يعتبر اللواء ضاحي خلفان قائد شرطة إمارة دبي من أكثر الشخصيات الخليجية، بل والعربية، صراحة في تناوله لبعض القضايا المتعلقة بالصالح العام، فبعد تصريحاته الشهيرة التي حذر فيها من تزايد العمالة الأجنبية، و«استيراد» الشعوب وتوطينها على حساب الهوية الخليجية العربية، (قال نخشى أن نفقد الإمارة ونحن نبني العمارة)، فجر قنبلة أخرى لا تقل أهمية، عندما طالب بإلغاء نظام الكفيل البغيض، معتبراً أنه بات مثل الحجر الثقيل على كاهل الدولة ومواطنيها. تصريحات السيد خلفان الأولى حول استيراد الشعوب لإشباع جشع شركات البناء والإعمار في حمأة الطفرة العقارية، لم تغير من واقع الحال شيئاً، فقد تناسلت هذه الشركات، وأثرى أصحابها وسماسرتها ثراء فاحشاً، وكان الضحية هو المواطن البسيط، من أهل البلد أو المغامرين العرب والأجانب الذين حلموا بالثراء بدورهم، عندما خسروا كل مدخراتهم بسبب انهيار البورصات وانفجار «فقاعة» دبي العقارية. المأمول ألا تكون تحذيراته من مخاطر نظام «الكفيل» مثل سابقتها، وتظل في إطار الاستهلاك المحلي، وامتصاص غضب بعض منظمات حقوق الإنسان الغربية التي تضغط في هذا الاتجاه، بعد أن حددت منظمة العمل الدولية يونيو 2008 موعداً لإلغاء نظام العبودية هذا دون أن تتم الاستجابة لطلبها. دولة البحرين كانت سبّاقة في الحديث عن إلغاء هذا النظام قبل ثلاثة أشهر، حيث خرج علينا وزير العمل فيها الدكتور مجيد العلوي ببيانات تؤكد عزم حكومته على إغلاق هذا الملف، لنفاجأ بعدها بالتراجع بشكل مؤسف عن هذا الإلغاء، ربما لضغوط مكثفة من دول الخليج الأخرى التي فوجئت بالقرار. الدكتور العلوي الذي عاش في بريطانيا عندما كان يعمل في صفوف المعارضة كان يضغط دائماً لإصلاح أوضاع العمال الأجانب في دول الخليج، لأنه يدرك جيداً كيف يعامل نظراؤهم في الدول الأوربية، ابتداء من إعانات البطالة والتأمين الصحي والضمان الاجتماعي، وانتهاء بالحصول على الجنسية بعد خمس سنوات من الإقامة القانونية. ولا نفهم كيف قَبِلَ بهذا التراجع عن قرار أشاد به الجميع بمن فيهم نحن في هذه الصحيفة. فالدول الخليجية تكاد تكون الوحيدة في العالم التي تطبق هذا النظام على أكثر من 13 مليون عامل أجنبي، نسبة كبيرة منهم من العرب، وترفض كل الضغوط لإلغائه تحت حجج وذرائع عديدة غير مفهومة، بل غير مقبولة في القرن الحادي والعشرين. الذين عاشوا أو عملوا في منطقة الخليج يجدون أن وصف العبودية لنظام الكفيل يبدو مخففاً للغاية، لأنه أكثر إجحافا من ذلك بكثير. فبمجرد وصول العامل إلى أرض البلاد يفقد إرادته بل وآدميته في معظم الأحيان، فالكفيل يستولي فوراً على جواز سفره ويضعه في خزانة محكمة الإغلاق، ويصبح محظوراً عليه التحرك من مدينة إلى أخرى دون موافقة الكفيل، وليس من حقه الشكوى من ضعف الراتب، أو طول ساعات العمل، وممنوع عليه الانتقال إلى عمل آخر، وإذا سمح له سيده بذلك فعليه أن يدفع مبلغاً نقدياً كبيراً، أو يتذلل طلباً للصفح عن هذه الخطيئة، وفي معظم الأحيان يتعرض المطالبون بحقوقهم أو إصلاح أحوالهم المادية للتسفير، حيث تُحظر عليهم العودة إلى البلاد إلا بعد خمسة أعوام في أفضل الأحوال. هذا النظام اللاإنساني الذي يعود إلى زمن أهل الكهف، سمح بازدهار تجارة بغيضة اسمها تجارة «الإقامات» في دول الخليج، حيث يقوم بعض «الهوامير» الجشعين بالمتاجرة بظروف هؤلاء المعيشية السيئة وحاجتهم إلى العمل، باستصدار مجموعة من تصاريح العمل من وزارة العمل، ويبيعونها إلى مجموعة من العمال، الهنود والبنغاليين خاصة، ويطلقونهم في سوق العمل مقابل دفع مبالغ شهرية لهم، ومن يتخلف عن الدفع يتعرض للتسفير. وقالت رابطة العمل الاجتماعي الكويتية إن نسبة هؤلاء تصل إلى 22 في بالمائة من مجموع العمالة في البلاد. أكتب عن هذا الموضوع من خبرة طويلة امتدت لسنوات، فقد كان محظوراً على أي موظف أو عامل أن ينتقل من جدة إلى الرياض داخل المملكة العربية السعودية إلا بورقة من الكفيل، مصدقة من دوائر الجوازات، والشيء نفسه إذا أراد الذهاب إلى الطائف التي تبعد أقل من مائة ميل عن جدة. صحيح أن العقد شريعة المتعاقدين مثلما يكرر بعض المسؤولين في الدول الخليجية، ولكن لا بد من التذكير بأن بعض العمال يتعرضون لخديعة كبرى عندما يوقعون هذه العقود، ويقبلون بأجور متواضعة أقل من مائتي دولار في الشهر، تعتبر كبيرة في بلدانهم، ومتواضعة جداً في بلد مثل دبي يضاهي غلاء المعيشة فيها لندن وباريس ونيويورك، إن لم يكن أكثر. فعندما انتفض عبيد نظام الكفيل في منطقة الجميرة في دبي قبل عام وأقدموا على أعمال عنف وأغلقوا الشوارع، لم يكونوا يطالبون بالإقامة في منازل أو شقق فاخرة، وإنما بأن ينقلوا إلى مكان العمل في باصات وليس في شاحنات مثل البهائم، وألا يتكدسوا في غرف ضيقة لا تتوفر فيها أبسط الحاجات الضرورية للبشر. أما ما تتعرض له الخادمات الآسيويات فحدث ولا حرج، فساعات العمل مفتوحة طوال الليل والنهار، والإهانات متواصلة تصل إلى حد الضرب والتجويع بل والاغتصاب. أذكر أنني في إحدى زياراتي لمدينة جدة (لم أدخل المملكة منذ عشرين عاماً) لقضاء العشرة الأواخر من شهر رمضان المبارك مع شقيقي الأكبر، ذهبنا إلى مسجد في منطقة الحمراء قرب البحر، لصلاة الجمعة، وكان الإمام يدعى حسن أيوب، وهو خطيب مفوّه، لا يتردد في قول الحق، يتناول معظم المواضيع، وروى في تلك الخطبة قصة خادمة آسيوية ذهبت إلى المخفر تشتكي وضعها السيئ، فقالت للضابط إنها حامل، فعندما سألها عن أب جنينها قالت لا تعرف، فقد اغتصبها الأب والابن الأكبر والمتوسط والأصغر. أمر مؤسف أن تنحدر صورة العرب إلى هذا الدرك، وتصبح على هذه الدرجة من السوء في الشرق والغرب، وفي أوساط شعوب إسلامية من المفترض أن تمثل القدوة بالنسبة إليها، باعتبار أن الرسالة المحمدية صدرت من أرضنا إلى مختلف أصقاع العالم. من العيب أن يمارس معظم الإعلام العربي، والخليجي منه خاصة، كل أنواع التعاطف مع المظاهرات الاحتجاجية في طهران تحت ذريعة دعم الحريات والديمقراطية وحقوق الإنسان، وتزوير الانتخابات، بينما تمارس حكوماته أبشع انتهاكات حقوق الإنسان، ولا تعرف شعوبها، باستثناء الكويت، شيئاً اسمه صناديق الاقتراع. نظام الكفيل هو أحد أبشع أنواع انتهاك الحريات وحقوق الإنسان ويجب أن يلغى فوراً، ليس لأنه حجر ثقيل على صدر المواطن الخليجي، وإنما لأنه يثير أحقاد شعوب العالم بأسره ضدنا ويشوّه صورتنا كعرب ومسلمين، ويلصق صفة العبودية والعنصرية فينا، ونحن أتباع عقيدة كانت أول من حررت الإنسان وألغت العبودية والرق وساوت بين البشر.