ظروف طبيعية قاسية بطعم المعاناة، وثلوج تلبس ثوب "الكفن" في قمم قرى جبلية يتجاوز علوها 2400 متر عن سطح البحر. هي حكاية "المأساة" في بيوت أسطحها من جليد ودفؤها حطب وأمل في غد أفضل. "المساء" تأخذكم في رحلة عبر دواوير تقطعت بها الأوصال في إقليم ميدلت وخنيفرة، حتى أضحى سكانها سجناء في "معتقلات" جبال الأطلس المتوسط. «الطريق نحو إملشيل مقطوع، سنتوقف هنا في أنفكو»، يقول سائق سيارة «مرسيديس 207»، أو ما يسميه السكان المحليون ب»ترانزيت». نزل الركاب تباعا، وهم يحملون ما استطاعوا توفيره من مواد غذائية وقنينات الغاز تحسبا لموجة جديدة من الثلوج. يوم الجمعة 23 يناير الماضي، كان عدد من النقط الجغرافية تعيش في عزلة تامة. أغلب الطرق الثانوية قطعت في وجه حركة السير، فيما يصارع أطر التجهيز والنقل الزمن لفتحها، وإنهاء حصار الطبيعة. السكان كما الأطباء ورجال ونساء التعليم انقطعت بهم الأوصال في الجبال، أما بعض رجال السلطة والمسؤولون فاضطروا إلى الاستعانة بالبغال للاستجابة لنداءات الاستغاثة. هنا تحكم الثلوج على سكان الجبال بعزلة تامة عن العالم الخارجي. ينقطع التلاميذ عن الدراسة، وتنقل الحوامل اللواتي يداهمهن المخاض على نعوش الأموات. يعلن السكان عن «سبات» شتوي قد يطول في حال تأخر عمليات فك العزلة.. وبالكلمات نفسها تحكى الحكاية على لسان المحاصرين...حكاية شبح «الثلج» الذي يخيم على سماء جبال الأطلس المتوسط كلما حل فصل الشتاء. طريق الثلج غير بعيد عن مدينة أزرو، وبالضبط على الطريق الوطنية رقم 13 عند نقطة «جبل هبري» تكاد حركة السير تتوقف بعدما تدفق عدد كبير من الزوار المغاربة والأجانب للاستمتاع بمنظر الثلوج وممارسة رياضة التزحلق، فيما تسارع كاسحات الثلوج لتوسيع الطريق وتيسير حركة المرور. على طول الخط الرابط بين أزرو وتمحضيت، انتشر العشرات من عناصر الدرك الملكي لتفادي اختناق المرور في هذه الأجواء الاستثنائية. سائقو سيارات الأجرة لا يتوقفون عن تبادل إشارات وجود أصحاب البذلة الرمادية من عدمه. بعضهم استغل فرصة نهاية الأسبوع لرفع سعر الرحلة بين مكناس وإفران أو أزرو بأكثر من 15 درهم. «أمس عانينا كثيرا، إذ هناك عدد من السيارات الخفيفة التي انزلقت بفعل الثلوج»، يقول سائق «الطاكسي» وهو يسير بسرعة لا تتجاوز 50 كلم رغم إلحاح بعض الركاب على الإسراع. «مغادي نوصلو لمديلت حتال غدا»، يخاطب أحدهم السائق بلكنة أمازيغية، ليرد الأخير بنبرة حادة: «بغيتي نقتلو الناس!». كلما اخترقت السيارة جبال الأطلس المتوسط التي لبست ثوب البياض، إلا وازدادت درجات الحرارة انخفاضا، فيما لم يجد السائق غير الاعتذار عن تعطل جهاز التدفئة، وهو ما دفع الراكب الذي طالبه بالإسراع إلى الاحتجاج مجددا: «كتعرفو غير تزيدو في الثمن». في جماعة «زايدة» على بعد حوالي 30 كلم عن مدينة ميدلت، كانت نهاية رحلتنا على متن الطاكسي، بعدما تلقينا اتصالا هاتفيا من فاعل جمعوي يفيد بخروج عدد من السكان في مسيرة احتجاجية على وفاة قريبتهم التي حاصرتها الثلوج بقرية آيت زيد قرب جماعة «أغبالو يسردان»، وهي في حالة مخاض. حصار قاتل نزلنا من السيارة لننطلق في رحلة البحث عن المسيرة الاحتجاجية. قطعنا حوالي 10 كلم بعيدا عن الجماعة القروية «بومية»، قبل أن نصطدم بالثلوج المتراكمة على الطريق. بعد اتصالات مع السكان، قررنا اللحاق بالمسيرة عبر قرية «القباب» التابعة لإقليمخنيفرة، وهو الأمر الذي حول رحلة من 10 كلم إلى أكثر من 100 كلم. استغرقت رحلة البحث عن المحتجين حوالي ساعة و45 دقيقة، وسط منعرجات ومسالك خطرة تثير الرهبة في النفوس. وما إن اقتربنا من النقطة التي وصل إليها سكان دوار «آيت زيد»، حتى التقينا بعض رجال وأعوان السلطة الذين حاولوا إقناع الغاضبين بالعودة إلى ديارهم. اسمها رابحة زكري...حامل فارقت الحياة بعدما حاصرتها الثلوج بقرية «آيت زيد» دون أن تحظى بالرعاية حسب تصريحات السكان. يقول موسى، شقيق المتوفاة، وهو يحمل العلم الوطني وكيسا وضع فيه بعض الطعام والمياه في رحلته نحو خنيفرة: «حملنا أختي في بطانية لمدة ثلاث ساعات على مسافة ست كيلومترات وسط الثلوج حتى وصلنا إلى الطريق حيث كانت تنظرنا سيارة إسعاف جماعة كروشن». تحدث موسى ل»المساء» بصوت حزين عن ظروف الحادث، وكيف كانت شقيقته تئن من شدة الآلام وتشتكي من تبلل البطانية التي استعان بها السكان لحملها نحو الطريق المعبد. ثم زاد بلغة غاضبة: «عندما اتصلنا بهم قالوا لنا «ماعندنا مانديرو ليكوم» واليوم جاؤوا يطلبون منا أن نعود إلى القرية...إيوا علاش ماتجيوش عندنا لبارح؟...حتال اليوم عاد تجيو». لم يستجب السكان لمحاولات السلطات المحلية بوقف احتجاجهم نحو مدينة خنيفرة، واستمروا في السير وسط الجبال رغم نزول الظلام وانخفاض درجة الحرارة إلى ما دون الصفر. فقط تدخلات السلطات الإقليمية هدأت شيئا من حرقتهم، بعد وعود بالاستجابة لمطالبهم التي تزداد إلحاحا في موسم الثلوج، حيث تنقطع الطرق وتصبح الحياة أكثر قساوة. المأساة نفسها ستتكرر بقرية مولاي يعقوب بإقليمخنيفرة. العزلة القاتلة كانت كافية لتضع حدا لحياة سيدة حامل لم يجد سكان القرية من وسيلة لإغاثتها. بعد معاناة دامت ثلاثة أيام فارقت الحياة تاركة رضيعتها تواجه حياة اليتم. جثمان الفقيدة تم تشييعه على ظهر دابة وسط الثلوج التي اكتسحت القرية. خلفيات هذا الحادث المأساوي سردها ل»المساء» مندوب وزارة الصحة بالنيابة في إقليمخنيفرة، والذي أوضح أن هذه السيدة وضعت مولودها في المنزل، ولم يتم نقلها إلى المستشفى إلا بعدما أصبح وضعها الصحي في حالة خطيرة، حيث توفيت قبل وصولها إلى المؤسسة الصحية ب15 كلم. ويضيف: «اكتشفنا أن الطبيب سبق أن منعها من الحمل لأنها سبق وأن خضعت لعمليتين قيصريتين، وبالتالي فحملها يساوي الموت». استنفار صحي حادث وفاة «رابحة زكري» استنفر السلطات ومسؤولي الصحة بإقليم ميدلت، خاصة أن المتوفاة تركت وراءها رضيعة كانت ستواجه المصير نفسه. الدواب كانت وحدها وسيلة النقل التي استعان بها مندوب وزارة الصحة ورجال السلطة للوصول إلى دوار «آيت زيد» المحاصر بالثلوج. حسن بوزيان، مندوب وزارة الصحة بإقليم ميدلت، صرح ل»المساء» أن الثلوج التي حاصرت دوار «آيت زيد» اضطرت الطاقم الذي انتقل إلى القرية لأن يقطع مسافة 160 كيلومترا مرورا بمنطقة «القباب» وجماعة «كروشن»، وهي مناطق تابعة لإقليمخنيفرة، قبل أن يصل إلى الدوار الواقع تحت النفوذ الترابي لإقليم ميدلت». وقال المسؤول الصحي وهو يكشف صعوبة الولوج إلى المنطقة: «تحركت شخصيا رفقة طبيبة وإطارين تمريضيين إلى جانب طاقم من عمالة الإقليم نحو هذا الدوار، حيث اضطرنا إلى الانتقال على ظهور البغال على مسافة 6 كيلومترات في طريق جبلي، كان سمك الثلوج فيه مرتفعا، وفي طريق العودة اضطررنا لقطع المسافة مشيا على الأقدام». بوزيان أوضح أن هذا الفريق زار القرية لإنقاذ المولودة، حيث قدمت لها الأدوية والتلقيح مع بعض الأغطية وحليب الأطفال، وفي الوقت نفسه أجريت فحوصات لحوالي 90 شخصا وقدمت لهم الأدوية. التساقطات الثلجية المهمة عقدت عمليات التدخل في عدد من القرى المعزولة. يقول مندوب وزارة الصحة في هذا السياق:»كانت هناك جهود كبيرة لإزاحة الثلوج عن الطرق إلا أن بعض الدواوير يستحيل أن يتم فتح مسالكها بشكل سريع، وبالتالي وجدنا صعوبة في الوصول إلى السكان، ورغم ذلك قمنا بجهود كبيرة للانتقال إلى المناطق المعزولة». ويؤكد بوزيان أن «مندوبية الصحة وعمالة إقليم ميدلت والسلطات المحلية ومديرية التجهيز تجندت لتقديم الخدمات الصحية اللازمة وإجلاء النساء الحوامل والحالات مستعجلة من المناطق الصعبة والمحاصرة بالثلوج إلى المراكز الصحية ودور الولادة والمستشفى الإقليمي لميدلت، إلى جانب المستشفى المتنقل ببومية». وتم في هذا الإطار تقديم فحوصات طبية والأدوية للمرضى في المراكز الصحية القريبة من تلك المناطق، حيث استفاد منها حوالي 4000 شخص، إضافة إلى إجلاء 23 حالة مستعجلة عن طريق سيارات الإسعاف، منها 14 امرأة حامل. أما على مستوى إقليمخنيفرة، فتفيد المعطيات التي قدمتها المندوبية الإقليمية للصحة أن عدد المستفيدين من الفحوصات الطبية والأدوية خلال فترة تساقط الثلوج والأيام التي تلتها تجاوز 3000 شخص، إضافة إلى عدد من المرضى الذين تم إجلاؤهم من المناطق المعزولة إلى المستشفى الإقليمي. احتجاجات ضد العزلة مسيرة سكان دوار «آيت زيد» لم تكن الوحيدة التي خرجت لاستنكار ما يصفونه ب»الإهمال» والمطالبة بفك العزلة عنهم، بل هناك مواطنون قطعوا بدورهم عشرات الكيلومترات وسط الجبال والطقس البارد في احتجاجات انتهت بحوار أسفر عن وعود بدراسة والاستجابة لمطالبهم، ليتم نقل الجميع في رحلة العودة عبر وسائل نقل توفرها السلطات. دوار آيت محمد، التابع لجماعة «تيزي نغشو» بإقليم ميدلت، نفذ سكانه مسيرة احتجاجية للمطالبة بإنهاء حصار الثلج الذي حول حياتهم إلى كابوس حقيقي. قطعوا أكثر من 20 كيلومترا ليقفوا أمام قيادة دائرة بومية، حيث فتح حوار عاد من خلاله السكان بالتزام يقضي برفع مطالبهم إلى الجهات المعنية والاستجابة للممكن منها. هذا الدوار الذي عزلته الجبال يكشف عن معاناة يتقاسمها الكثيرون في مناطق ذات جغرافية معقدة. شريط فيديو تتوفر عليه «المساء» يكشف نقل أبناء القرية لأحد المرضى في بطانية إلى طريق معبد، بعدما فر ضت الثلوج عزلة قاسية عن العالم الخارجي. بعض القرى التي خرجت في احتجاجات مماثلة طالبت بتوسيع عدد الدواوير التي استفادت من المساعدات الغذائية والبطانيات. جبال الموت في اليوم الثاني من زيارتنا لقرى الأطلس المتوسط، انطلقنا في رحلة جديدة ستقودنا هذه المرة إلى قرية «أنفكو» التي طفت قبل سنوات إلى سطح الأحداث، لتخرج من دائرة النسيان وإن كان موسم البرد مازال يقض مضجع أهالي قبائل آيت حديدو. بدأت الرحلة من جماعة بومية (تبعد بحوالي 40 كلم عن ميدلت) في حدود الساعة التاسعة صباحا في اتجاه «تونفيت». زيارتنا للجماعة صادفت انعقاد السوق الأسبوع، لنضطر إلى الانتظار لأكثر من ساعتين قبل انطلاق سيارة «ترانزيت» في حوالي الساعة الثالثة بعد الزوال نحو «أنفكو». سألت السائق عن المسافة والمدة التي تستغرقها الرحلة، فأجابني بلغة لا تخلو من تشويق: «الطريق جد صعب، ولهذا نقطع مسافة تقدر بحوالي 70 كلم في ثلاث ساعات...ستكتشف بنفسك خطورة الطريق، إننا نغامر». انطلقت ال»ترانزيت» بعد توقفات متكررة في «تونفيت». فقط سيارتان للنقل السري تؤمنان الرحلة بين القريتين، وكل من تأخر يكون مصيره التشرد في أجواء باردة تصل فيها درجات الحرارة إلى أقل من 6 درجات تحت الصفر. سارت السيارة على مسافة حوالي 30 كيلومترا بعيدا عن «تونفيت»، لنصادف ناقلة «بيكاب» تواجه مصير حمار الشيخ الذي وقف في العقبة. اضطر الركاب رجالا ونساء يحملون أطفالهن للنزول والمشي لمسافة تجاوزت كيلومترين قبل امتطاء السيارة من جديد في انتظار عقبة جديدة. «إستهنا؟» (هل الأمور بخير؟)، يسأل سائق ال»ترانزيت» زميله صاحب ال»بيكاب»، قبل أن يشير إليه الأخير للاستمرار في السير على طريق يثير الإحساس بالدوار والغثيان. سيدة في حوالي الخمسين سنة استلت كيسا بلاستيكيا ومنحته لابنها حتى يتقيأ فيه، عبر طريق مليء بمنعرجات تعانق الجبال ومنحدرات وعقبات تحول السفر إلى رحلة سيزيفية يخوضها السكان كل أسبوع للانتقال نحو السوق. كان السائق يتعامل مع السيارة وكأنها «دبابة برمائية»..يتجاوز بسرعة جنونية قنطرة تكاد تنهار، قبل أن يخترق مسلكا ترابيا تحاصره الثلوج حتى كادت السيارة تنزلق..فقط قطيع أغنام كان الرادع الوحيد لتخفيض السرعة. وزارة التجهيز والنقل لم تكلف نفسها عناء إصلاح الطريق التي تضيق إلى أن يصبح سير سيارتين متقابلتين مستحيلا. فقط بعض علامات التشوير الطرقي تنبه السائقين إلى المنعرجات الخطيرة والمنحدرات...هنا لا يمكن تجاوز سرعة ال30 كلم في الساعة. في حضن أنفكو وصلنا إلى القرية في حدود الساعة الخامسة و45 دقيقة مساء. ظل أهالي «أنفكو» ينتظرون لساعات وصول السيارة التي تقل ما يحتاجونه من مواد غذائية وقنينات غاز. بعض النساء يختلسن النظر من خلف أبواب منازلهن وهن يرتدين «تحنديرت» (لباس محلي مصنوع من الصوف)، فيما افترش الرجال الأرض وهم يتبادلون أطراف الحديث. عند وصولنا لأنفكو، كانت الحرارة قد انخفضت إلى 5 درجات تحت الصفر. يسارع السكان إلى حمل أغراضهم والعودة إلى منازلهم الطينية للاحتماء من برودة الطقس، فيما يتصاعد الدخان من أسطح البيوت الطينية.هنا أثمن ما يمكن أن يتوفر عليه الإنسان هو الحطب والغطاء. استقبلنا موحا، أحد أبناء القرية الذي ربطنا معه الاتصال للمبيت في «أنفكو». حماس الرجل للحديث عن معاناة السكان، لم يمنعه من وصف أنفكو بالمحظوظة مقارنة مع عدد من الدواوير المجاورة كدوار «أغدو» البعيد بحوالي 8 كيلومترا. هذا الدوار أضحى محاصرا بعدما قطعت الثلوج المسلك الطرقي الذي يربطه بأنفكو، ليضطر قاطنوه إلى قطع المسافة مشيا على الأقدام. منذ أن طفت أنفكو إلى سطح الأحداث قبل سنوات، تغير حال القرية بشكل كبير مقارنة مع عدد من الدواوير التي مازالت تعرف حالة من التهميش. «أنفكو تتوفر اليوم على مركز صحي وطريق معبد وشبكة للهاتف النقال وأيضا دكاكين، مما مكن من فك العزلة عن السكان»، يقول عزيز أوعليبوش، رئيس جمعية أغدو للتنمية ل»المساء». في أنفكو قضينا الليلة داخل بيت طيني بسيط أهم مقومات العيش فيه مدفئة تحمي أفراد العائلة من شدة البرد القارس. كانت عائشة، شقيقة موحا، تجلس القرفصاء وهي تعد وجبة العشاء. سيدة في حوالي الستين سنة، في ملابس محلية ووشم يتوسط حاجبيها. قبل بداية سرد المعاناة، طلب موحا من صحافي «المساء» أن يقترب من المدفئة وهو يرتعش من شدة برودة الطقس قائلا: «أصميد أصميد» (البرد..البرد)، ثم سرعان ما تحلق باقي أفراد العائلة حول كأس شاي. كلما حاول موحا إثارة بعض المشاكل «الهامشية» في نظر باقي أعضاء الأسرة، تدخلت شقيقته مخاطبة صحافي «المساء»: «لا يا ممي...إخساخ غاس أغراس نأغدو» (لا يا ابني نحن بحاجة فقط للطريق في أغدو). «سبات» شتوي موجة الثلوج والبرد القارس التي اجتاحت عددا من المناطق ليست بشيء مستجد على سكان الجبال، وهو ما يدفعهم للاستعداد لهذا الفصل بشهور، عبر توفير المؤونة الكافية تحسبا لعزلة قد تدوم لأسابيع. يقول حماد، وهو أحد قاطني دوار «أغدو»: «عندما يبدأ موسم الثلوج والبرد القارس الذي يجتاح هذه المناطق، نقوم بتخزين مختلف حاجياتنا على قدر المستطاع، سواء تعلق الأمر بالمواد الغذائية أو الحطب، لكن أكثر شيء يؤرقنا هو التطبيب، فإذا كان هناك إنسان مريض أو سيدة حامل فإننا نعاني كثيرا لإنقاذه في حال محاصرة الثلوج للقرية». هنا قد يضطر السكان إلى قضاء فصل الشتاء وراء الجبال. يواجهون غضب الطبيعية بوسائلهم البسيطة...ذنبهم الوحيد في كل ذلك هو تشبثهم ب»الدوار». «لا يمكن لي أن أرحل من هذه المنطقة التي ولدت فيها رغم أن أوضاعنا صعبة»، يضيف حماد الذي ارتسمت على وجهه المتجمد من شدة انخفاض درجات الحرارة، علامات الحزن من واقع مرير. توقف متحدثا لأحد أبنائه ثم زاد قائلا: «نحن لا نريد إلا أساسيات العيش ولا نسعى إلى أشياء كثيرة». ليست أغدو وحدها القرية التي تواجه العزلة في موسم الثلوج، بل هناك دوار يدعى «زبزبات» يواجه سكانه عزلة خاصة. إبان زيارتنا للمنطقة، أكد لنا بعض السكان أن سكان هذا الدوار حوصروا لأكثر من ثلاثة أيام بين الثلوج، وقد يكون مخزونهم من المواد الغذائية قد نفذ. «طبعا نحن لا نعلم عنهم أي شيء بعدما انقطعت الاتصالات معهم»، يوضح حماد. علم في الجبل العزلة التي عانى منها عدد من المناطق في جبال الأطلس المتوسط، أثرت على سير الامتحانات الإشهادية قبيل حلول عطلة الطور الأول، فيما وجد بعض الأساتذة أنفسهم محاصرين بين الثلوج، واضطروا إلى مشاركة السكان المحليين معاناة العزلة. أربع معلمات حاصرتهن الثلوج بمنطقة آيت عبدي قرب ميدلت، قضين لحظات في الجحيم، واجهن خلالها شبح الموت. وبعد اتصالات مكثفة مع السلطات الإقليمية، تم استنفار طائرة مروحية للدرك الملكي التي تكلفت بإجلاء المحاصرات، ونقل إحداهن إلى المستشفى. عدد كبير من رجال ونساء التعليم الذين يشتغلون في الجبال وجدوا صعوبة كبيرة في الخروج من حزام الموت لقضاء العطلة رفقة عائلاتهم. بقرية تونفيت التقينا حسن، وهو معلم بإحدى المدارس الجماعاتية. يقول حسن بنبرة تحمل فرحة خاصة: «الحمد لله وصلت بسلام إلى تونفيت، لكن ربما على الوزارة أن تضع ضمن برامج تكوين رجال ونساء التعليم تدريبا خاصا لمواجهة هذه الظروف». المصير الواحد الذي يجمع السكان وباقي الوافدين على القرى المحاصرة الثلوج، ولد حياة تتسم بكثير من التضامن. «طبعا نوفر للمدرسين حطب التدفئة حتى يتمكنوا من مواجهة البرد القارس...إنهم يقومون بأجر كبير»، يعلق أحد سكان «أنفكو» على معاناة هيئة التدريس. فقر وغرامات صعوبة العيش في المناطق الجبلية تزداد قساوة في ظل الارتفاع الكبير لسعر حطب التدفئة مقابل تراجع المخزون الغابوي. في الطريق إلى «أنفكو» يصادف زائر المنطقة قوافل الدواب التي تحمل الحطب. عدد كبير من السكان يضطرون إلى استغلال الأشجار «الميتة»، مقابل قطع آخرين لأشجار أرز عملاقة. ومن لم يجد مورد رزق قانوني، فإنه يضطر لاجتثاث الأشجار وبيعها بسعر بخس لسد رمق الجوع. سلوك غير قانوني قد يجد معه إنسان الجبل نفسه ملزما بأداء عشرات الملايين من الغرامات. حتى السكان الذين يقطنون في المناطق الحضرية يعانون من الارتفاع المسجل في سعر حطب التدفئة. يقول محمد، مواطن من منطقة بومية، إن الأسعار هذه السنة وصلت إلى درهم و30 سنتيما لليكلوغرام الواحد (تشمل كسر ونقل الحطب). ميزانية التدفئة في هذا الفصل القارس قد تتجاوز 3500 درهم. حصيلة كل ذلك هو تراجع المخزون الغابوي، فبمجرد عملية حسابية بسيطة سنجد أنفسنا أمام مئات الآلاف من أطنان الخشب التي يتم استهلاكها، سواء بالطرق القانونية أو غيرها. «المساء» حصلت على رقم صادم من المندوبية السامية للمياه والغابات يشير إلى أن الرقم الإجمالي لحطب التدفئة المستهلك سنويا يقدر ب6 مليون طن. «ماعندنا والو غير الغابة، واش حتى هي مانستافدوش منها؟» تساءل مواطن من قرية أغدو في حديثه ل»المساء».من بين الأفكار المقترحة هو تخفيض سعر الكهرباء بالنسبة لسكان الجبال والمناطق الأكثر تضررا من موجات البرد، وذلك لتمكينهم من استعمال وسائل التدفئة الكهربائية عوض استغلال الحطب الذي يتم قطعه من الغابات المجاورة. في ثنايا حديث السكان، يكمن جرح المعاناة. هنا مطالب العلم والطعام والكهرباء لا تعدو أن تكون مجرد تفاصيل، أمام مطلب رئيس لا يتعدى تعبيد الطريق. معاناة السكان في «أغدو» و»أنمزي» و»آيت محمد» و»إملشيل» لا تنتهي، أما من قرر فتح قلبه فسيأخذك في حكايات مأساوية من قصص البؤس خلف جبال يتربص بها «عزرائيل» كلما تلبدت السماء بغيوم الثلوج. أغدو المحاصر ليلة باردة قضيناها في بيت موحا. في الصباح الباكر كانت أمامنا رحلة طويلة في اتجاه «أغدو». خرجنا من المنزل وقد تحولت البرك المائية إلى جليد. في الطريق إلى الدوار نلتقي عددا من سكان القرية الذين انطلقوا في رحلة البحث عن حطب التدفئة. المسافة بين «أغدو» و»أنفكو» تقارب الثماني كيلومترات. «لا يمكن أن نعيش بدون حطب تدفئة، وإلا فسنموت من شدة البرد»، يقول محمد، أحد سكان «أنفكو» الذي التقيناه وهو يصعد بصعوبة شديدة جبلا محاذيا لواد يفصل أنفكو بالمسلك المؤدي إلى أغدو. الحطب المستعمل في التدفئة لا يمنع من وجود تجاوزات في حق غابات الأرز، بسبب ما يعتبره السكان الفقر المدقع الذي يدفع البعض لاجتثاث الشجر وبيعه قصد توفير أبسط مستلزمات العيش. قطعنا مسافة قاربت ثلاثة كيلومترات لنجد أنفسنا أمام طريق مقطوع. حتى الدواب لا تستطيع أن تتحرك وسط سمك الثلوج الذي يتجاوز في بعض المقاطع مترين، ليضطر السكان إلى المغامرة والانتقال مشيا على الأقدام. عزيز أوعليبوش، رئيس جمعية أغدو للتنمية، قال ل»المساء» إن»الطريق نحو أغدو مجرد مسلك، ورغم إزاحة الثلوج عنها إلا أنه لا يمكن أن تمر منها السيارات، وبالتالي ينتقل السكان مشيا على الأقدام أو باستعمال الدواب». وأضاف عزيز: «دوار أغدو لا يتوفر على أي مركز صحي أو مستوصف، وبالتالي فالسكان يضطرون للانتقال إلى أنفكو حيث يوجد مستوصف صحي ويتم منحهم بعض الأدوية، لكن الانتقال إلى هذه القرية في هذه الظروف المتسمة بالتساقطات الثلجية صعب للغاية». رئيس الجمعية يحمل مسؤولية هذا الوضع إلى وزارة التجهيز والنقل. «مندوبية الصحة تقوم بدورها، والمندوب يؤكد أنه مستعد لإيصال الأدوية لكن الطريق غير معبد، وبالتالي فوزارة التجهيز هي التي تتحمل المسؤولية، لأنه في حال توفر الطريق يمكن إيصال المساعدات إلى السكان، وإذ ذاك يمكن أن نعيب على الجهات التي لا تقوم بدورها في هذا الشأن». واعتبر الفاعل الجمعوي أنه يمكن مثلا التنسيق مع بعض الجمعيات التي تشتغل على أهداف صحية لتنظيم قافلة طبية، لكن لا يوجد طريق يمكن أن يمر منه الأطباء. «أغدو يوجد في ملتقى للأودية، وجميع المواد الغذائية وغيرها تأتي من السوق، وبالتالي نعود للإشكال نفسه المرتبط بالطريق، حيث لا يمكن أن تصل هذه المؤن». عزلة السكان في هذه الظروف يضاف إليها واقع الفقر والبطالة الذي يعانيه المواطنون، خاصة في صفوف الشباب. «ليست هناك أية مشاريع يمكن أن تشغل الشباب، وهو ما يجعلهم يلجؤون إلى طرق أخرى كتهريب الخشب في ظل انعدام آليات قانونية للاشتغال». عزيز نقل صرخة شباب المنطقة الذين ما إن تسألهم عن واقعهم إلا ويردون: «نحن ضائعون وراء هذه الجبال».