مولاي اسماعيل العلوي، رجل اجتمعت فيه كل الهويات والتقت عنده كل التوجهات المتناقضة، بانسجام.. فهو الشريف العلوي، والمناضل الشيوعي، وحفيد الإسلامي (عبد الكريم الخطيب)، وابن الباشا، أمه حفيدة الكباص، وزير الحرب والصدر الأعظم، وخاله (عبد الرحمان الخطيب) وزير الداخلية، وابن خالته (حسني بنسليمان) أقوى جنرالات المملكة... على «كرسي الاعتراف»، يُقر مولاي اسماعيل بأن شخصيته تأثرت بثلاث شخصيات: «أبي الذي ألهمني الجدية والاستقامة؛ وجدتي لأمي، للا مريم الكباص، التي كانت شخصية قوية، وكانت تحارب الخرافات إلى درجة أنها كانت تنكر وجود الجن؛ وخالي عبد الرحمن الخطيب (وزير الداخلية الأسبق) الذي ألهمني فكر الحداثة والعقلانية». على «كرسي الاعتراف»، يحكي مولاي اسماعيل عن الوعي الوطني الذي «داهمه» وهو لم يتجاوز الرابعة من عمره، عندما احتل العساكر الفرنسيون بيتهم في سلا، عقب انتفاضة يناير 1944، وكيف كانت الأميرات، كريمات محمد الخامس، يسألنه وهو طفل، عند زيارتهن لبيت جدته في الجديدة، عن انتمائه الحزبي فيجيب: «أنا حزبي مخزز» (يعني استقلالي حتى النخاع). ثم يتوقف مولاي اسماعيل طويلا عند استقطابه من طرف السينمائي حميد بناني إلى الحزب الشيوعي، وكيف أن والده، الرجل الصارم، لم يفاتحه في الموضوع، ولكنه بكى -في غيابه- بحرقة على تحول ابنه إلى الشيوعية. في «كرسي الاعتراف»، نتطرق مع مولاي اسماعيل العلوي إلى تجربته السياسية والإنسانية الغنية بالأحداث والأفكار. - في سنة 1969، عادت الدولة إلى منع حزب التحرر والاشتراكية (الشيوعي)، بعد مشاركة ثلاثة من أعضائه في مؤتمر الأحزاب الشيوعية والعمالية بموسكو. وقد اعتبرتم حينها أن هذا المنع كان بإيعاز من السعودية وأمريكا؛ كيف ذلك؟ حسب ما قيل آنذاك، وحسب ما سمعته داخل الحزب... - ممن؟ السي علي يعتة ومن كانوا على علم بتفاصيل الأمور هم من أخبروني بأن السعودية وأمريكا هما اللتان أوعزتا إلى النظام المغربي بمنعنا. وبطبيعة الحال، فالسعودية وأمريكا وجدتا في المغرب آذانا صاغية لفعل ذلك. - من أعطى أمر حظركم هو الحسن الثاني؟ طبعا، الملك هم من يقرر أمرا كهذا. - إثر تلك المشاركة في مؤتمر موسكو، اعتقلت أنت لمدة 15 يوما على ذمة التحقيق؛ اِحك لنا عن هذا الاعتقال... اعتقلت من بيتنا العائلي في بطانة بسلا. قبلها بأيام، كنت قد أُخبِرت من طرف الرفاق بأني مبحوث عني، فقصدت بيت خالي الدكتور عبد الكريم الخطيب. ويبدو أن الأيام التي قضيتها في بيته أثارت غضب الحسن الثاني الذي فهم منها أن الدكتور الخطيب يعتبر نفسه فوق القانون باحتضانه قريبا له مطلوبا اعتقالُه. - هل قال الحسن الثاني ذلك لخالك الدكتور الخطيب؟ لست أدري ما إن كان قاله له مباشرة أم بوساطة، المهم أنه أبلغه بذلك. - ألم يخبرك الخطيب بتفاصيل ذلك؟ لم يسبق للدكتور الخطيب أن أثار معي هذا الأمر. - أثناء «اختفائك» في بيته، هل كان الخطيب، وهو الوجه البارز في جيش التحرير وأحد مؤسسي الحركة الشعبية، ثم الحركة الشعبية الدستورية، وصاحب نزوعات إسلامية، يناقش معك انتماءك السياسي والمأزق الذي كنت فيه؟ أبدا، أبدا، لم يكن هناك أي نقاش. - ألم يسبق له أن ناقشك في اختياراتك الفكرية والتنظيمية؟ هو كان يعرف اختياراتي السياسية، وكان أحيانا يتحدث عنها باستهزاء، على سبيل «البسط». - سق لي حكاية عن ذلك... قبل أن ألتحق بالحزب الشيوعي، حوالي سنة 1958 أو سنة 1959، زار بيتنا في القنيطرة الطيب السحباني، الذي كان قياديا في الحزب الحر الدستوري الجديد بتونس (سفير سابق لتونس بالرباط)، ولا أذكر ما إن كان حينها سفيرا في المغرب أم زاره كوزير. المهم أنه جاء إلى بيتنا بعد أن ألقى محاضرة في قاعة البلدية بالقنيطرة، وكان خالي سيدي عبد الكريم (الخطيب) حاضرا فقدمني إليه كثائر، فأجبته أنا قائلا: يمكن أن أكون ثوريا، لكنني لست ثائرا، وكان عمري حينها حوالي 18 سنة. - الخطيب كان يغمز بذلك إلى ميولاتك الماركسية؟ أنا لم أكن أخفي أفكاري داخل العائلة خلال أي نقاش، وكان الجميع يعرف أن لي ميولات إلى أقصى اليسار آنذاك. أما الدكتور الخطيب فكان يعتبر انتمائي إلى الحزب الشيوعي خطأ، وليس اختيارا واعيا. - هل كان يقول لك ذلك؟ نعم كان يقول لي «انت غير كتركع» (بتعجيم الكاف).. - بقي يعتبر أنك «كتركع» حتى بعدما أصبحت قياديا وأمينا عاما لحزب التقدم والاشتراكية؟ طبعا، طبعا. لقد كان له دائما موقف من حزبنا، ومن اختيارنا الماركسي بالأساس؛ لكنه، في نفس الوقت، وهذا أمر يجب أن أقوله في حق الدكتور الخطيب، كان الوحيد داخل عائلتنا الذي زارني في السجن خلال ال15 يوما التي أمضيتها رهن الاعتقال، وجلب لي معه علبة من «Les marrons glacés»، الحلوى التي كنت ولا أزال أحبها. - أين كنت معتقلا؟ في سجن لعلو بالرباط؛ ولم أكن أعرف أحوال باقي المعتقلين، السياسيين وغير السياسيين، لأنني كنت رهن الاعتقال الاحتياطي من أجل التحقيق، لكن الزنزانة التي حشرت فيها لم يكن بها أي سرير، وكان فراشي عبارة عن كيس «خنشة» محشو ب»الكبال» بعد نفضه من الذرّة. وهذا لم يكن يضيرني لأنني كنت أفترض أن كل السجناء كانوا يعيشون نفس الظروف، كما أن الأكل كان أكثر من سيئ، لكن ما كان مزعجا أكثر هو أن كيس «الكبال» كان يعج بالبق الذي كان يبيت يدب في جسدي، طيلة الليل؛ وفي الصباح كان يتم إخراجي إلى الساحة بعد استفادة باقي السجناء من حصة الخروج. - ما هي التهمة التي وجهها إليك قاضي التحقيق؟ لم يوجه إلي أية تهمة... ظل يسألني عن مشاركتي في المؤتمر، فكنت أجيبه بأنني ذهبت بالفعل إلى موسكو لكنني لم أشارك في المؤتمر، وحدث أنني قلت إن موسكو مدينة جميلة، فسألني القاضي: لماذا تقول عن موسكو إنها مدينة جميلة؟ ربما أنه كان ينتظر مني أن أقول إنها جهنم (يضحك). - من آزرك من المحامين أثناء محاكمتك؟ خالي عبد الرحمان الخطيب (وزير الداخلية، ووزير الشبيبة والرياضة الأسبق) الذي كان قد غادر الحكومة واستأنف عمله كمحام. أما الرفيقان الآخران اللذان بقيا في السجن (علي يعتة وشعيب الريفي) فقد نصّبا محاميين للدفاع عنهما، كما تطوع لاحقا لمؤازرتهما محامون آخرون مثل عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة ومحمد الفاروقي وآخرين من محامي الأحزاب الوطنية. أما أنا، فبعد 15 يوما من التحقيق معي، قرر قاضي التحقيق عدم متابعتي.