لم يعد الإصلاح القضائي مجرد مطمح معبر عنه من طرف المسؤولين، أو نقطة مبرمجة في جدول أعمالهم بشكل روتيني، بل أضحى من أهم الاوراش المراد إصلاحها، ومسألة ذات أولوية بالنظر لأهمية القطاع كعماد لسلطة الدولة، وكثابت من ثوابت النظام السياسي باعتباره جزءا لا يتجزأ من سلطه العمومية الثلاث، بل بات كعربون لتوطيد دولة الحق والقانون، وبالتالي ضمان الحقوق والحريات وكحارس لأختام العدل الذي به تصان القيم، ومن خلاله تستقر المبادئ، بل العدل جوهر رسالته وأساس الملك ككل . إن الإصلاح القضائي يعتبر شرطا ضروريا لنجاح الإستراتيجية الاقتصادية والانخراط في السوق التنافسية القائمة على جلب الاستثمارات. ولهذه الأسباب وغيرها أصبح إصلاح القضاء من أهم الانشغالات المجتمعية، خاصة في ظل عالم اليوم المعلب بالعولمة والمحكوم بالحكامة الجيدة، ولعل البوابة الدستورية هي المدخل الأساسي لإصلاح القضاء، والشرط الأساسي لتحقيق استقلاليته، والتي أصبحت جزءا من الضمير العالمي. كما سبق الذكر، لم يبق الإصلاح القضائي شأنا حقوقيا أو مطلبا سياسيا، بل أصبح قضية مجتمعية ينشغل بها الجميع، وينخرط فيها الفاعلون السياسيون سواء المنتمون إلى الأجهزة الرسمية أو غيرها، ودون إغفال الفعاليات الأكاديمية أو الهيآت الحقوقية والمنظمات الدولية. 1- موقع الإصلاح القضائي في الخطاب الملكي لا يخفى على أحد طبيعة العلاقة بين المؤسسة الملكية وجهاز القضاء، إذ ليس التقعيد الدستوري - الحداثي- هو الذي يؤطر اختصاصات الملك في هذا الشأن كرئاسة الملك للمجلس الأعلى للقضاء وتعيينه للقضاة، وممارسته لحق العفو وإصدار الأحكام باسمه، بل إن النظرية الإسلامية للقضاء، والتي تعتبر هذا الأخير من وظائف الإمامة كانت قد شكلت مخرجا وسندا لموقف المجلس الأعلى في نازلة مزرعة عبد العزيز سنة 1970، وتبعا لذلك، فلا غرابة إذا خص الملك جهاز القضاء بالرعاية والاهتمام، إذ ما انفك جلالته يذكر ويؤكد على ضرورة إصلاح قطاع العدل وتسريع وتيرته، وفي مختلف المناسبات إما أثناء خطب العرش (30 يوليوز 2001)، أو بمناسبة افتتاح السنة القضائية بأكادير (29 يناير 2003)، أو خلال انعقاد دورة المجلس الأعلى (12 / 04 /2004) أو توجيه الرسالة إلى المشاركين في الندوة الدولية للمجلس الأعلى (21 - 22 نونبر 2007)، وغيرها من المحطات التي شكلت مناسبة لتوجيه السلوك القضائي من طرف أعلى مؤسسة في البلاد، »... ولا يمكن للقضاء أن يحقق المكانة الجديرة به إلا حين يكتسب ثقة المتقاضين (12 / 04 / 2004)، أو الدعوة لإقرار ميثاق وطني للقضاء ( مناسبة مرور 50 سنة على تأسيس المجلس الأعلى للقضاء). ورسم خطاب الملك محمد السادس الذي ألقاه في 20 غشت 2009 بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك والشعب 1953، خريطة طريق لإصلاح شامل للقضاء بكل دقة وتفصيل (ضمانات لاستقلالية القضاء وعصرنة الإطار التنظيمي وإصلاح شامل للهيكلة والموظفين وزيادة الفعالية وإرساء قواعد للتخليق ... ). يظهر من خلال هده الأمثلة والمواقف الاستشهادية أن ورش إصلاح المؤسسة القضائية حاضر بشكل مكثف وكانشغال مركزي في الخطب والرسائل الملكية، إلى جانب أطراف أخرى. 2 - الإصلاح القضائي من منظور المؤسسات الأخرى تنشغل بموضوع إصلاح جهاز القضاء أجهزة أخرى، وهي إما رسمية أو غير ذلك، والتي يمكن اختزالها في بعض المحطات أو المناسبات التي كانت موضوع الاهتمام بورش العدالة بدءا بالتصريح الحكومي المقدم بواسطة الوزير الأول، هذا الأخير الذي صرح في مؤتمر صحفي في 29 يناير 2009 بأن إعادة هيكلة النظام القضائي تعتبر من أهم المجالات التي تركز عليها جهود الحكومة، كما أن الوزير السابق الوصي على القطاع كان قد صرح في 7 فبراير 2008 بأن إصلاح القضاء من أكبر التحديات التي تواجه وزارته، هاته الأخيرة التي أعدت خطة لإصلاح القضاء بغية تأهيله وتعزيز تحصين استقلاليته. وقد عملت وزارة العدل مباشرة بعد الخطاب الملكي ل 20 غشت من السنة الفارطة، على إعداد النصوص التشريعية والتنظيمية، لتنفيذ خارطة الطريق لتفعيل إصلاح القضاء المنشود. وأثناء حفل تسليم السلط في 6 يناير 2010 بين وزير العدل السابق والوزير الحالي.الذي أكد أن تحديث قطاع القضاء وتأهيل الموارد البشرية يعتبران عنصرين لا محيد عنهما في عملية إصلاح القضاء، معربا عن استعداده لمواصلة الأوراش التي أطلقها سلفه. كما أكد على ضرورة انخراط كل مكونات الحقل القضائي قصد نجاح مشروع إصلاح القضاء. وقال وزير العدل خلال زيارته لمقر مجلس هيئة المحامين بالدار البيضاء، بحضور المسؤولين القضائيين بمحاكم الدارالبيضاء ، إن مشروع إصلاح القضاء الذي أطلقه جلالة الملك محمد السادس يتطلب تضافر جهود وزارة العدل والقضاة والمحامين . كما أن المنتسبين إلى جهاز العدالة ما انفكوا يشخصون مكامن الخلل في الجهاز القضائي، فهاته المفتشية العامة لوزارة العدل تكشف عن اختلالات سلوكية وأخلاقية، ناهيكم عن موقف أصحاب رسالة إلى التاريخ، وكما لم تظل جمعيات المجتمع المدني مكتوفة الأيدي أمام هذا الملف الحساس والتي لم تكتف بالتشخيص، بل ارتقت إلى رسم خطة لإصلاح العدالة، ساهمت فيها 10 جمعيات في إعداد مذكرة 6 أبريل 2009، بل هناك بعضا من هذه الجمعيات أسست للدفاع عن إصلاح القضاء من قبيل جمعية الدفاع عن استقلال القضاء وجمعية عدالة، ولم يكن الورش القضائي انشغالا وطنيا، بل أثار انتباه أو تدخل حتى المهيآت الأجنبية بالنظر لأهمية جهاز القضاء في جلب الاستثمارات وضمان الحقوق، وتسعف تقارير البنك الدولي في هذا الشأن، والتي رسمت صورة سلبية لقطاع القضاء، أما الاتحاد الأوربي فقدم مساعدة مالية لإصلاح هذا الجهاز. يتبين من خلال سرد الأمثلة المنتقاة ومن لدن مختلف المهيآت والمهتمين بقطاع القضاء، أن هذا الأخير ليعدو أن يكون إصلاحه ضرورة إنسانية، ليس فقط على مستوى إصلاح النصوص (مدونة الأسرة، الشغل، المسطرة الجنائية...)، أو مسألة تجهيزات (إلغاء محكمة العدل الخاصة، خلق محاكم تجارية...)، بل إن عمق الإصلاح لينفذ عبر استقلال القضاء، وهذا لن يتم إلا بإصلاح الوضعية الدستورية كشرط أساسي لإنجاح كل الإصلاحات الهيكلية المزمع تحقيقها. ما مدى الضمانات الدستورية لاستقلال القضاء إن إقرار استقلال القضاء ليعد لبنة أساسية لتحقيق العدالة في المجتمع، وتأكيد سيادة القاضي باعتباره سلطة وليس وظيفة، وبالتالي ممارسته لسلطاته دون ضغط أو تأثير، بل اتسامه بالحياد والجرأة في الرأي والاجتهاد، والدقة في التخصص. 1- مدى الاعتماد الدستوري لاستقلال القضاء يجدر التذكير بداية بمقتضيات الفصل 82 من الدستور المغربي التي تنص على أن القضاء مستقل عن السلطة التشريعية وعن السلطة التنفيذية، حيث يلاحظ أن الدستور أضفى صفة السلطة عن الجهازين التشريعي والتنفيذي، لكنها كانت مبتورة بالنسبة لجهاز القضاء، وهذا مدعاة للتساؤل، فهل الأمر يتعلق بثقوب وعيوب دستورية غيبت الإشارة المتوازنة ما بين السلط الثلاث أم ماذا؟ و يكاد يجمع الباحثون والممارسون والمهتمون والحقوقيون وغيرهم بالدعوة إلا إصلاح دستوري في سبيل إضافة صفة سلطة إلى الجهاز القضائي كتعديل للفصل 82 المذكور. وتماشيا مع ما هو سائد في الدساتير المقارنة، والتي لم تكتف فقط بالتنصيص على استقلالية السلطة القضائية، بل خصتها بضمانات القواعد السامية من قبيل مقتضيات الدستور الجزائري لسنة 1996 التي نصت على أن السلطة القضائية مستقلة (المادة 138) وتمارس في إطار القانون، وتصدر الأحكام باسم الشعب (المادة 141)، وتعلل الأحكام القضائية وينطق بها في جلسات علنية (المادة 144)، والقاضي محمي من كل أشكال الضغوط والتدخلات والمناورات التي قد تضر بأداء مهمته أو تمس بنزاهة حكمه (المادة 148) . ونصت أحكام الدستور الموريتاني لسنة 1991 على استقلال السلطة القضائية عن السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية وأن القاضي لا يخضع إلا للقانون، وهو محمي في إطار مهمته من أشكال الضغط التي تمس نزاهة حكمه (الفصل 82). واستطردت الدساتير العربية في تقعيد استقلالية القضاء وضمانات ذلك، بل هناك من حرصت حتى على رسم السلوك القويم للقاضي، فالدستور المصري أكد على استقلال السلطة القضائية التي تتولاها المحاكم (الفصل 165) وأن لا سلطات على القضاة في قضائهم غير القانون (الفصل 166)، أما الدستور الكويتي فنص على شرف ونزاهة القضاة، وعدلهم هو أساس الملك وضمان الحقوق والحريات، ويتكفل القانون باستقلال القضاء. يتبين مما سبق أن المشرع الدستوري المغربي لم يرق إلى إقرار استقلالية القضاء كسلطة - وعلى غرار الدساتير المماثلة بالخصوص - فكيف بالارتقاء بضمانات شكل الاستقلالية المنصوص على بعضها بأحكام التشريع العادي (القانون الجنائي) إلى التقعيد الدستوري، وهو ما يستدعي إصلاحا دستوريا يكون المدخل الأساس لإصلاح المنظومة القضائية عبر التحصين الدستوري للاستقلال القضائي المنشود، إلا أن هاته الأداة الدستورية (الموضوعية والخارجية ) تظل غير كافية إذا لم يتم إدماج ما هو ذاتي الكفيل بضمان هذه الاستقلالية في إطار إصلاح شامل ومندمج. 2 - الارتقاء الذاتي وضمانات استقلالية المؤسسة القضائية فكما قالت العرب سابقا: «فإن القوانين لا تصلح إلا بما صلح بها أهلها. » بحيث لا يمكن إغفال العنصر البشري في كل معادلة إصلاحية، وفي كل عمل إنساني، فالإصلاح لا يستقيم بوجود ترسانة تشريعية براقة وإشعاعية إذا لم تتوفر لها شروط التحقق، فالاستقلال القضائي لن يتم إلا من خلال الارتقاء الذاتي، فالذات القضائية يجب أن تكون محصنة بخصال النزاهة وصفات الاستقامة والكفاءة والجرأة ورفض أي توجيه أو تدخل في شؤون القضاة أو محاولة التأثير على قراراتهم ومن أي مصدر كانت. وهذا ما حذرت منه الرسالة الملكية الموجهة للمجلس الأعلى للقضاء في 18 أبريل 2004، والتي جاء فيها :« ... حيث إن استقلال القضاء الذي نحن حريصون عليه إزاء السلطتين التشريعية والتنفيذية..... ولكن أمام السلطات الأخرى شديدة الإغراء... وفي مقدمتها سلطة المال المغرية بالارتشاء وسلطة الإعلام ...»، وذكر الملك بأن النفس أمارة بالسوء وبالتالي فالضمانة الأساسية هي الضمانة الذاتية (الخطاب الملكي أثناء انعقاد الندوة الدولية بالرباط بمناسبة الذكرى الخمسين لتأسيس المجلس الأعلى للقضاء)، حيث شدد على استقلال القضاء وحياده اعتمادا على التجرد دون مفاضلة أو تحيز ودون إغفال التحلي بصفات النزاهة لكسب ثقة المتقاضين، والرفع من مستوى الأحكام وبنائها على أسس وأسانيد تحقق الإقناع وتعلل النتائج بشكل منطقي وسليم، وإنتاج المقاولة القضائية لاجتهادات قضائية متواترة من شأنها المساهمة في استقرار المعاملات وتثبيت الأوضاع، والتي لا يمكن أن تتأتى إلا من خلال كذلك التحلي بالشجاعة والحسم في المواقف والثقة في النفس واحترام الذات وقوة الشخصية والعمق في المعرفة القانونية المنتجة لأعمال مبنية على حكامة جيدة في ظل سيادة منظومة للقيم وسلوك أخلاقي. ويبدو مما سبق أن الإصلاح القضائي لهو بالشأن المجمع عليه تصريحا وتوجيها ومواقف لكن ما يمنع من فتح أقفاله، وإذ يعد المفتاح الدستوري شرطه الأساسي، فإن الإصلاح المندمج والشامل ليتوقف على مجموعة من التدابير في شكل إصلاحات هيكلية وتنظيمية وسلوكية، وهي مثلية لا حصرية من قبيل: - إعادة النظر في الخريطة القضائية للمملكة، وخاصة على مستوى هيكلة المجلس الأعلى للقضاء، في اتجاه توسيع تمثيليته واختصاصاته وإعادة الانتشار العادل والمتوازن لأعضاء الجسم القضائي. - إقرار سياسة قضائية قائمة على برامج التأهيل والتكوين والتحديث وعقلنة وسائل العمل . - دعم دولة الحق والقانون اعتمادا على تخليق الحياة القضائية وضمان المحاكمة العادلة وإقرار مدونة للسلوك والقيم القضائية... أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بمكناس