لا أدري إلى أي حد يصح أن ينطلق بحث من نقد ذاتي، يتأمل فيه صاحبه ما شاب نشأته من عدم اهتمام بالتراث وأسئلته وبالتاريخ، وجدله، ومواقفه وأجياله؟ وكيف انعكس ذلك سلبا على مواقف ذلك الباحث من الفكر والفن والحياة ورؤيته إلى العالم والأشياء والعلائق، في بساطتها وتعقيداتها، وكيف أوصله تهافته بسوء الفهم، إلى اصطناع ما ظل سرابيا وضبابيا ، غير محدد المعالم والصفات، من أشكال وسلوكيات، وأفكار وأنماط وعي، كان من الممكن ألا تكون كذلك، لو أنه عرف كيف يبدأ، ومن أية مقدمات ينطلق. أيكون هناك من جدوى وراء قرعه سن الندم، وهو يرى أيامه القليلة الماضية تمعن في الفرار، وأساتذته يبتعدون في الزمن الذي يبتلع كل شيء، ويواريه بألف ستار وستار، ولكنهم يتحدونه، فتزداد قاماتهم شموخا، وتزداد أنوارهم سطوعا، فكأنهم الأنجم الغرر التي تزداد لمعانا كلما اشتد الظلام حولها، واكفهرت الآفاق , أولئك آباؤنا، وقد ملك هؤلاء العظام، من شخصيات تاريخ المغرب، الحق في تمثيل ماضينا، وما لا يزال يتفاعل في حاضرنا، وما نحن اليوم جزء منه، وهو جزء منا(فما هو حي في الماضي ويستحق أن يعيش فينا، فإنه يعيش فينا من دون وعي منا)(1). يقف ذلك الباحث الآن، وهو يحاول أن يكفر عن عدم اهتمام سابق فيلقي بالتبعة الكبرى على نفسه، وببعض التبعة على أساتذته المباشرين في مرحلة الطلب،الذين يتذكر الآن بمرارة أنهم تركوا أمر إثارة الموضوع للمستقبل، فقصروا، وحتى لا يتذكره تلامذته بنفس المرارة في مستقبل يتمناه لهم زاهيا، في غمار البحث والسفر على طريق العلم والتحصيل، فها هو ذا اليوم يسعى إلى وضع أيديهم على ما يصنع سعادتهم الآن ، وفيما بعد، ويحاول أن يتوجه إليهم ليوقظهم بحرقة الأسئلة، دافعا بهم في آفاق ثقافة السؤال، لتحريك أسانة بركة ثقافة الجواب السكونية. هذا ما حفزه إلى الخوض في موضوع هذا المساء، وعسى أن يكون هذا الأسبوع الثقافي، الذي ينظم تحت شعار: (الشخصيات العلمية البارزة في تاريخ المغرب) دليلا على تجذر وعي سياسي واجتماعي (فعندما يشرع شعب في الحديث عن نفسه، وعن ماضيه، فتلك علامة نضجه)(2) ولا غرو، فقد بدأت أشكال هذا الوعي الجنينية تتبلور منذ أوائل القرن(العشرين) ومنذ عشريناته بصفة خاصة، بعد أن أصبح اسم (المغرب) يرسل إيحاءاته المثقلة بالغيرة والحمية، والغضب لكرامة مستلبة، وليس عجيبا أن يملك المستعمر الحاسة التي سيعتمدها في محاربة مشاعر الغيرة والغضب هذه، حتى لو تقنعت في تعبيرات وتراكيب أدبية أو لغوية، ومن هنا كانت تلك الحملة التي شنتها السلطات الاستعمارية لمطاردة عنوان(النبوغ المغربي في الأدب العربي) فقد كانت الحمولة السياسية فيه أوفر مما كانت في عنوان كتاب القباج (الأدب العربي في المغرب الأقصى) الذي لم يتعرض في ما نعلم لما تعرض له كتاب عبد الله كنون، وإن لم يضم بين دفتيه، ما يدعو إلى مقاومة أو ما أشبه ، ولكنها علامات اليقظة. هذه الحاسة في مطاردة هذا الجديد الثقافي (حتى وهو في المهد)في فترة الحماية البغيضة، ستحكم علاقة المثقف في المغرب بالسلطات الاستعمارية خلال الفترة المذكورة، وستظل من بين المكانيزمات المتحكمة في علاقة السياسي بالثقافي إلى يومنا هذا، ونحن نريد أن نتوقف قليلا عندها، لأنها ستضيء جوانب من علاقة المثقف والفقيه والكاتب والأديب، في مغرب ما قبل الاستقلال بالقوى المهيمنة على أرضنا آنذاك. فالنسبة إلى أي مجتمع فإن القوة السائدة فيه (تعلن أن وحيد الكتابة هو كتابة القوى المسيطرة (3) فتقوم بمراقبة ومعالجة وإجهاض كلمات الفكر الناهض أو تزييف دلالة الكلمات، ليتم لها مراقبة ما يفكر به مستعملوها، فلا تترك لجنين الفكر المختلف أن يعبر عن نفسه إلا لتتعرف عليه ، ليسهل من ثمّ خنقه(4) وعندي أن الأمر في المغرب الذي نتحدث عنه، مغرب الثلاثينيات،يطرح عدة أسئلة: سأحاول التعرف عليها للإجابة عنها قبل الانتقال إلى سرد مجموعة تأملات في كتابة( محمد داود ) الفقيه المثقف الكاتب الأديب أو المتأدب، وتتعلق تلك الأسئلة بهذه الأوصاف التي سنحاول تحليل كل منها في علاقته بالواقع التاريخي ، فإلى أي حد يتطابق محمد داود، الفقيه المثقف الكاتب، المتأدب أو الأديب ، مع بنية مجتمعه؟ وهل كان محمد داود في أبعاده هذه مرتبطا بالحياة الاجتماعية؟ إن قارئ مقدمة(العدد الأول) من مجلة (السلام) التي استعرض فيها برنامجا متكاملا عكس نظرته إلى كل من التربية والتعليم والأخلاق والتهذيب ، وتعميم الثقافة وتوحيدها، والاقتصاد والاجتماع، والرياضة والصحة، والتجديد، وإلى ما تقوم بيننا وبين الأقطار الشرقية ، والأفكار المتطرفة كما عكستها المذاهب الفاسدة. يجد رؤية وطنية للعمل الثقافي، هي نتاج بلورهُ طموح ٌوطنيٌّ قائم على أساس مواجهة الوضع الذي كان عليه المغرب آنذاك، لكنه يجد أيضا مسكوتاً عنه غير مفهوم عن إثارة الساخن من القضايا السياسية ، لا يمكن تفسيره إلا باعتباره من نتائج هدنة ضمنية مع السلطات الاسبانية حول قضايا أُجل طرحها ، كشرط للسماح بإصدار المجلة، وإلا فما معنى الانشغال حتى النخاع، بقضايا وأسئلة النهضة وآفاقها، وضرورة استرجاع ما كان للأمة من مجد، وبرودة لهجة الكاتب واستسلامه لقدَر جعل (الأمم «كالأفراد» معرضة دائما للضعف والقوة (فيوم لك ويوم عليك) إلى درجة أنه لا يتحدث إلا عن الشرق ( الذي كان مثوى العظمة والرفاهية، ومركز الحركة العلمية والأدبية) فإذا به ( يدركه الضعف ويقضي على مجده التخاذل والترف)(وإذا الغرب يظهر بمظهر النشاط والفتوة) لكن أين الغرب الذي ظهر أيضا بمظهر القوة والتنكر للمبادئ الليبرالية، فحمل على الشرق، ومن ضمنه المغرب، حملة مسعورة، لاستعماره ونهب مقدراته، وإذلال إنسانه؟ مثل لهجتي الغاضبة هذه لا وجود لها في ما كتبه محمد داود في مقدمة العدد الأول من مجلته، على الرغم من أنه كان حينها أصغر سنا مني الآن(5) ولكن ربما كان أكثر تقديرا لأمور أخرى كان يعيشها ، ولا نعيشها الآن بحكم سيرورة الزمن وتغير الظروف.ثم ما معنى أن تحمل مجلته اسم (السلام) في وقت كان كل ما في العالم يدعو إلى الحرب، أو إلى المقاومة في أهدإ الأحوال؟ لقد انشغل محمد داود في برنامجه الثقافي الذي ذكرت، بالعلاقة مع الماضي، والعلاقة باللغة والثقافة، وقد فكر في كل ذلك، حسب منطق الفكر السلفي التقليدي، ويجب ألا يفهم من هذا أي تحامل على برنامج الكاتب، ولكني أقول ما أقوله الآن ، لأدخل إلى أجواء تلك المقدمة ، لمناقشة أمورفيها، تتعلق بمحمد داود الأديب المنشغل بقضايا التعبير، فقد بدا لي أن كل ما قاله حول الأدب والأدباء أو الكتابة والكتاب، إنما قاله بشكل فيه بعض السرعة،إن لم نقل عدم الدقة في المصطلح،وعذر(داود) أنه كان يكتب في مرحلة كانت تعادي التجديد ، والكتابة المنهجية في النقد والإبداع، هذا في الشرق العربي الذي كان يعرف نشاطا متزايدا في المراجعة الفكرية في ميادين السياسة (عند علي عبد الرزاق) أو في النقد(عند طه حسين) أو في الإبداع عند مدارس الشعر الوجداني (أبولو والديوان) الذي كان رواده قد أعلنوا ثورتهم على الإحيائيين باعتبارهم ممثلي السلفية في الميدان الأدبي، فقد ظهر شعر الوجدان ليترجم إقبال المثقفين العرب هناك على الذات يكتشفونها ويعبرون بوضوح أكبر عن همومها الفردية، ويستبطنونها لمعرفتها من الداخل. وعندي أن هذه الحملة لن تكتفي بالتعبير الخجول الذي ظهر في المغرب عند (داود) ، بل ستتوج بكتاب رائد، أكثر وضوحا وجرأة وارتباطا بالمجتمع، هو كتاب( النقد الذاتي ) لعلال الفاسي الذي تابع ما رأيناه عند المغاربة دائما، من تطلع داخلي إلى النهضة ، لم ينتظر منبهات خارجية، كما كان الشأن في الشرق، الذي انتظر الحملة الفرنسية على مصر.فقد كان (النقد الذاتي) بحثا عن أسباب التأخر الذاتية، دون ربطها بأسباب خارجية، ومن هنا جدارته بهذا الاسم الذي يحمله، فهل يتشابه (محمد داود) مع علال الفاسي في هذا الجانب ؟ أيكون سكوت داود عن رد التخلف وواقع التجزئة، ولو في جزء منه إلى المستعمر، شجاعة في تحمل التبعات، لتنبع دعوة إلى تجاوز كل ذلك بالاعتماد على الذات خاصة، وهو يقول(نحن نريد بكل صراحة، أن نأخذ من أوروبا لُباب نهضتها ونترك القشور، نريد أن نقلدها في ما يعود بالخير والمنفعة على أمتنا لا في ما لا فائدة لها فيه) ؟ إن هذا السؤال يغري بالمتابعة، لتأكيد أهمية برنامج (محمد داود) الإصلاحي والثقافي الذي نرى من خلاله آراءه في الأدب والتجديد ودور الشعر، وفنون التعبير ، وقد حدد لكل منها وظيفة في معركة النهوض والتغيير. فأي دور يعطيه ( داود) الأديب الكاتب للأدب والكتابة؟ ما من شك في أن الأدب يعمل بعمق في بلورة وعي الإنسان بمحيطه، فيسهم في صياغة قيم وأنماط سلوك وممارسات تحكم تصرفات الفرد في ما يحياه ويزاوله، وقد قيل الكثير في تفسير علاقة المغاربة بالكتابة، وغياب هذه الأخيرة (كسنة أو تقليد في الأدب المغربي)بل ذهب الزعم بأحدهم إلى درجة الحديث عن أزمة تاريخية للكتابة في المغرب، ناتجة عن تقديس لا واعي للكتابة في وجدان المغاربة، ومع اعتماد هذا الحكم على أسس لا علمية ولا عقلانية، تتعلق في جانب منها بتحليل حاول إجراء قوانين المعقول على اللامعقول، أو إدخال اللاوعي في نطاق الوعي، مما ترتب عنه قيام فلسفة تدعي أن منطق اللامعقول سابق وفوق المعقول، فإن تقدير عبد الكبير الخطيبي، لمسألة غياب الكتابة يبدو أكثر دقة ، وأقرب إلى الصواب.حينما يفسر (كون الأدب الشفوي يظل هو المعبر عن مشاعر الشعب المغربي في أوقات الفراغ).(6) محمد داود/ الكاتب: إن العودة إلى افتتاحية العدد الأول من مجلة (السلام) الصادر سنة1933، تفيدنا في استخراج ما ينتظره محمد داود الأديب الكاتب من الأدب، فدور طبقة الأدباء أن (تجتهد في تغذية عموم الشعب بالأفكار الناضجة ،وتنير السبيل أمامه لإدراك حقوقه، ومعرفة واجباته، وتهديه إلى الطريق التي يجب عليه سلوكها، ليكون شعبا ناهضا، قائما بواجباته الاجتماعية، حاملا لقسطه من النهضة العالمية والأمانة الإنسانية) أفكان ممكنا لو أن هذه الأفكار والتصورات لم تهمل الواقع، والمحيط الطبيعي والاجتماعي، أن تصدر عن أديب أو كاتب، في مرحلة مثل المرحلة التي كتبت فيها؟ إن هذا لا يعكس إلا ما كان متحكما قي فكر محمد داود من ميول سياسية إصلاحية ، حيث يحاول أن يغير السلوك والذوق والتعبير،ليصبح المجتمع مطابقا لمنطقه الثقافي، إذ كيف يمكن للأدب أن يغذي (عموم شعب) غارق حتى الأذقان في الأمية ب (الأفكار الناضجة) ؟ لكن مع ذلك، فمحمد داود لم يقصِّر في مجال الدعوة إلى( التعليم والتربية والأخلاق والتهذيب، وتعميم الثقافة وتوحيدها) فقد اتجه إلى الإسهام في إنشاء التعليم الحر (بلغة تلك المرحلة ، وليس التعليم الخاص بلغة حاضرنا الموبوءة) لكن هل نقبل بما جاء به داود في تعريفه للأدب ( الأدب الحي المعبر عن سعادة الإنسانية وشقائها، الأدب المفصح عن آمال النفوس وآلامها، والشعر المطرب للأرواح المتعطشة) أو بما جاء به في حديثه عن التجديد ، فقد لاحظت انه لا يطرح مسألة الجديد والقديم، الطرح الأدبي، وإنما الطرح الحضاري الأخلاقي ، أي في إطار علاقة (شرق غرب) وحضارة إسلامية عربية في مواجهة الحضارة الحديثة، فينصح كشأن السلفيين جميعا (بالمحافظة على سمعة أجدادنا بعدم إتيان ما ينافي مواقفهم المشرفة) إن التصور الأدبي غائم في طرح محمد داود الذي كان ككتابنا السلفيين جميعا ، مهتما في حدود ما تستطيعه الكتابة، دون أن يسعى إلى خلق الأسلوب أو البحث في صيغ التعبير وجماليته، وهذا لا ينفي أن أسلوبه كان جميلا مشرق الديباجة خاليا من أية ركاكة أو اضطراب،مطوعا لأداء ما يريده. ورغم ذلك ، فإن هذا لا يمنع من القول أن كتابة محمد داود ليست أدبا بالمعنى الخاص للأدب، بل هي تاريخ في جزء منها، وتأملات في الواقع السياسي والاجتماعي، في جزء آخر. ومعنى هذا أن محمد داود لم يكن يملك أسسا نظرية أدبية ، ففي( أساس كل موقف أدبي هناك وعي باللغة) وقد امتلك داود الفرصة لإظهار تلك الأسس النظرية لو أنها وجدت،أثناء كلامه عن الأدب والتجديد ( فالحديث النظري عن الأدب ومجاله الافتتاحيات بامتياز لا يتناول الأعمال الأدبية، بل يتناول بالتحديد «الأدب» أو الأنماط العامة) إننا نلاحظ غيبة مفاهيم أدبية يمكن أن نعتمدها في بناء تصور عن مذهب محمد داود الأدبي، وما دام الأمر كذلك ، فكل ما يسمح به مجال هذا العرض الضيق، هو أن نميّز في كتابة محمد داود بين مستويين: 1)مستوى الكتابة، وهو متحقق في ما أنجزه من آثار تاريخية وفكرية.2)مستوى الأدب، وهو مستوى غائب، غير متحقق، لا لأن كتابة محمد داود (لا تؤدي فيها الخصائص اللغوية وطرائق التعبير اللفظي، دورا أساسياً يتجلى فيما تثيره فينا تلك الخصائص المتعلقة بالصياغة من انفعالات عاطفية ، أو إحساسات جمالية ، أو بعبارة أخرى، فإن الكتابة إذا استطاعت إثارة « انفعال شعوري يرتكز على تقبل النص، ويؤدي إلى لذة يحدثها النص عند المتقبل: ففي هذا المستوى يتحقق أول رصد للأدبية ، وينتج عن تقبل النص تلذذ أدبي») قلت: إن مثل هذا المستوى غائب عن كتابة داود، لا لأن صاحبه تقصده وعجز عن تحقيقه، حاشاه،ولكن لأن محمد داود توجه وجهة أخرى ، وجهة ً تطلب الكتابة ولا تطلب الأدب ، ومثل هذا يمكن أن نقوله عن كتابة الشيخ محمد عبده مثلا، دون أن يكون في ذلك مس بمكانته من الفكر الإسلامي السلفي، ويكفي محمد داود أنه حاول الكتابة وأجاد، بينا تهيبها فقهاء كثيرون في المغرب، فنحن لا نملك إلا أن نتعجب ففقهاؤنا، إلا الندرة القليلة منهم لم يكتبوا لا في التاريخ ولا في الأدب ومن كتب منهم تهيّب الأدب أو احتقره ، للسبب الأخلاقي الكامن في خلفية حكم الفقهاء على كل إبداع، الدال على تشجيعيهم للطلاب على حفظ الأراجيز في موضوعات النحو والفقه ، الابتعاد وغض النظر عن إنتاج من كان الشيطان حليفه ، أو ما كان لا بد في إنتاجه من انتهاك للمحرمات ، فحتى غير هؤلاء الفقهاء رأى في الشعر كإبداع، نكداً(بابه الشر إذا دخل في الخير فسد). ولا تدل مواقف محمد داود في افتتاحية السلام على احتقار للأدب ، بل على إعادة اعتبار مفقود لوسيلة من وسائل التعبير ، كأثر من آثار المراجعة النهضوية، التي وضعت على عاتق كل قادر على التعبير أن يدلي بدلوه، وقد فعل محمد داود ذلك. لقد جاء في العرض الشيق المفيد الذي تقدم به في هذه الندوة الأستاذ الشاعر عبد الكريم الطبال ، إشارة إلى الإحباط الذي عانى منه محمد داود منذ الخمسينيات (من القرن العشرين) إلى أن اختاره ربه إلى جواره، فهل من دلالة لذلك الإحباط؟أم هل علينا أن نقبل به كمصير طبيعي ، يؤول إليه كل مثقف؟ فعند أستاذنا الطبال لا نجد إلا تفسيرا واحدا للإحباط، وهو ما ذكره في عرضه ، من أنفة وكبرياء نفس ٍ تميّز بهما محمد داود. وأريد أن أضيف أن محمد داود ، كان إلى ذلك ،صاحب مشروع نهضوي ، دلت عليه سعة رؤيته إلى العالم ، كما تجلت في افتتاحية العدد الأول من مجلة( السلام) وصاحب مشروع كهذا ، كان عليه أن يجمع إلى كبرياء النفس ، بعضا من دهاء السياسي إن لم نقل مكره، الذي يطلب (أن يأخذ كل شئ )وصبر المصلح الاجتماعي الذي يؤمن (بأن ما لا يؤخذ كله لا يترك جله)، بل إن كثيرا من المصلحين حين رأوا مشاريعهم الإصلاحية تفشل ، أصبحوا من ألد أعداء الإصلاح، وربما وجدنا المثقف المصلح من نوع محمد داود ، والذي صدمته أحوال مجتمعه، يتميز موقفه بالرفض وعدم القبول، وذلك أورثه حزنا وبؤسا ، (وقد قاد البؤس كثيرا من المثقفين العرب إلى اليأس من إصلاح المجتمع، وهو بؤس له تاريخ طويل، في الفكر التقليدي)، لنتذكر قولة ابن خلدون» إذا نزل الهرم بدولة فإنه لا يرتفع» وقد يجد اليوم ما يزكيه في ذهن المثقف المنعزل، وإذا صح هذا القول ، فقد كان انعزال محمد داود يأساً من الإصلاح، وقد جاء من بعده جيل تحقق من ذلك، حينما درس مثل هذه المواقف على ضوء التاريخ ، فكل من المثقف العصري أو التقليدي ، يعاني من نفس الإشكال ، فهما رغم تعارضهما في الأهداف (أي في الإستراتيجية) يشتركان في الموقف المعرفي إزاء المجتمع، كما أنهما كلاهما يجهل حدود ثقافة صاحبه، مما ينشأ عنه حوار شبيه بحوار الصم، فلا المثقف التقليدي يعرف حدود العلم الحديث، ولا المثقف المحدث(العصري) يعرف حدود معرفة صاحبه التقليدي.(7) أريد أن أنتهي إلى أن انعزال محمد داود الأخير ، لم يكن لأنه أُهين، بل إنه انعزل كضرورة كان يجب أن تحدث، وهو يرى إلى مشروعه الإصلاحي يقبر، إن لم نقل إنه انهار قبل أن يقوم،وفي ذلك كل العذاب لنفس ترى أنها لم تأل جهدا . ونحن بدورنا نقول له: إنك لم تقصر أيها الفقيه الجليل ، ولعل في إحياء ذكراك بين أبنائك الأساتذة وأحفادك التلاميذ، في مثل هذه المناسبات الثقافية ، بعضَ ما يهبُ لنا نحن الأجيال الأخيرة ، فرصة لإعادة النظر في مشروعك، فالسلام عليك يوم ولدت ، ويوم مت ،ويوم تبعث حيا ، هذا جهد المقل ، وأعتذر إن كنت أطنبت أو أوجزتٌ، فالوفاء للنابغين النابهين البارزين من أبناء شعبنا ، يتطلب وقوفا أطول ، ودراسة أعمق، ولعل لنا في المستقبل لقاءً، نعوض فيه عن تقصيرنا اليوم، ذلك وعدٌ، ووعد الحر ديْنٌ عليه،ونحن على العهد، والسلام عليكم شفشاون في 21/04/1992 ********************* * إشارات: اشتملت هذه المحاضرة على اقتباسات في فقرات متفرقة منها بأقوال وكتابات لكل من: 1و7)عبد الله العروي 2) المهدي بنبركة3)و6)عبد الكبير الخطيبي 4) فيصل دراج5) عمر صاحب هذا العرض سنة 1992 ، (*) وأقوال أخرى جعلتها بين قوسين، تعذر عليّ، بعد طول وقت، ردّ ُها إلى مصدرها، فوجب التنويه.