رى معركة أنوال المجيدة، ومن باب الوقوف عند مفاخر أنجاد هذا الوطن وأمجاده التليدة، تأتي هذه المساهمة لتسلط الأضواء على واحد من ألمع رموز هذا التاريخ الوضّاء، وهو محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي قاد ثورة وطنية فريدة من داخل قلعة الريف، قلعة الجهاد العتيدة. هذا المقال لن يتطرق لملابسات وحيثيات المعارك العسكرية للحرب الريفية بقدر ما ينصرف همّه أساسا إلى التعريف ببعض معالم الطفرة الثورية المرهفة في فكر عبد الكريم الخطابي ووعيه السياسي، الوعي الذي ظل بمثابة الخيط الناظم والشعاع الدائم الذي تخلل كل أطوار و فصول الثورة المغربية على قوى الإستعمار والإمبريالية. إنّ فكر ابن عبد الكريم ينتمي، سياسيا، إلى الخط الفكري العام لحركة التحررالمغربية التي أمست تشكل في بداية القرن العشرين، النقيض الرئيس للسيطرة الإستعمارية على المجتمع المغربي وكل أقطار وأمم شمال إفريقيا بصفة عامة. وإذا كان الصراع الوطني هو القوة المحركة لتاريخ البلدان المستعمرة، فإن الخلفية أو المرجعية الفكرية لتجربة عبد الكريم التحررية لم تكن لتحدد إلا داخل هذا المضمار، أي في إطار الكفاح من أجل قضية الأرض والإنسان بغية فك أغلال الإستعمار والطغيان وحل مسألة الإستقلال وبالتالي حسم السيادة الوطنية. من هنا كانت الأسس الفكرية لحركة الريف الثورية تتجلى عموما في قضية "التحرر"باعتبارها أمّ القضايا التي إستأثر بها وعيه وإنشغل بها فكره السياسي و هو في أتون الصراع من أجل تحرير الذات المغربية التي ما انفكت تئنّ تحت وطأة الإنحطاط المطبق في تلك اللحظة التاريخية.. وبحكم تعدد وتمرحل لحظات الصراع الوطني سوف تتحدد هذه القضية المركزية (أي قضية التحرر) على أكثر من جبهة: أولا- المعركة الفكرية، أو معركة النضّال من أجل التأسيس الإختيارات تحديثية وذلك بهدف تحرير الوعي الإجتماعي من أغلال وترسبات أيديولوجية قائمة على موروث ثقافي تقليداني. ثانيا- التعبئة من أجل القضاء على الإستعمار، وبالتالي التحرر السياسي من قيود التبعية. ثالثا- الإسهام في بناء وطنية مغربية بمواصفات حديثة ومتقدمة. هذه الهواجس الثورية، إذن، أمست هي الخيوط الناظمة لحركة التحررالوطني المغربية التي سجّل المغاربة من خلالها إنتصارات باهرة و بطولات رائدة. وبعيدا عن الرواية الكولونيالية المغرضة التي لا تقدّم مولاي موحند إلا في صورة"حيوان عسكري" وفقط ، فإنّ ذاكرة الشعب المغربي تحتفظ بصور راقية حول هذه الشخصية الوطنية باعتبارها مدرسة سياسية تتلمذ في رحابها عموم الشعوب والأمم التواقة إلى الإنعتاق من إسار الإستعمار وربقة الإمبريالية. وللتاريخ ، لا بد أن نسجل لهذه الشخصية دورها في تخصيب العمل الوطني وإسهامها الأصيل في بلورة جملة من الأفكار السياسية التي لم يخف على أحد أهميتها في تحديث الفكر المغربي وتقعيد الأصول النظرية للوطنية المغربية الناشئة. وذلك من خلال استنبات مفاهيم حديثة وتوطين مبادئ وقيم إنسانية تؤسس، بشكل راق، لأعمدة الحداثة المجتمعية إبان الفترة المعاصرة . ولا شك أنّ أركان العقيدة السياسية لإبن عبد الكريم تجلت أولا وأخيرا في الحرية باعتبارها أمّ المبادئ ومركز ثقل الأعمدة التي يقوم عليها البنيان الفكري والفلسفة السياسية لمدرسة ابن عبد الكريم، مدرسة الحرية فالحرية ثم الحرية.. ورغم أن الثقافة السياسية بالمغرب أنذاك أمست مشحونة بحمولة فقهية مكثفة نظرا للمكانة الإجتماعية والدينية التي كانت تحتلها طبقة الفقهاء في المجتمع، باعتبارها "النخبة المثقفة " لتلك الفترة، ورغم ما استتبعه ذلك من تأمين شروط هيمنة الفكر السلفي بمختلف أشكاله في أوساط الإنتلجنسيا التقليدية، فإن إبن عبد الكريم، بحكم تكوينه الحديث، حاول أن يتجاوز جدليا جملة من الأدبيات القائمة في بنية الموروث السياسي الإسلامي التقليدي، إسهاما منه في خلخة الرّكود الثقافي وتثويرالنظام الفكري القائم الذي ظل سائدا عبر ردح غير يسير من الزمن في الساحة المغربية . هكذا قام ب"ثورة ثقافية" عمل من خلالها على استئصال ما هو سلبي وتطويرما هو إيجابي في أفق إعادة إنتاج أفكار حديثة متحررة، كشرط أوّلي ولازم تقتضيه الثورة الوطنية على القوى الإستعمارية الغاشمة. ولا بأس أن نعطي بعض الأمثلة على ذلك من أجل الكشف للقارئ عن بعض الخيارات الحداثية التي ما فتئت ترتسم في أفق التجربة السياسية لإبن عبد الكريم، والتي أطرت الأسس الفكرية للثورة الريفية بصفة عامة. يتعلق المفهوم الأول بمفهوم "الرّياسة" أو السلطة السياسية ، والمثال الثاني يخصّ مسألة التعامل مع الخارج أو علاقة "الأنا المغربي" ب"الآخر الغربي"، بينما يهمّ المثال الثالث مقولة "الجهاد". وبصدد المثال الأول، فإنه رغم كون الأفكار التي خيمت على فضاء الفكر السياسي المغربي على الأقل منذ القرن التاسع عشرإلى حدود بدايات القرن العشرين، ترى أن النظام السياسي يجب أن يعود إلى نموذج الخلافة القائم على آلية البيعة، و ذلك إنسجاما مع طبيعة المقاربة الفقهية السائدة و المتجذرة في الوعي السياسي لدى المغاربة في تلك الفترة، فإن محمد بن عبد الكريم الخطابي يرى العكس تماما، ذلك أن مثال الحكم عنده لا يكمن في استعادة تجارب ومؤسسات أصبحت في ذمة التاريخ، بقدر ما كان همه ينزع نحو بناء وطن حديث، والوطن بالنسبة إليه هو مفهوم عقلاني متجه نحو المستقبل لا إلى الماضي على حد تعبير الباحث جرمان عياش. فهو، بذلك، كان حريصا على إستلهام أدبيات الحداثة السياسية، بما تعنيه من إنتقال من المشروعية التقليدية إلى المشروعية العصرية للسلطة المرتبطة بآيات العقد الإجتماعي وآليات الديموقراطية. وبالمناسبة، عندما همّت الدول الإسلامية بعقد مؤتمر إسلامي بالقاهرة في مارس1926 وجّهت الدّعوة إلى ابن ع الكريم، فأناب عليه مندوبا له، منبها إيّاه ألا يشجع أيّ ترشيح للخلافة، وأن يدافع عن تصور حديث للدولة قائم على سيادة الأمة وانتخاب الحكومة وما إلى ذلك من مواصفات الدولة القومية الحديثة. أما فيما يتعلق بالمثال الثاني الذي يخص التعامل مع الخارج، فإننا نجد أن ما كان متواضعا عليه من قبل المفكرين المغاربة وفقهاء مرحلة ما قبل بروز ابن عبد الكريم إلى الساحة، هو نوع من الخوفوبيا أو الإحتراز المبالغ فيه والخوف غير المبرر إزاء الغرب الأوروبي لدرجة تصل بعض الأحيان إلى الرفض المطلق والإنغلاق المطبق. فبهذا الصدد نجد الناصري، مثلا، في كتابه "الإستقصا" قد عبر في "فتواه عن علاقات المغرب الدولية" أن فقط المخالطة بالأجناس الغربية شر مستطيرا !!وفي نفس الإتجاه يذهب محمد بن عبد الكبيرالكتاني الذي رأى في مجرد الإحتكاك مع الأجنبي الأوروبي خطر محدق يهدد الهوية والقيم المغربية .. هذا دون أن ننسى فتاوى علماء فاس للسلطان المغربي الداعية إلى تحريم التجارة الدولية للمغرب.(...) على النقيض من ذلك، يعلن محمد بن عبد الكريم الخطابي شبه قطيعة إن لم نقل قطيعة تامة مع مثل هذا المنطق المنغلق على نفسه والذي يكاد يرى أن الغرب كافر لا يجب التعامل معه.. هكذا ما فتئ يناشد ويلح على وجوب الإنفتاح على أوروبا من خلال عقد الإتفاقيات التجارية والإستفادة من التقنية الأوروبية المتطورة وكذا العمل على تشجيع الإستثماروإستغلال الموارد المعدنية والثورة المنجمية...بكلمة، كان ضد التقوقع والإنغلاق على مستوى العلاقات الدولية...وطالما كان يردد أنه لا يمكن للبلدان الإسلامية أن تستقل وتتطور دون أن تتحرر من التعصب القومي وأن تحذو حذو البلدان الأوروبية. أما فيما يخص المثال الثالث المتعلق بمقولة "الجهاد"، فإن محمد بن عبد الكريم الخطابي كان قد بحّت عقيرته من كثرة التصريحات التي يؤكد فيها على كون الحرب التي يخوضها هي حرب تحريرية وطنية و ليست حربا مقدسة قائمة على الدين،لأن زمن الحروب الصليبية قد ولى على حد تعبيره غير ما مرّة. وتصوره هذا يشكل، بالطبع، النقيض لما كان سائدا آنذاك لدى نخب الفقه السياسي التي كانت تضاهي تعسفا بين محاربة الإستعمار و الجهاد ضد أهل الشرك و الكفر و أعداء الإسلام. وبهذا الصدد ،لا بأس أن نستحضر ما قاله جاك بيرك :"عبد الكريم لم يكن مرابطا محليا يقود الجهاد ضد الكافر ويعد بالجنة ولكنه كان قائدا سياسيا وطنيا بل وحتى أمميا...وهذا يعني، من بين ما يعنيه، أن الجهاد عنده يعادل المقاومة الوطنية، والمقاومة لا تسأل عن دينها ما دامت تكون ضد الإستعمار كيفما كانت هويته العقدية والدينية. بعد هذه الأمثلة الثلاثة ذات الدلالة، يبقى في وسع القارئ أن يستنتج أن ابن عبد الكريم كان جد متقدما في أفكاره السياسية قياسا لزمنه السياسي، وكان إستيعابه العميق لمتغيرات التاريخ و فهمه الدقيق لمستلزمات العصر الحديث يتجاوز بكثير القصور البنيوي الذي ظل علماء وفقهاء وخطباء تلك المرحلة يرزخون تحت ثقل قيوده، وذلك ببساطة لأنه أبى إلا أن يثوّر الكل الإجتماعي والثقافي تثويرا بنيويا يقف بالمرصاد في وجه لا تاريخية التصورات والأفكار السياسية السائدة يومذاك في الساحة المغربية. بقلم / أحمد المرابطي/