في اللحظة التي كانت فيها كمية كبيرة من الحطب مشتعلة بمراكش تحت مقلاة أكبر «أومليط» في إفريقيا، يوجد في المناطق الجبلية بالمغرب العميق أناس وأطفال لا يجدون ما يدفئون به أجسادهم المرتعشة من شدة البرد وقساوة الثلوج، حيث تختفي العديد من القرى والمداشر بالأطلس المتوسط، إقليم ميدلت تحديدا، خلف حياة العزلة، وتحولت إلى «جزر برية» من الصعب الوصول إليها بسهولة، وغالبية سكانها من دون مؤونة ولا ما يكفي من الأغطية واللباس والدقيق والأدوية، علما بأن حالة المقاومة الصعبة التي يواجهها هؤلاء السكان حيال انخفاض درجة الحرارة قد يصعب وصفها دون ألم، وكم هي المرارة قاسية أمام افتقار هؤلاء أو أولئك لحطب التدفئة الذي تنضاف مشكلته إلى باقي المشاكل الأخرى من قبيل العزلة عن العالم الخارجي وانعدام البنى التحتية والمرافق اللازمة، وتلف المراعي والمزروعات وارتفاع أسعار المواد الأساسية. والمؤكد أن اللون الأبيض ليس رمزا للحياة في كل مرة، فكما هو لون لباس العروس، فإنه أيضا لون الكفن، ثم إذا كانت بشرية العالم قد احتفلت قبل أيام قليلة بتساقط الثلوج لغاية استكمال شروط الاحتفال برأس السنة الميلادية في جو راقص وسط شجيرات الصنوبر وهدايا «بابا نويل» وبطائق»العربات المجرورة بالغزلان فوق الجليد»، لا شك أن أطفالا في»المغرب العميق» يرتعشون الآن تحت بيوتهم الطينية من شدة برودة هذه الثلوج، ولا يطلبون أكثر من خبز للأكل وحطب للتدفئة. ويشار إلى أن منطقة تونفيت لاتزال تغلي غضبا ما بعد المسيرة الغاضبة التي نظمتها عشرات الأسر مشيا على الأقدام من تونفيت إلى عمالة ميدلت، احتجاجا على إقصائها من مساعدات غذائية وأغطية وزعتها مؤسسة محمد الخامس للتضامن على آلاف الأسر بالجماعات الأربع لتونفيت، هذه المؤسسة التي سبق لها أن عممت بلاغا أكدت خلاله أن جميع الأسر ستستفيد من المساعدات الموزعة، غير أن ذلك لم يجد ظله على أرض الواقع بفعل تلاعبات خارجة عن إرادة المؤسسة، سيما أن هذه المساعدات لم تقتصر على المحتاجين والمعوزين، بل شملت جميع الشرائح بسبب الظروف الاستثنائية المتمثلة في موجة البرد القارس التي تعرفها المنطقة. جغرافيات بلا خرائط بتونفيت وضواحيها، سجلت تساقطات ثلجية كثيفة على المناطق التي تعرف عزلة تامة عن العالم الخارجي، حيث لم يفت أحد الجمعويين من المنطقة ( سعيد) التصريح لجريدتنا بقوله: «إذا كان جميع الفلاحين والمزارعين قد استبشروا خيرا بالتساقطات المطرية التي انتشلت الموسم الفلاحي الحالي من لعنة الجفاف، فالمؤكد أن الأمر يختلف كليا بالنسبة للقابعين تحت سقوف المداشر المتاخمة لجبال الأطلس المتوسط، والتابعة لضواحي تونفيت مثل «أيت مرزوك « و»ترغيست « وغيرها من المداشر المعزولة»، حيث لا حديث للساكنة هنا سوى عن البرد القارس والثلوج وحطب التدفئة ومظاهر العزلة والتهميش والفقر المدقع، وفي غياب أية مقاربة تنموية تساعد على فك العزلة عن هذه المناطق الهشة، وفي ظل استمرار التدمير الغابوي والاستنزاف المستمر للثروات الغابوية من جهة ثانية، ستبقى ساكنة المنطقة تتخبط في أوضاعها المزرية إلى أجل غامض، ما يستوجب تحيين السؤال القائم حول مستقبل التنمية بالمنطقة. وبإيتزر التي تعد من «بنات الأسكيمو»، بحسب أحد المعلقين الظرفاء، فمعاناة ساكنتها كبيرة بسبب عامل البرودة وسوء أحوال الطقس، حيث تنخفض الحرارة أدنى الدرجات في هذا الفصل، وبقدر ما يزداد «الانخفاض» تدنيا يعرف ثمن حطب التدفئة المزيد من «الارتفاع»، إذا لم يكن نادرا في أحيان كثيرة رغم اعتباره في هذه الأثناء مادة أساسية، وربما في مستوى الخبز، يقول العديد من السكان. ولا غرابة في أن يجد أهالي إيتزر أنفسهم مجبرين على انتقاد حراس المياه والغابات من الذين يعمدون في رأيهم إلى استغلال وضعية حمالي حطب التدفئة من خلال إخضاعهم للمعاقبة، ما يرفع من سقف أسعار حطب التدفئة إلى أرقام قياسية، مقارنة مع السنوات الماضية، حيث شدد عدد من المهتمين بالشأن المحلي على ضرورة تدخل المسؤولين للبحث عن حلول ناجعة، مثل توفير الحطب الإقتصادي، والتفكير في أفرنة اقتصادية تدفئ المنازل بكمية قليلة من الحطب لتفادي الطريقة التقليدية أولا، ومن ذلك إلى التخفيف من الضغط السائد على الغابة. وكان رضيعا بإيتزر قد فارق الحياة و»أشعل» موجة من الاحتجاجات، عندما تقدمت والدته، خلال الأيام الأخيرة، لقسم الولادة بالمستوصف القروي لإيتزر، وتمت عملية الولادة من طرف المولدة قبل أن يتبين أن حالة المولود تستدعي بعض الإنعاش بسبب عسر خانق في التنفس، ما استدعى إشعار الطبيب الذي انتقل إلى المركز الصحي، وأمام انقطاع الطريق المؤدية إلى مكناس بالثلوج، لم يجد الطبيب من خيار غير إحالة المولود فجرا على مستشفى الرشيدية غير أن الموت كانت الأسرع ، حيث لفظ الرضيع أنفاسه الأولى! ومن خلال هذه المأساة عادت ذاكرة الكثيرين بالمنطقة إلى ما حدث بآيت حنيني لحظة محاولة إنقاذ حياة امرأة حامل في دقائقها الأخيرة، حيث جاءها مخاض عسير استدعى القيام بما يلزم من السرعة، ولم يتم شق الثلوج بسهولة ليفضل الجميع نقل المرأة الحامل على متن جرار فلاحي نحو الطريق الرئيسية ومنه إلى قسم التوليد بالمستشفى الإقليميبخنيفرة، حيث تم إخضاعها لعملية قيصرية، وبآيت حنيني حاليا لاتزال الثلوج تنسج طوقا مشددا بعلو 50 سنتيمترا حول العديد من الدواوير، ورغم استغاثة السكان بالمسؤولين على الصعيدين الإقليمي والوطني، لايزال السكان في انتظار أي مسؤول يمكنه الوقوف عن كثب على حياة منطقة تئن تحت وطأة انعدام شروط الحياة، وغياب ابسط ضروريات العيش، وفي ذات السياق، عرفت منطقة گرامة تساقطات ثلجية فجائية، لم تشهدها المنطقة من قبل بفعل مناخها الصحراوي المعروف. حطب الحرب الباردة وبكروشن، إقليمخنيفرة، عرفت المنطقة بدورها موجة برد قارس على خلفية انتمائها لسلسلة جبال الأطلس المتوسط، حيث تنخفض درجات الحرارة إلى مستويات متدنية تصل أحيانا إلى 10 درجات تحت الصفر، ما يؤثر سلبا على صحة ساكنة المنطقة، سيما لدى الأطفال، حيث تنتشر الأمراض الصدرية واللوزتين والحمى مثلا، بينما تساهم موجات الصقيع في شل الحركة الاجتماعية والاقتصادية والطرقية، كما في إلحاق عدة أضرار بالغطاء النباتي والمزروعات والمواشي، حسب أحد الجمعويين من المنطقة. وأثناء كل تساقطات ثلجية، تعاني جماعة كروشن والجماعة المجاورة لها تيزي نغشو من انقطاع على مستوى الطريق التي تربطهما بمركز بومية نتيجة الثلوج والصقيع، ما يجعل ساكنة الجماعتين تتزاحم على باب مستوصف كروشن الذي يعاني أصلا من خصاص مهول في الأطر والأدوية والتجهيزات الضرورية، علما بأن جماعة كروشن تابعة لعمالة خنيفرة في حين جماعة تيزي نغشو تابعة لعمالة ميدلت، ومن هنا لم يفت مصدرنا الجمعوي إعلاء نداء السكان المطالبين بإحداث أو تفعيل دور اللجنة الداعية لزيارات ميدانية مسؤولة لهذه المناطق قصد الوقوف على حجم الأضرار التي يخلفها انخفاض درجات الحرارة، وتوفير الأغطية والملابس الكافية لمقاومة قساوة البرد وتحفيز أطفالهم على الالتحاق بمدارسهم رغم وضعية الحجرات الدراسية التي تنعدم فيها أحيانا الشروط المناسبة للدراسة، مع توفير العلف للماشية نتيجة تضرر الغطاء النباتي بفعل الأجواء الثلجية، ثم حطب التدفئة للمحتاجين وللمدارس. أما ببومية فالبلدة تعيش الآن وسط موجة من البرد القارس التي لم تعرفها منذ سنة 1994، ومن الأعراف والتقاليد هنا أن الأهالي يستعدون لاستقبال فصل البرد بتوفير ميزانية مهمة لاقتناء حطب التدفئة في ما يشبه «استعدادات عسكرية لحرب محتملة»، ولم يعد غريبا أن يلجأ العديد من المواطنين للاشتغال مثلا في ضيعات التفاح لتوفير بعض المال من أجل اقتناء حطب التدفئة، إلا أن ما حدث هذه السنة هو أن منتوج التفاح قل بسبب عاصفة البَرد (التبروري) التي ضربت بومية خلال رمضان الماضي، ما انعكس سلبا على جيوب الأيدي العاملة، وقد أكد أحد المتتبعين لجريدتنا مصادفته لمواطنين يشترون كيلوغرامات من الحطب يوميا على خلفية عدم قدرتهم على شراء الكثير منه بسبب غلاء هذه المادة التي ارتفع ثمنها إلى ما بين 100 و120 درهما للقنطار، في حين لا يتجاوز هذا الثمن حوالي 80 درهما للقنطار في الأوقات العادية. وصلة بالموضوع، يروج حاليا أن الدولة خصصت مساعدات من حطب التدفئة للمنطقة، إلا أن الكثيرين تحدثوا عن توجيه حصة هذه المنطقة إلى سكان جماعة سيدي يحيى يوسف التي تعد من المصادر الأساسية للحطب. فقراء وسط الثروة ما يجمع عليه المتتبعون هو التساؤل حول معنى وجود مواطنين فقراء لا يستفيدون من مناطقهم الثرية بمساحاتها وثرواتها الغابوية المدرة على الدولة والسلطات والجماعات ولوبيات «أعالي البر» مداخيل بالملايير، وما يؤكد ذلك هو أن غالبية الأسر لا تستطيع توفير حتى حطب التدفئة أو حتى الإمكانيات لشرائه، وكثيرا ما يتم توقيف كل من يتم العثور بحوزته على قطع من الحطب اليابس، ويتم تخييره ما بين أداء الغرامة أو الحبس بدعوى محاربة المخالفات الغابوية، في حين لا يخفى على أي مراقب ما تقوم به المافيات التي تدفع الطبيعة إلى القبول بالفراغ بلا حسيب ولا رقيب، وكذا المضاربين والسماسرة المتاجرين الذين يعيثون في أشجار وأرز الغابة فسادا ويستغلون حاجة البؤساء إلى الحطب فيعمدون إلى رفع سعره بشكل لا يستطيع أحد إليه سبيلا، ولعل «شعارات» مصالح المياه والغابات نفسها لم تكن غير خطابات للواجهة، سيما منها ما سمي ب «مشروع التنمية القروية التشاركي للأطلس المتوسط الأوسط» الذي يهدف في توجهاته إلى تقليص الفوارق الجهوية وتحسين دخل الساكنة القروية المحيطة بالغابات، والأوضاع الاقتصادية للمرأة القروية، والبنيات التحتية والسوسيو اقتصادية، وربما «كارثة أنفگو وأخواتها» فضحت زيف هذه الخطابات، وبالتالي إذا كانت بعض الجهات تتحدث عما يسمى ب «الحطب الاقتصادي»، فإن هذا الأمر قد عاد بلا معنى، وربما تأكد توقف التعامل به بدعوى عدم قانونيته. إلى ذلك تشكو الأسرة التعليمية العاملة بالمناطق الباردة من مشكل انعدام حطب التدفئة، وتطالب على الدوام بالمزيد من الاهتمام بمناطقهم وتلامذتهم الصغار الذين تتجمد أبدانهم الصغيرة داخل حجرات تشبه الثلاجات، ويعجزون عن الدراسة تحت البرد والصقيع، ورغم أن الدولة أعلنت عن وضعها لهذا الأمر بعين الاعتبار فإن العديد من الملاحظين سجلوا بامتعاض كبير قيام الجهات المسؤولة عن الشأن التعليمي بتخفيض الاعتمادات المرصودة لتدفئة المؤسسات التعليمية، وبالتالي وقفوا على وجود تلاعبات الممونين أو تماطلهم في تزويد هذه المؤسسات بالمادة المذكورة، بل إن العديد من الفرعيات النائية لم تنل حقها من المادة، علما بأن جل مناطق إقليم ميدلت وخنيفرة باردة جدا سواء الواقعة ضواحي تونفيت وميدلت وأنفگو أو بومية وأغبالو وآيت حنيني وإيتزر والقباب وأجدير وتيزي نغشو وأسول وغيرها، بالأحرى إذا ما تم الحديث عن الحجرات الدراسية المشيدة بالبناء المفكك في وجود أصحاب القرار التعليمي تحت سقوف بيوتهم الدافئة. عراة في العراء الثلوج والأجواء الباردة تسببت في عزل آلاف السكان خلف المسالك الوعرة ضمن رقع متناثرة على «عالم بلا خرائط»، وقبل أيام قليلة تناقل السكان من هنا وهناك أخبار العزلة التي عاشها السكان بمناطق ميدلت وأغبالو وبومية وتقاجوين وإيتزر وتونفيت وأنمزي والقباب وأنفگو وسيدي يحيى أوسعد وسيدي يحيى أويوسف وآيت سعدلي وأجدير وغيرها من المداشر التي لم يعد ممكنا الوصول إليها أو حال الحصار الثلجي دون «رحلة الشتاء» التي يقوم بها السكان للتبضع والتزود بحاجياتهم المعيشية والغذائية الضرورية والفحم وحطب التدفئة، كما أرغمت التساقطات الثلجية التلاميذ والأساتذة على «استعمالات زمنية» من نوع استثنائي و»عطل» غير مبرمجة في أجندة مصالح التعليم جراء «قرار» أحوال الطقس السيئة التي إذا لم تتسبب في موت الأطفال تسببت في ارتعاشهم كلما تجمدت أطرافهم من شدة البرد وهم شبه عراة يسعلون ويعانون الزكام ويعيشون على «الخبز والأتاي» ببيوتهم الطينية. ولا أحد في المغرب وغير المغرب ينسى «فاجعة أنفگو»، ورغم المساعدات والتغذية والأغطية والحليب والدمى التي تم نقلها إلى المنطقة المنكوبة لم يصدر أي بلاغ ينفض الضبابية عن الحقيقة المغيبة في شأن «لون الموت» الذي حصد الأطفال بهذه المنطقة وأخواتها، تونفيت وأنمزي وترجيس وتغدوين وأغدو وماسو وآيت بوعربي وإمتشيمن وماجاورها، وكل الحصيلة الرسمية بخصوص الكارثة مازالت حبيسة الآراء والأرقام المتضاربة، حتى ما بعد تجاوز عدد الضحايا ال 35 طفلا ورضيعا، كما أن السلطات المسؤولة، بما فيها وزارة الصحة، لم تتخلص من منطق التعتيم في احتفاظها بتصريحاتها، وكان بديهيا أن تعلق ذات المصالح تقصيرها في الإنقاذ على مشجب انعدام وسائل الاتصال ووعورة التضاريس وتساقطات الثلوج. ثلاجات بنوافذ خشبية من مذكرات أحد المدرسين ( م.م.أولاد الشريف) يحكي فيها ما تعرفه منطقة جماعة أنمزي، التي تغطي دواوير آيت مرزوك، أنمزي، تمالوت، أغدو، أنفكو، تيرغيست وتغدوين، من امتداد في عمر الثلوج لأكثر من خمسة أشهر، يعاني فيها ساكنوها وضيوفها قساوة لا تطاق، وكتب يقول: «عملت مديرا للمجموعة المدرسية الوحيدة بهذه المنطقة المترامية حيث ينتابني ليس الخوف فقط عند تساقط الثلوج وإنما هول وهلع من أن أفقد احد الزملاء، فأستعرض أمامي أسماء الأساتذة: ذاك أتمنى أن لا يكون مرض اللوزتين الذي اعتاده قد تذكره خلال هذه الفترة، وذاك أتمنى أن يجد منفذا عبر جبل فزاز ليفر بزوجته من برودة المنطقة، وذاك أعرف أنه لا محالة سيحاول التسلل ولو كلفه ذاك حياته ليخرج من الحصار الذي قد يدوم أكثر من شهرين( خصوصا في محورأنفكو /تغدوين)، وإذا تمكنت من شراء دجاجة أو أحضرت لحما معك فوزارة التربية الوطنية قد هيأت لك وسيلة الحفظ: الحجرات والمساكن المثلجة، فأينما وضعت دجاجتك لن تفسد ولو بقيت رفقتك الأسابيع عوض الأيام»، يضيف صاحب المذكرات الطويلة.