شل إضراب النقل الحركة الاقتصادية بالبلاد، ووضع التشكيلة الحكومية على المحك. وبينما حاولت مكونات الأغلبية التخلص من المسؤولية ورمي جمرة المدونة في حجر عباس الفاسي، نجح حزب الهمة في إظهار نفسه كلاعب أساسي في توقيف الإضراب. وضع إضراب قطاع النقل خلال الأسبوع الماضي، احتجاجا على مدونة السير على الطرقات لوزارة النقل والتجهيز للاستقلالي كريم غلاب، التشكيلة الحكومية على المحك، في ظرفية دقيقة مطبوعة بالاستعداد للاستحقاقات الانتخابية الجماعية ليونيو المقبل، وظهور خلافات بين المكونين الرئيسيين للحكومة، الاتحاد الاشتراكي والاستقلالي، على خلفية توقيت طرح مطلب التعديلات الدستورية. خلافات زادت من حدتها تصريحات حميد شباط، الكاتب العام للاتحاد العام للشغالين بالمغرب، التي اتهم فيها زعيم الاتحاديين المهدي بن بركة بأنه كان قاتلا. ويبدو أن النقابات المهنية، التي هزمت في السابق أمام كريم غلاب، الذي نجح في تجاوز مرحلة مناقشة المشروع أمام مجلس النواب، قد استغلت بشكل جيد هذا التوقيت لتنزل بكل ثقلها في إضراب النقل، الذي استمر تسعة أيام وشل الحركة الاقتصادية في البلاد، فقررت أن تخوض إضرابا طويل النفس انتهى برضوخ الوزير الاستقلالي والحضور أمام كاميرا التلفزيون يوم الجمعة الماضي، إلى جانب رئيس مجلس المستشارين المعطي بنقدور، الذي أعلن عن تأجيل مناقشة مشروع المدونة أمام الغرفة الثانية واستعداد الحكومة لتلقي مقترحات المهنيين حولها، لنزع فتيل التوتر. وقد أظهر ذلك الحدث ضعف حكومة عباس الفاسي ومؤسسة الوزير الأول، الذي كان عليه أن يستبق الحدث ويسارع إلى عقد ندوة صحافية يزف فيها الخبر إلى الرأي العام. ويقول أحد المراقبين إن ما حصل شكل ضربة قوية لعباس الفاسي، زادت من إظهار ضعفه في الحفاظ على تماسك أغلبيته وإبراز قدرة حكومته على المناورة، إذ بدا حزب الاستقلال على الهامش أمام المبادرة التي جاءت من التجمع الوطني للأحرار، في شخص بنقدور. وسرعان ما بدأت مكونات الأغلبية الحكومية تتخلص من المسؤولية وترمي جمرة المدونة في حجر عباس الفاسي، الذي وجد نفسه وحيدا أمام المضربين. وفي الوقت الذي كان الفاسي يترأس لقاء مع أبرز النقابات المهنية الداعية إلى الإضراب، مساء الخميس الماضي قبيل ساعات من تعليق النقابات لإضرابها، نجح حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يتزعمه الوزير المنتدب في الداخلية السابق فؤاد عالي الهمة، في استقطاب اهتمام وسائل الإعلام وكاميرات التلفزيون، وأظهر نفسه كلاعب رئيسي في حلبة الإضراب، وتمكن من تسويق أطروحة السبق إلى إقناع المضربين بالعدول عن الاستمرار في التصعيد، حيث عقد مسؤولو الحزب، وعلى رأسهم أمينه العام محمد الشيخ بيد الله، لقاءات ماراطونية مع بعض النقابات المضربة في كل من الدارالبيضاء والرباط يومي الخميس والجمعة الماضيين، وخرجوا ببلاغ يظهر فيه الحزب وكأنه يتكلم من خارج الأغلبية الحكومية، ويعرض فيه وساطته بين النقابات والحكومة. وقد أثار ذلك الموقف حفيظة حزب عباس الفاسي، الذي بادر إلى توجيه انتقادات عنيفة إلى حزب همة، دون أن يسميه، في افتتاحية يوميته «العلم» يوم الجمعة الماضي، يدين فيها الاستغلال السياسوي للإضراب ولقضية المدونة. الحليف الرئيسي لحزب الاستقلال، سواء داخل الحكومة أو داخل ما يدعى بالكتلة الديمقراطية وفي جميع المحطات السياسية منذ عام 1991، أي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ألقى بثقله في الموضوع، وبدأ يميز نفسه عن التحالف الحكومي بنوع من البراغماتية التي أملتها ظرفية التحضير للانتخابات الجماعية، إذ طبعت تغطياته الإعلامية في جريدته اليومية لهجة المعارضة القديمة، تاركا عباس الفاسي لمواجهة مصيره بشكل منفرد. وعقد المكتب السياسي للحزب اجتماعا يوم الثلاثاء الماضي، أي قبل يومين من انتهاء الإضراب، أعرب فيه عن قلقه مما أسماه «الطريقة التي يتم بها تدبير هذا الملف، بعد عرض مشروع مدونة السير على أنظار مجلس المستشارين»، وكان واضحا من ذلك توجيه اللوم إلى حزب الاستقلال، إذ طالب في بلاغه بمتابعة الحوار «وفق رؤية واضحة، تضع مصالح المواطنين فوق كل الاعتبارات المصلحية الفئوية، وفوق كل استعمال سياسوي بما يضمن تحديث قطاع النقل وحماية أرواح مستعملي الطريق، وبما يضمن مصالح العاملين بالقطاع ويشجع على الاستثمار فيه، وبما يحقق مواجهة ناجعة وصارمة للرشوة على الطريق». وعبر الحزب عن استنكاره «للطريقة المنافية للدستور ولكل الأعراف التي تم التعامل بها مع مشروع قانون معروض على المؤسسة التشريعية»، مطالبا في نفس الوقت “باحترام العمل المؤسسي، وبالحفاظ على مصداقية المؤسسات، وبعدم اعتبار السعي إلى فض النزاعات الاجتماعية سبباً لإفراغ المؤسسات من مضامينها الدستورية”. وأضاف البيان أن الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، من خلال فريقه داخل مجلس النواب ومن موقعه في الأغلبية، ساهم “في العمل على تحسين مشروع مدونة السير، وتمكين بلادنا من تشريع عصري وعادل في هذا المجال، وكنا نأمل أن يستمر تطوير المشروع بمساهمة المهنيين، دون تعليق لعمل المؤسسات، لكن ما جرى يؤكد مرة أخرى صواب ما يدعو إليه الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من ضرورة التعجيل بالإصلاحات السياسية والدستورية، الضرورية لحماية ديمقراطيتنا وتطويرها”. وكشف ذلك البلاغ أن الاتحاد الاشتراكي يريد توريط حليفه داخل الأغلبية الحكومية، حزب الاستقلال، على الرغم من أن فريقه داخل مجلس النواب صادق على مشروع مدونة السير. عدم التنسيق داخل الأغلبية ظهر أيضا في التصريحات المتضاربة لمكوناتها، ففي الوقت الذي أعلن فيه حزب الاستقلال أن المشروع سيتم تطويره بالتعاون مع المهنيين، أعلن حزب الأصالة والمعاصرة أن المشروع قد «أقبر» بشكل نهائي، وأن هناك لجنة مهمتها تلقي مقترحات المهنيين لوضع مدونة جديدة، بينما صرح وزير الاتصال الناطق باسم الحكومة خالد الناصري، في لقاء مع الصحافيين يوم الجمعة الماضي، أن الأمر لا يتعلق بسحب مشروع المدونة وإنما بمجرد تعليق لها، وهو الأمر الذي كشف عن التخبط الحكومي في تدبير الملف بشكل منسجم، مما يعني أن اختبار المدونة لن ينتهي قريبا وسيبقى مفتوحا على شتى الاحتمالات.