لا مناص من إصلاح دستوري يرفع القضاء إلى مستوى السلطة إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية وإقرار استقلال القضاء من خلال قانون تنظيمي يركز جميع الاختصاصات المرتبطة بالحياة المهنية للقضاة بين يدي المجلس الأعلى للقضاء الحمد لله والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد، منذ أن وقعت عشر جمعيات حقوقية على المشروع الذي تبنته من أجل إصلاح القضاء يوم 6 أبريل2009 وسلمت نسخة منه إلى مختلف الجهات الرسمية بعد أن عممت توزيعه على الصحافة، انفلت العقال وتناسلت الأفكار وتعددت الآراء بعيدا عن مناقشة منطلقات المشروع ومقترحاته لتهتم بصفة خاصة بأسباب ومسببات حالة التردي، التي وصل إليها قضاؤنا بعد أزيد من خمسين سنة على الاستقلال إلى درجة وصف أصحاب المبادرة وغيرهم ممن دخلوا على الخط ب«أشخاص يتزايدون على بضاعة في غياب أصحابها» (ذ/حسون جعفر – «الصباح» 18-19 أبريل 2009). وتجمع كل الكتابات تقريبا على خضوع القضاة للتعليمات «في القضايا الحساسة التي يكون فيها القاضي بصدد وضع دقيق وحرج لا يحسد عليه» (ذ/ محمد الساسي – «المساء» 18-19 أبريل 2009) أو «في القضايا التي تهم المخزن أو ما يسمى بالمصلحة العليا للبلاد من صنف قضايا الإرهاب «... حيث يكون القضاة مهددين بالويل والثبور إذا جاءهم أمر ولم يحكموا به» (مصطفى العلوي - الأسبوع 17 أبريل 2009). وانطلاقا من مسؤولية رئاسة الجمعية المغربية للدفاع عن استقلال القضاء وبصفتي أحد المساهمين في إعداد المشروع والموقعين عليه، فقد تتبعت، ببالغ الاهتمام، كل ما كتب في هذا الشأن إلى حد الآن إلى أن استفزني، على وجه الخصوص، ما جاء في الملاحظات القيمة التي حملها مقال عزيزي وشقيقي في النضال من أجل إعلاء حقوق الإنسان الأستاذ محمد الساسي تحت عنوان «الملك والقضاة»، فقد استوقفني، على الخصوص، اقتراحه العملي المرحلي في انتظار استكمال الخطوات المطلوبة لتعديل البنية الدستورية والقانونية المتعلقة بالقضاء. ذلك أنه يرى أنه «يكون من المفيد لو بادر الملك إلى إصدار رسالة إلى قضاة المغرب يؤكد فيها أن واجبهم هو تطبيق القانون ولا شيء غير القانون واحتكامهم إلى ضميرهم فقط في ذلك وأنهم يتمتعون بكامل الحصانة والأمان حتى ولو تبنوا في قراراتهم اجتهادا مخالفا لما تبناه الملك علنا... وعلى القضاة أن يرفضوا أي تدخل أو ضغط من أي كان، مهما كانت مكانته أو وزنه أو حجم سلطته أو درجة قربه من الملك...»، إلى آخر ما جاء في بنود الاقتراح العملي المرحلي. في البداية، يذكرني هذا الاقتراح بصيغة القسم الذي كان يؤديه القاضي بين يدي فرعون منذ أزيد من خمسة آلاف سنة، حيث كان القاضي يقف رافعا رأسه ويديه ويقسم بالآلهة «على ألا يطيع أوامر فرعون عندما يصدر أحكامه». ثم فهمت من الاقتراح أنه قد يحمل مبادرة ملكية غير مسبوقة. وأستسمحكم في تقدير هذا الفهم وما يمكن أن يحتمل من خطأ. ذلك أن هذه المبادرة سبق للملك الحسن الثاني رحمه الله أن اتخذها عندما اجتمع بكبار رجال القضاء والمحاماة والعدول بالقصر الملكي بالرباط يوم الأربعاء 31 مارس 1982، أي منذ 27 سنة بالضبط، ووجه إليهم رسالة بالغة الوقع اشتملت على مجموع بنود مقترحكم وتعدته إلى أبعد من ذلك بكثير ولم تكن النتيجة إلا ما ترونه! لقد استعمل الحسن الثاني رحمه الله أسلوبا خطير الوقع في النفوس، حيث تألق في اختيار تعابيره ومفرداته والصرامة في المزج بين الترغيب والترهيب. الخطاب طويل شيئا ما ومنشور بالعدد 131 من مجلة «القضاء والقانون» التي تصدرها وزارة العدل، ومع ذلك يكون من المفيد الإشارة هنا إلى بعض مقتطفاته رغم أنني أؤمن بأن كل جملة منه تستحق أن تعلق في مكاتب القضاة وعلى جدران قاعات المحاكم لبلاغتها، بل يكون من المفيد جدا أن يعاد نشره وتوزيعه على جميع القضاة للاستئناس بأنواره. يقول الحسن الثاني رحمه الله : «... مسؤولية القاضي ليست أجسم من مسؤولية كاتب الضبط، ومسؤولية المحامي ليست أقل من مسؤولية القاضي»، ومسؤولية التنفيذ –وفق ما أعتقده شخصيا- هي أكبر المسؤوليات، ذلك أن عدم «التنفيذ يصل بالإنسان إلى استنتاجين: الاستنتاج الأول أن القضية لم تؤخذ بعين الاعتبار في الموضوع، وحتى لو حكم فيها واعتقد المحكوم له والمحكوم عليه أن هذا على صواب وهذا على خطأ فعدم التنفيذ أو التماطل في التنفيذ يجر المرء إلى تفكير آخر وهو انحلال الدولة». ويضيف مخاطبا القضاة: «أنتم لديكم مسؤولية أكثر مما لدي، أنتم يمكنكم أن تفقروا عائلة، يمكنكم تشريد ورثة وأيتام ومحاجر، يمكنكم أن تحرموا فردا من المجتمع من حريته خمس عشرة أو عشرين سنة، يمكنكم فوق ذلك أن تحرموه من حياته. ولو كان لي اختيار مهنة، والله ما كنت لأختار مهنة القضاء. كنت أختار حاجة أخرى لأنه -والله يكون في العون- فحتى أسرة القضاء لم تتكون على أسس، منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، على الأسس الصحيحة والمتينة كما يجب أن تبنى عليها من الناحية الهيكلية، ولكن كان من الضروري مغربة القضاء قبل كل شي...». ويضيف رحمه الله: «إنني كما أقدر جسامة مسؤوليتكم حينما أقول الجسامة أقول الجسامة والمسؤولية الإيجابية والسلبية أقدر كذلك ما هي متاعبكم وما هو الجهاد، جهاد النفس. إن النفس لأمارة بالسوء. الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فأنتم في عراك مستمر تخوضونه صباح مساء حتى تبقوا أوفياء لما يلابسكم من كتاب الله وسنة رسوله وعمل أهل السنة... علما منا بأن أمامكم يوميا تمر قطارات من ذهب وكأنها تقول لكم «وغلقت الأبواب وقالت هيت لك قال معاذ الله». يوميا، أنتم سيدنا يوسف ترون أمامكم القناطر من الذهب المذهب». لكن قوة الخطاب ووعيده يكمنان في الفقرة التالية، حيث يضيف رحمه الله مخاطبا القضاة: «تعلمون أن الأحكام التي تصدر عنكم تصدر باسم جلالة الملك، معنى هذا أن المسؤولية الملقاة على عاتقكم هي مسؤولية مزدوجة، فإذا كان الحكم الذي أصدرتموه حكما مستقيما فلكم أجره وأجر من عمل به وأجر من صدر الحكم باسمه لأنني فوضت لكم. ولكن إذا كان الحكم جائرا وأصدرتموه باسم جلالة الملك فعليكم إثمه وإثم من عمل به وإثم من أصدرتم الحكم باسمه. وأنا شخصيا لو كنت قاضيا لن أتحمل لا إثم المظلوم ولا إثم أمير المؤمنين لأنه بقطع النظر عما إذا كان الحسن الثاني أو غيره فالإمام ظل الله ورمحه. «فإذن، الحلال نتقاسم أجره ولكن الحرام لا يتعلق بذمم أو بذمتين. الحرام معلق بكل قاض قاض». ومباشرة بعد صدور هذا الخطاب، بعث وزير العدل في 21 مايو 1982 منشورا تحت عدد 934 إلى الرئيس الأول للمجلس الأعلى والوكيل العام للملك لديه والرؤساء الأولين لمحاكم الاستئناف والوكلاء العامين للملك لديها ورؤساء المحاكم الابتدائية ووكلاء الملك لديها وقضاة المملكة تحت عنوان: «التوجيهات المولوية السامية»، ذكر الجميع بمقتضيات الخطاب وضرورة الانصياع للإرشادات السامية والتوجيهات المولوية الغالية التي رسمت المنهجية القويمة للعدل في ربوع المملكة للرفع من مستوى القضاء سلوكا وعملا بالارتقاء به إلى درجة المسؤوليات الملقاة على عاتقه والتي ترمي إلى تحقيق عدالة ناجعة قادرة على احترام الحقوق والحريات وصون الأحوال والمعاملات وضمان هيبة الدولة والمؤسسات... بصراحة لا تغفو عن الحق وصلابة لا تلين في الإنصاف. وقد تضمن المنشور الدعوة إلى تركيز الجهود في مختلف المحاور والمجالات التي من شأنها تحقيق هذه الأهداف والغايات، وخاصة في ميدان تصريف الأشغال بالنسبة إلى التماطل في تنفيذ الأحكام والقرارات وتأخير البت في المتراكم من القضايا والملفات. كما تناول تفصيل وسائل العمل في بندين اثنين: تنفيذ الأحكام والقضاء على المخلفات. ويمكن الرجوع إلى التفاصيل المنشورة في نفس العدد من المجلة المذكورة. وأتذكر أنني في قضية سياسية جاءت في أعقاب سلسلة من الاعتقالات المتتالية والمتابعات من أجل الإخلال بالنظام العام سنة 1992، ركزت مرافعتي أمام الهيئة الاستئنافية على ثلاث نقط لا علاقة لها بالقانون لشدة معرفتي بالتعريفة المحددة للعقوبة والتي سبق تطبيقها في ملفات سابقة ومتشابهة قضت فيها نفس الهيئة. النقطة الأولى تناولت فيها شرح الآية القرآنية عدد 74 من سورة الإسراء التي يقول فيها الخالق عز وجل: «ولولا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا». لأذكر أعضاء المحكمة بأن النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام رغم علو شأنه ومكانته باعتباره سيد المخلوقات الذي جمع فيه الخالق ما تفرق في باقي الأنبياء والرسل، فإن الله سبحانه وتعالى ثبته وعصمه من الانزلاق والركون إلى المغرضين لشدة احتيالهم، فما بالك بالإنسان العادي المعرض للانزلاق يوميا وعليه أن يثبت نفسه بنفسه وأن يحصنها بالوسائل المشروعة. والنقطة الثانية تناولت فيها حديث الرسول عليه الصلاة والسلام: «والله لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، لأن طاعة الأمير تكون في المعروف بينما الدخول في النار منكر بين». والقضية تحكي ما حدث لسرية بعثها رسول الله عليه الصلاة والسلام في مهمة فأغضبت الأمير في الطريق فما كان منه إلا أن أمرهم بجمع الحطب وإيقاد النار فيه ثم الدخول في النار انطلاقا من وجوب طاعة الأمير. واستخلصت من القضية أن طاعة أولي الأمر لا تكون إلا في المعروف، أما الطاعة العمياء في المنكر فيأباها الشرع. والنقطة الثالثة خصصتها للخطاب الذي وجهه الحسن الثاني رحمه الله إلى القضاة، وعلى الخصوص المقطع الذي يذكرهم فيه بالحديث القدسي الذي سوى فيه نفسه بخلقه أجمعين بخصوص تحريم الظلم عندما قال: «إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا»، والتحذير من الحكم الجائر لأن الجور لا يتعلق بذمتين بينما الحكم العادل يتقاسم أجره مع القاضي الذي أصدره باسمه. وأنهيت مرافعتي بتذكير المحكمة بأن الله عز وجل ونبيه وأمير المؤمنين يوصون بالتمسك بالحق والثبات عليه وطاعة أولي الأمر في المعروف فقط وأن القاضي يتحمل وزر وإثم الحكم الجائر وحده لعدم تعلق الجور بذمتين. وعلى الرغم من ذلك، كان الحكم بمثابة الصاعقة عندما صدر بنفس التعريفة، أي تأييد الحكم بسنتين نافذتين. وكانت مرافعتي، بالتالي، بمثابة ترف زائد لم يستطع ململة المحكمة عن موقفها. ولهذا، إنه لا مناص من إصلاح دستوري يرفع القضاء إلى مستوى السلطة إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية وإقرار استقلال القضاء من خلال قانون تنظيمي يركز جميع الاختصاصات المرتبطة بالحياة المهنية للقضاة بين يدي المجلس الأعلى للقضاء.