عبد القادر الشاوي باحث وروائي مغربي، له عدة مؤلفات في مجالات فكرية، سياسية وأدبية مختلفة. معتقل سياسي سابق، جسدت كتاباته العديد من تناقضات المجتمع المغربي وأحلام جيله. صدر له في الرواية "كان وأخواتها"1986 ،"دليل العنفوان" 1989 ،"باب تازة" 1994 ، الساحة الشرفية" 1999 التي حصلت على جائزة المغرب للأدب، "دليل المدى" 2003 ،"من قال أنا؟" تخييل ذاتي 2006 . كما أنجز العديد من الأبحاث والدراسات الأدبية نذكر منها "الذات والسيرة" 1996 ، التخلف والنهضة" 1998 ، "الكتابة والوجود،السيرة الذاتية في المغرب" 2000 ...إلخ. يعد عبد القادر الشاوي من المهتمين بالسيرة الذاتية وقد هيمن هذا المدى على مسار كتابته الإبداعية، فالذات بالنسبة له تخييل وواقع في نفس الآن، تعمل الكتابة على السؤال في قضاياها. prefix = u1 هنا حوار مع الكاتب والروائي عبد القادر الشاوي: لطيفة لبصير: تجسد كتاباتك الكثير من القلق والارتباك والحنق، إذ نشعر في كثير من الأحيان سخطك على واقع الذات المتكلمة التي يمثلها راويك، وسخطك على واقع كبير. ألا يمكن القول إنك تهدد بسقوط العديد من القيم والمبادىء التي آمنت بها سابقا؟ عبد القادر الشاوي: يمكن اعتبار الكتابة الأدبية لحظة تمرين قصوى للسيطرة على اللغة وعلى العالم المروي وعلى القارئ نفسه، وكذا على عملية التفاعل (مع المجال العام) التي ينشدها كل كاتب استوفى شروط الكتابة الأدبية التي لا تستقيم هذه بدونها. ومن الطبيعي أن نستنتج أن في ثنايا هذه العملية هناك أيضا عملية أخرى موازية للسيطرة على المواقف العامة المراد التعبير عنها بصورة واعية أو غير واعية. ويخيل إلى أن الانخراط في هذه العملية الصعبة، عندما تتاح جميع الظروف المناسبة للقيام بذلك على الوجه التام، يحتاج إلى تركيز ذهني كبير، مثلما يحتاج إلى استعداد نفسي وعقلي يسهل الانصهار المطلوب في الأجواء التي تقتضيها المناسبة، مناسبة الكتابة الأدبية. مرادي من ذلك أن أقول إن وعينا بالكتابة "الصافية" (الذي قد يكون وعيا قصديا نتوخى منه التعبير عن أفكارنا العقلية المنظمة) لا يتطابق باستمرار، من جهة، مع ما قد تمليه هذه الكتابة من اشتراطات وتأثيرات لغوية وذهنية ونفسية بحكم طبيعة الكتابة نفسها من حيث هي نظام لغوي، وكذا مع المواقف المدركة التي نود التعبير عنها لأنها تتأثر أيضا بالمناخات (من حيث هي سياقات للتعبير الأدبي والفني) التي نعبر عنها أو نتفاعل معها قصد التعبير عنها. ومن هذه الزاوية لا أجد في الروايات التي نشرتها لحد الآن أي نمط من التعبير الصريح والواعي عن القضايا الخاصة، سياسية وإيديولوجية، التي انشغلت بها في فترات الكتابة، بل ولقد عشت في أتون ذلك باستمرار على نوع من التناقض المدمر بين تصوراتي السياسية (التي أحسبها يسارية) وبين "التناول" الذاتي الذي غالبا ما ألقى بي في سياقات متعارضة إلى هذا الحد أو ذاك مع بعض الاعتقادات التقليدية البديهية المترسبة في وجداني. هذا مع علمي، وتلك خصيصة نفسية ما انفكت تلازمني منذ سنوات، أنني أميل ما أكون إلى حالات السلب منه إلى حالات الإيجاب، وأشد ميلا إلى السخرية ذات الطبيعة السوداء التي لا تبقي (من حيث المعنى) على أي شيء كما على الذات أيضا ولا تضر. بل وأصارحك أنني لا أجد في الكتابة الأدبية التي أكتبها أي مبرر عقلي ولا منطقي لممارسة خلاف ذلك. هذا يجعلني أستحضر المقولة الشهيرة لجان بلمين نويل أن الكتابة تقول أكثر من الكاتب، وقد يفاجأ الكاتب بأشياء صدرت عنه دون علم منه تكون الكتابة هي المسؤولة عنها وليس الكاتب، وهذا يدفعني إلى أن أبحث عن تبرير للتجنيس لديك، فأنت تترواح بين الرواية والسيرة الذاتية، وفي عمليك الأخيرين "دليل المدى" و" من قال أنا"، نجد تصنيفا أجناسيا هو التخييل الذاتي، هل هذا الانتقال مرده إلى ضرورة الكتابة التي تفرض ميثاقها، أم أنه يخضع هو الآخر إلى التطورات النظرية التي تعبر إلى التخييل الذاتي، باعتبار أن كل شيء حقيقي، وكل شيء يعاد صنعه؟ هناك تواز غير مدرك بين الكاتب (الذات، المستوى الثقافي والفكري، التفاعل الوجداني من حيث الرغبات والعواطف) وبين الكتابة (نظام تعاقدي ومعياري) يتراوح، في كثير من الأحيان، بين التناظر والتفاعل حسب الأوضاع والمقامات. وعندما أشرع في الكتابة الأدبية، على وجه التحديد، أجعل من نفسي في موقع من يريد استخدام النظام التعبيري (اللغة والبنيات الذهنية) كأداة لبلورة التصورات المفكر فيها أو العوالم المراد بناؤها أو الفضاءات المراد طرقها وتأثيتها، وتتأثر هذه العملية بوضعيتي الشخصية وبدرجة وعيي الثقافي وكفايتي اللغوية، كما أنها ترتبط بغير ذلك من التأثيرات الظرفية المصاحبة التي تتفاعل فيها بينها في محاولة لإحداث وبلوغ الغاية المنشودة من التعبير على درجات مختلفة من القوة أو الضعف، من السهولة أو الصعوبة... إلخ. ولذلك فإن علاقة الكاتب بالكتابة لا تنبني على الدرجة أو الرتبة بل على الوظيفة، أي ماذا أريد من كتابتي الأدبية أن تقول عندما يكون في مبناها ومعناها، بناء على الشروط المصاحبة، ما يشكل القول ويصوغه. وإذا كان من الصحيح أن نتساءل، في بعض الأحيان، عن درجة الوعي التي يمكن أن تصاحب سؤالا من هذا النوع، وهل في صياغته ما يفيد العلم بالغاية المرجوة، فإننا مع ذلك نستطيع أن نتحكم بقدر معين في جعل الكتابة الأدبية صيغة من الصيغ الممكنة للتعبير عن المواقف التي نريد إبلاغها أو الإعلان عنها. عندما تقول الكتابة الأدبية أكثر من الكاتب فمعناه أننا في دائرة التأويل الذي يمكن أن يصطنعه القارئ المفترض لقراءة ما يًكتب ومن يَكتب، أما عندما يقول الكاتب ما يتوخاه من الكتابة، بالمعنى الذي شرحته في السابق، فمعناه أننا في دائرة الإبداع، ولا يمكن الحديث عن الإبداع في هذا المجال إلا من خلال الكتابة، مثلما لا يمكن الحديث عن اللوحة مثلا إلا من خلال التشكيل الفني الذي يكونها. هذا ما يدفعني إلى القول: إن على الكاتب أن يتوقع لا أن يكون ضحية للمفاجأة، مثلما عليه أن يكون مبدعا لا داعية. من هنا أصل إلى مسألة التجنيس التي أراها، في الواقع، على صلة أكثر بطبيعة النصوص التي ننتجها عندما تطاوعنا الكتابة الأدبية لإنتاج نصوص جيدة تستحق القراءة والتأويل. أعني بذلك أن الطبيعة التجنيسية للنصوص مرهونة بطبقاتها من حيث هي بنيات ومقولات ومواثيق أكثر مما هي من وحي تنظير يرتبط بالمفهوم التاريخي للتراكم الذي تحققه النصوص عندما تستقل بنفسها كنصوص تعبيرية أدبية من نفس الطبيعة، مع الاعتراف، بطبيعة الحال، بأن التخييل الذاتي يستهويني أكثر لأنه يتيح لي إمكانية هائلة للتعبير الحر، وكذا لتشكيل عالم "مبتدع" يتوازى مع كثير من التصورات التي أكونها عن نفسي وعن العالم من حولي. ما في ذلك شك أن التخييل يتيح إمكانات أكبر في صوغ الذات، وحتى في صنعها، لماذا أتحدث هنا عن الصنع، لأن اللغة تقدم خطابا آخر، بالرغم من أن الكاتب قد يشتغل على أحداث واقعية. ونعود لنصوصك، أنت تشتغل على الذاكرة، بشكل كبير جدا، وهي ذاكرة متصدعة، مكلومة وتتحدث كما رأيناها في " دليل العنفوان" أو"دليل المدى" مثلا، عن مراحل عبرت من العمر، وفضاءات عاش فيها الكاتب( الرباط، البيضاء...)، لكنه أعاد صياغتها أدبيا إذ أننا نجد الأحداث منسوجة، أو أنها تصنع نوعا من الكذب الصادق، خاصة ونحن نقرأ عملك الأخير" من قال أنا"، كنت كمن يهيىء قبره، حتى أن النص يبعث على الرهبة حين نجد أصدقاءك هم من يتحدثون عنك في المستقبل، طبعا من خلال تخييل صنعته أنت . وفقا لهذا الاعتبار، فإن زمن الماضي والمستقبل هما زمنان غير حقيقيين، لذا فان التخييل يعبر إليهما، ألا ترى معي أن التخييل هو أيضا حقيقة الكاتب، لأنه نابع منه ويدرج في مصاف استيهاماته؟ يمكن اعتبار التخييل الذاتي، كلون أدبي مستحدث، أحد صيغ التعبير الممكنة لتشكيل "صورة بيانية" مبتدعة عن الذات والمحيط. ويمكن اعتبار التخييل الذاتي، من هذه الزاوية، صيغة موازية تنتظم من خلال اللغة وفيها وبها لتجربة حياتنا الواقعية التي نود التعبير عنها على اطمئنان أو يقين خادع، لا يهم، بأننا نكاشف القارئ بحقائقنا الذاتية الخاصة، أما ما نقوم به كَكُتاب، في الواقع، فهو أننا نكتب ما نتوهمه، ونتوهم ما نكتبه. أضيف إلى ذلك أن التخييل الذاتي هو، بمعنى ما، العالم المنظور وقد تحول من خلال الصور البلاغية الإنشائية إلى مادة مشخصة، مبناه اللغة الأدبية وحياته اللغة الأدبية والتأويلات التي قد تتفرع عنه نابعة من اللغة الأدبية نفسها. ومن المفهوم من هذه الزاوية أن علاقة التخييل الذاتي بالذاكرة ليست علاقة شرطية محكومة بالردود التي تقتضيها الأفعال، ولا تقوم على الاستجابة التلقائية أو الفورية النابعة من ضرورة ما، ولا أيضا على التواصل الذي قد يتحقق بصورة تلقائية من خلال التماس الدافع، في معظم الأحيان، إلى بلوغ التفاعل. بل إنها، إذا أحببنا، علاقة مركبة، أي أنها ترتبط بالذكريات وكذا بالمفهوم الخاص الذي نسبغه أو نُعَرٍفُ به تلك الذكريات. أشرح ذلك قائلا: إن التخييل الذاتي يحاذي الاستيهام ويلاعبه بل ويتلاعب به أيضا، وسر ذلك أنه يجعل من لغة الكتابة أداة للاستعارة. والأمر كله ينبني على المفارقة الناتجة عن ذلك من حيث يصبح الاشتباه، في مطلق الأحوال، طريقة لتأويل المعاني المبثوثة في السرود. وعندما أتكلم عن ذاتي في هذه الحالة فإنني لا أنتج لغويا تلك الصورة التي أتخيلها عن نفسي فقط، بل وأقوم في نفس الآن باختيار مباني ومعاني تلك الصورة، من حيث زاوية النظر والمحمول الرمزي الذي قد يرتبط بها، على أنها الصورة الواقعية أو الحقيقية التي تشبهني أو تقاربني في الشبه، غايتي من ذلك، وأنا في أشد حالات اليقين اطمئنانا، بأنني أكتب عن ذاتي في انسجام لا ينازعني فيه شك. أريد القول إن التخييل الذاتي، في حقيقة الأمر، يرتبط في الكتابة الأدبية باللغة وبالذاكرة وبالكتابة (الأدبية) هي ذاتها على نفس المستوى من الارتباط الذي به تتحقق الغاية من القول الأدبي. والبعد التخييلي في الكتابة هو الذي ينتج جميع الصور الاستيهامية التي تصدر عنها في علاقة بالذات، سواء أكانت هذه الذات كاتبة أم مكتوبة. وبطبيعة الحال فإن الأمر يختلف في الأجناس الأدبية الأخرى من حيث الميثاق ودرجة التبئير المتعلقة بالموضوع. في الرواية نشيد العالم الموضوعي ونوهم القارئ على أنه العالم الممكن، أما في التخييل الذاتي فإننا نعيد تشييد العالم الذاتي على أنه الصورة المفترضة لوجودنا في الزمان. في (من قال أنا) صورة مركبة للذات من خلال السرود التي تتناوب عليها الشخصيات، ولكنها سرود تتراكب دفعة واحدة لتقديم صورة متخيلة عن الشخصية المفترضة أو تلك التي يفترض القارئ بأنها تتماثل مع الشخصية الواقعية ذات الاسم المعين. هل يمكن أن نطمئن إلى شيء من ذلك عندما نعرف أن مبنى الحكاية أصلا لا يتطابق مع "المعرفة الواقعية/ف. لوجون" التي نختزنها في أدمغتنا ومخيلاتنا عن الآخرين والوقائع؟. هذا هو السؤال الذي يقود إليه كل تخييل ذاتي. لهذا السبب عمل فيليب لوجون على التجديد في السيرة الذاتية، ذلك أنه وجد أن كل الحيوات تتشابه، وعليه فإن التجديد يكون على مستوى نظام التركيب الذي يتيح إمكانات كبرى للتخييل. ولكن بالرغم من ذلك، فإن عوالمك السردية مبنية على محكيات سيرية ذاتية، وهنا لا أتحدث عن السيرة- الميثاق، ولكن عن عنصر تقني داخل العمل الأدبي، إذ أننا نجد معظم أعمالك الأدبية تحكي مسار الأنا، والأنا هنا ليس ضمير متكلم فقط، بل يمكن القول إن جلالة الأنا ليست سيدة بيتها الخاص ، فهي تبحث عن كل عوالم الهو داخل الذات وتسعى إلى نبشها والتشهير بها، وأعطي مثالا بروايتك" باب تازة"، فقد كنت منشغلا بتحقيق صحفي، ولكن بالرغم من ذلك تصعد حياة يومية مليئة بالقرف، الزوجة، والبنت التي تصرخ كل حين، والآلة الكاتبة، إذ كنا نسمع ضجيجا آخريخلق أدبا سيريا يدون سيرة الأنا بكل عوالمها الخفية، هذا يذكرني بروايات "غالب هلسا"، فقد كانت رواياته أيضا ضاجة بسرد حياته الخاصة، وأنت تعرف أن غالب هلسا عرف سجون المدن أكثر من عواصمها، هل يمكن القول إن عالم السجن كمحطة أساسية في حياتك لها عامل في استجماع حياة أخرى، هاربة ومنفلتة، تصوغها الكتابة، حتى أننا نشهد كل العوالم السرية(وهنا أتحدث عن لغات الجسد المتعددة بما فيها من شبق ومن رغبة محرمة) تصعد إلى السطح، مغلفة بحرير اللغة؟ يمكن اعتبار الكتابة الأدبية، وهو ما قد يفهم أيضا مما ذكرته سابقا، أداة لصوغ المعنى وبلورته بصورة مدركة في قالب جمالي تتوفر له، في الغالب، خصائص التعبير والبيان والفهم. ومع ذلك فإن الكتابة الأدبية هي، بالتعريف، إشكالية أو مركبة من حيث إنها بلاغية تتواصل فيها تواصلا حيا عدة مستويات (لغة، ذات، واقع) ترتبط باللغة وبالذات الكاتبة وقدرتها على التعبير اللغوي وبمجالات العالم الذي نتفاعل معه ونود التعبير عنه في آن. ويبدو لي أن الكتابة الأدبية، وهي تختلف من هذه الناحية عن غيرها، لا يمكن أن تتحرر من ذات كاتب (ت)ها، بل إنها، كما هو المؤكد، تتعالق مع أخص مناطق تلك الذات إيغالا في الغموض فتصدر عنها صدور الماء عن نبع دفين لا ترى طبقاته الأرضية السميكة. ينشأ العالم الأدبي (المحكي) في علاقته بالكتابة من قدرة الكاتب نفسه، وهي قدرة لغوية وتخييلية، على بناء الكون الرمزي الذي يحايث (كينونته) ووجوده الاجتماعي ضمن مختلف العلائق التي تحتويه وتكتنفه. لا يمكن أن نفترض كتابة أدبية سابقة على الذات، ولكننا يمكن أن نفترض وجود كتابة عليها. الذات هي التي تفكر في الكتابة، وهي التي تؤطر سياقات التعبير العامة. وبالطبع فإن الكتابة الأدبية يمكن أن تفارق الذات كموضوع، ولكنها لا يمكن أن تتحرر منها ككيان. وتقديري أن الفرق بين الكُتاب بعامة بخصوص هذا الموضوع هو في الدرجة، درجة التحرر أو مفارقة الذات، لا في الاختيار. ولو قدمت مثلا من تجربتي الشخصية في الكتابة الأدبية لوجدت أن مختلف الأعمال الأدبية التي نشرتها لحد الآن تقوم أو تنبني على سرود ذاتية متباينة الأوضاع والحالات والمواقف والتصورات، فضلا عن الخطابات التي تبعثها نحو القارئ. وأود أن أضيف إلى ذلك أن هذه التجربة لم تكن اختيارية، وأزيد على ذلك بأنني لم أخطط لها على أي نحو من أنحاء التخطيط الذي قد يفترضه أو يحاوله كاتب لمساره الأدبي. ومع هذا وذاك فإنها لم تكن عفوية أيضا، بل تلقائية لأن المشاعر الأولى التي داعبت مخيلتي وألحت علي في الكتابة كانت مرتبطة بالأوضاع الخاصة التي عايشتها واكتنفت حياتي الإنسانية والإبداعية في فترة ما من تطوري الأدبي والإنساني. لقد كتبت بيدي وتفاعلت الكتابة مع أحاسيسي ومواقفي وتصوراتي... وهذا هو المنطلق الذي أدافع عنه وأعتبره، في نفس الوقت، مرتبطا بالذات لصيقا بأوضاعها العامة مكتنفا لها متدافعا مع اندفاعاتها التي ترمي إلى التعبير عن الأحاسيس والرغبات والمواقف والأهواء على جميع الوجوه الممكنة، فلا يعمل الكاتب إلا على تنظيم المجال العام الذي ترسمه الكتابة الأدبية بالطرق الجمالية التي يختارها بناء على حساسيته الفنية واقتناعه الفكري. لا يجب أن نتصور أن الكتابة عن الذات هي مجرد "إعكاس" مرآوي للأوضاع التي هي عليها ولمطلق الأحوال التي تنتابها، لأن الكتابة عن الذات هي، في نهاية المطاف، تضعيف للوجود المادي لتلك الذات بطريقة لغوية وتخييلية، وما تنتجه تلك الكتابة بهذه الطريقة وعلى هذا الصعيد هو، من باب التعريف، "مضاعفها الذهني". كما أنه لا يمكن اعتبار "التذويت" استنساخا بل ابتداعا تتضافر له جميع المقومات التي تجعل من الإبتداع طريقة أخرى لبناء العالم الذاتي الموازي كما أشرت إلى ذلك مرارا. لو تكلمت، مرة أخرى، عن تجربتي الشخصية أنطلاقا من الأعمال الأدبية التي نشرتها لحد الآن لقلت بعبارة صريحة: إن العالم الذاتي الذي تترجمه مختلف تلك الأعمال هو زاوية نظر وطريقة اشتغال ومجال كتابة. وأضيف إلى ذلك أنني أعتبر تجربتي الشخصية، من خلال جميع المعاناة التي كابدتها وخبرت أطوارها، سياقا للكتابة الأدبية المتحللة من جميع القيود المعنوية، مثلما أجد فيها ما يؤكد لي باستمرار بأن الذات، ذاتي، هي، على نحو من الأنحاء، مظهر آخر لوجودي المادي في المجتمع الذي تتقاطع فيه ، بعيدا عن كل هندسة محكمة أو كيمياء مضبوطة، جميع العلاقات والأوضاع والمؤثرات الفاعلة وغير الفاعلة... ويبدو أن السجن في تجربتي الشخصية، مرة ثالثة، وربما في تجارب غيري من الأفراد، ساهم بدور معين في تكوين النظرة العامة التي تسيطر على وعيي الكتابي في هذا المجال، مجال الكتابة الأدبية. أتكلم هنا، على وجه الاحتمال، عن الإكراهات العميقة التي قد يكون تشربها وجداني وترسبت في تكويني ثم سخرها قلمي، لست أدري. نعم ، السجن كعالم آخر يمكن أن يعمل على توجه نمط الكتابة اتجاه سرد الذات، وتجليها لغة أخرى كما ذكرت، ربما يكون اختيارك للبحث في السيرة الذاتية نابعا من نفس الهاجس، وهو الإيمان العميق بالذات وانكساراتها وخيباتها، أو أحلامها أيضا، ولكن دعني أقف قليلا عند عنوان الرواية الأخيرة " من قال أنا"، فقد كان عنوانا مثيرا جدا، إذ يمكن أن يقرأ قراءات متعددة، فإذا صغناه بالدارجة المغربية يصبح له معنى آخر، ولكن إذا قرأناه باللغة العربية الفصحى ففيه جدل كبير لأنا المتكلم الذي ينفي وجوده. في بعض الأحيان نقف كثيرا عند العنوان، ونتساءل لماذا هذا العنوان بالذات؟ إن توجهي إلى البحث الأكاديمي في السيرة الذاتية كما إلى الكتابة فيها قبل ذلك أراه في تجربتي، ولست في ذلك إلا حادسا لا متيقنا، وليد أمرين متداخلين: أولهما ذاتي صرف نابع من خصوصية بعض المعاناة الفكرية التي خبرتها أثناء فترة السجن، وأغلبها كان من وحي اهتمام عميق وأليم يوجبه الوجود في مكان مغلق وجودا قمعيا لا بديل فيه لأي اختيار ولا موجب فيه لأية حرية ولا قدرة فيه للقيام بأي تصرف... إلخ، فكان أن بذلت في سبيل تذليل الصعاب التي واجهتني على الصعيد الذاتي ما لا قبل لأي كان من غير السجناء على بذله طوعا (غالبا ما يُكْرَه السجناء على التكيف مع الأوضاع الاستثنائية المفروضة عليهم قياسا إلى تجاربهم السابقة في الحياة لا بحكم قساوة التجربة التي يكابدون ويلاتها فقط بل وكذلك بحكم قانون المعاناة الذي يكرسه السجن). ومن المفهوم أن تجربتي في السجن، وهو أمر يدعوني باستمرار إلى ما يشبه الافتخار النرجسي، علمتني أن أجعل من ذاتي عنوان تجربتي وخبرتي في الحياة، أي أن أفهم تماما أنني في مجال مغلق، وفي تجاور حياتي مع الذوات الأخرى، وأن الطابع العام لجميع مظاهر الاحتكاك التي لا تقاوم بين الأفراد مردها إلى الأحكام المطلقة المبنية على أقيسة إيديولوجية (موضوعية؟) التي اعتادوا عليها في التعامل مع الآخرين. أما الأمر الثاني فيعود إلى عنايتي الخاصة منذ فترة مبكرة من تجربتي الأدبية بالنقد الأدبي، وأعتبرني الآن، بعد أن لم أفلح لظروف شخصية من السهل إدراكها في أواخر السبعينيات من القرن الماضي في مواكبة التطورات الأدبية التي استجدت في ميدان نقد الرواية والقصة القصيرة ربما، قد انصرفت تلقائيا، في ارتباط مع بعض القراءات المؤثرة في تكويني ومعرفتي، إلى الاقتراب من السيرة الذاتية والاهتمام التدريجي بالعوالم التي بدأت تفتحها في وجهي (قراءة نصوص واستيعاب نظرية وتطبيق مفاهيم)، هذا فضلا عن أن الاهتمام بالسيرة الذاتية لم يكن مذكورا في الجامعة المغربية، على الأقل من خلال الأطاريح المسجلة أو المنجزة، إلا على نحو جزئي... علما بأن الاهتمام بالسيرة الذاتية كجنس أدبي كان "محقرا" وليس لقراء العربية حوله إلا النزر اليسير من الأفكار المبهمة التي لا تنير المعاني ولا المواقف، بالإضافة إلى أن كثيرا من المنظومات الفكرية والإيديولوجية الغربية نفسها أشاعت من حولها كثيرا من الأحكام السلبية... هذا مع العلم بأن الذين رفضوا السيرة الذاتية انتهوا إلى كتابتها أسرى طائعين بمعنى من المعاني (أشير بذلك إلى "بيير بورديو" آخرهم على سبيل المثال الذي يحضرني الآن فقط). وتنويعا على هذا كله أريد أن أقول للجواب عن الشق الثاني من سؤالك: لو وقفت قليلا عند عنوان النص الذي نشرته قبل سنة تقريبا (من قال أنا) لوجدت فيه بوضوح شيئا كثيرا مما أتيت على ذكره، أو هكذا يبدو لي الأمر. يمكن لي، إذن، أن أقرأه على ثلاثة وجوه ممكنة: أولها بإضافة الاستفهام الاستنكاري يصبح تأكيدا ندركه بالتأويل: أنا الذي أقول أنا رغم استنكار المستنكرين؟. وأعقله ( حرف مَنْ) أيضا، وهذا ثانيها، كتأكيد للقائل الذي يقول أنا بطبيعة الحال، إذ فيه تصريح يعود على القائل الغائب. أما الوجه الثالث المضمر فهو أن في العنوان ما لا يخفى من الإحالات الضمنية على الاعتقاد "الديني" الراجح لدى كثير من الأفراد بأن الأنا مرادف آخر للشيطان الذي يرجم، وهي في جميع الأحوال والأوضاع، قولا وسلوكا، محقرة مذمومة غير مستساغة عندما ينطق بها الناطق، وله أن يستعيد بالله تعالى من قولها وسردها (تكاد أن تكون الأنا مسرود بدون سارد، أو ملفوظ بدون لافظ). ويظهر لي أن الاعتقادات الرائجة حول الأنا إن هي، في الواقع، إلا اعتقادات ثقافية تقليدية ترتبط ببنيات معينة على صعيد المجتمع، ولها في التاريخ العربي الإسلامي كثيرا من التصورات والأسانيد التي لا يستقيم فهمها إلا من خلال مفهوم الجماعة (أو البنية المماثلة) الانتربلوجي. لقد أردت القول، من خلال العنوان المشار إليه، إن جلال الذات لا يكون إلا على قدر الحكاية التي تسردها في التجربة والحياة. وأن الأنا غير محايدة بطبيعة الحال، بل إنها محاذية لجميع المعاني التي ننتجها عن وجودنا الاجتماعي في الحياة والكتابة... وصدق بذلك شاهدا ما لا يحصى من النصوص القوية التي كُتبت على هديها الأسطوري منذ القرون الوسطى على الأقل، لأنها أرخت تأريخا نصيا موازيا للقلق والحيرة والسؤال الذي "ماكر" الأفراد ولاعبهم منذ أن كانوا أفرادا في العلاقة بذاتهم الشاكة (التهامي الوزاني) وبالكون الملغز (غوته) وبالخالق الجبار (القديس أغوستين). لطيفة لبصير-كاتبة مغربية [email protected]