من المعروف أن استغلال الحس الوطني في الأنظمة السياسية السلطوية من أنجع الوسائل التي تسمح للحاكم بأن يجدد مشروعيته، وأن يحدد مضمون «الإجماع الداخلي»، الذي يسمح له بإقصاء كل من يدافع عن رأي مخالف في أهم القضايا السياسية. لكن، بالرغم من الاستغلال السياسي لمفهوم الوطن، يظل، في نفس الوقت، فكرة نبيلة سمحت للشعوب بأن تدافع عن هويتها وكرامتها في لحظات حاسمة من تاريخها. بعبارة أخرى، الفكرة الوطنية تتميز بالازدواجية، حيث يمكن أن توظف لأغراض استبدادية ومن أجل الهيمنة على الشعوب الأخرى، كما يمكن أن تعبر عن طموحات تحررية إذا كان الوطن بالفعل الفضاء المنفتح، الذي يسمح للديمقراطية بأن تتطور، وللشعوب بأن تدافع عن مصالحها. ونسمع اليوم الحاكم والعديد من السياسيين والمثقفين يتكلمون في موضوع الوطن وكأنه مقدس وغير قابل للتغيير لأنه، حسب هذا التصور، يمثل بداية التاريخ وحتى نهايته. ولنذكر هنا أن فكرة «الوطن» حديثة العهد، حيث تطورت بأوربا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وتسببت في اندلاع العديد من الحروب على أرض القارة «العجوز»، بلغت ذروتها في الحرب العالمية الأولى سنة 1914، ثم الثانية سنة 1939. والمفارقة هي أن مفهوم الوطن تم تصديره أيام الاستعمار في أمريكا الجنوبية أو آسيا وإفريقيا والعالم العربي، حيث ظهرت حركات وطنية تقاوم المستعمر بلغته وبأفكاره، وتطالب بحقها في تأسيس دولة وطنية معترف بها في المنظمات الدولية التي خلقتها الدول الغربية لنفسها من أجل إضفاء الشرعية على قرارات تحدد مسار شعوب العالم. وبطبيعة الحال، كان للعديد من الشعوب في زمن ما قبل الاستعمار قاموسا ومفاهيم تشير إلى شكل وتنظيم الجماعات السياسية وطريقة تدبير شؤونها، لكن الدلالات التي كانت تشير إليها هذه التمثلات قد تختلف تماما عن مفهوم «الدولة الوطن». وفي كتابه «الجماعات المتخيلة: تأملات في أصل القومية وانتشارها»، يبين الأنثروبولوجي بندكت أندرسن أن تطور الأفكار القومية مرتبط بظهور الجرائد، التي خلقت فضاء وزمنا مشتركين كرسا في الأذهان الشعور بالانتماء إلى مجموعة واحدة تتميز عن المجموعات الأخرى. والدراسات الأكاديمية من هذا النوع مفيدة، لأنها تذكرنا أن الوطن ليس بمقدس كما يدعي البعض، وإنما هو فكرة ظهرت في ظروف تاريخية معينة يمكن تجاوزها في أشكال ومشاريع سياسية جديدة. وهذا الإبداع السياسي ليس بمستحيل، لأن فكرة الوطن ما هي إلا شكل من أشكال تنظيم المجتمعات البشرية، ويمكن الاستلهام بتاريخ الحضارة الإسلامية التي أنتجت نماذج عديدة من التعايش السليم بين الشعوب أيام الخلافة العباسية أو العثمانية، أو حكم الأندلس. وإذا أردنا للمغرب إقلاعا اقتصاديا أو حلا لنزاع الصحراء، يجب على الدولة المغربية والجزائرية والبوليساريو أن تتجاوز الإطار الوطني الضيق الذي يقصي الآخر عوض أن يحدد مشروعا مشتركا يتجاوز الوطن في تصور أشمل وطموح يتوجه للمستقبل، ويدمج شعوب المنطقة في تجربة سياسية جديدة.