كيفما كان حماس الجوقة المدافعة عنها. ومهما تحمس المُعاصرون لكتابة هذا التاريخ وفق أهوائهم، فإن دورة الزمن تقف لهم بالمرصاد. فكثيرا ما يموت السياق المحيط بالكتب الذي يُضفي الجلال عليها، ليتركها وحيدة أمام مصيرها، مستندة لقيمتها الداخلية وشاهدة عليها وعلى زمنها. هذا التاريخ اللاحق هو الذي يعيد تقييم الأدب، ذهابا وإيابا بين المراكز والأطراف، على نحو يخلخلها لأجل إعادة بنائها في ضوء معايير أدبية أكثر، بغض النظر عن درجة النسبية التي تطوق بالتأكيد كل ممارسة إنسانية. إن هذا التاريخ هو «ساعة حساب الأدب»، التي لا يشفع فيها للجميع غير حظهم من الموهبة ونصيبهم من الجمال، وقبضتهم من المجهول. كثيرا ما يطمئن كتابٌ، في ثقافتنا العربية لِمُنجزهم. وهو مهما كان مُنْجَزاً كُتِب في أيام الآحاد والعطل، تَجدُهم يبذلون جهدا أكبر في إضفاء هالة الجلال عليه. أحيانا تُصبح الوظيفة الاجتماعية التي يشغرونها، وشجرة الأنساب (الأصدقاء) التي يتحلقون حولها، دليلا على تفوق جنس الكتابة وحظهم من المساهمة فيه. أحيانا يتطلعون إلى حدب لغات أخرى، فيلتمسون جلالا قادما من الترجمة. إنه سحر الإعتراف الذي يُمكن أن يُقتنى مثل كل أثاث البيت. والآن، بعد ممارسة طويلة، أصبح لها هي الأخرى تاريخُها، هناك ما يُشبه الوصفة الجاهزة، التي تُدعِم حركة هذا النوع مِن الأدب، التي كانت مجلة «الناقد» البيروتية، طيبة الذكر، قد خصصتْ له باب الكِتاب الرديء.