كان متوقعا أن تنطلق إسرائيل في مرحلتها الثانية من عدوانها على غزة، بالبدء في العملية البرية التي أطلقتها مساء الخميس الماضي بعد 11 يوما على إطلاق القذيفة الأولى في هذا العدوان. بدأت العملية البرية في غزة بعد أن صادق رئيس أركان الجيش الإسرائيلي «بيني غانتس» على جميع الخطط الخاصة بتنفيذها على حدود القطاع، بغرض زيادة الضغط على حماس، بإضافة التوغلات البرية إلى جانب تكثيف الضربات الجوية، ولاسيما أن هناك قناعات بدأت تزداد في إسرائيل، مفادها أن الوقف الكامل لإطلاق الصواريخ من غزة لن يكون إلا من خلال سيطرة الجيش على كامل القطاع، وأن عملية اجتياح غزة لا تتطلب أكثر من 13 يوما، وليست بحاجة إلى فترة طويلة، إن لم تكن مفاجآت غير سارة من قبل حماس. الكلفة والعائد استدعى الجيش الإسرائيلي نحو 20 ألفا من قوات الاحتياط استعدادا لهذا الهجوم البري على قطاع غزة، الذي اعتبر ملاذا أخيرا، بعد أن درست إسرائيل إيجابياته وسلبياته، ووصلت أخيرا إلى اتخاذ مثل تلك الخطوة التي رافقتها إغارة سلاح الجو على 322 هدفا في أنحاء قطاع غزة، بما فيها 220 منصة مطمورة لإطلاق الصواريخ، و58 موقعا يشتبه في كونها أنفاقا هجومية، و46 موقعا للقيادة والسيطرة، وهذا المعدل من الغارات يشكل ضعفي حجم الضربات الجوية التي شهدتها الحرب السابقة نهاية العام 2012. التقدير الإسرائيلي لهذه العملية البرية باتجاه غزة، التي وصفت ب»المحدودة والموضعية»، بأنها قد تستمر بين أسبوع وثلاثة أسابيع، وقد تتوسع في الأيام القريبة، حتى يتوقف إطلاق الصواريخ نحو إسرائيل، بحيث يغدو الحديث عن معركة ليست قصيرة، خاصة أنها تتزامن مع تكثيف سلاح الطيران قصف الأهداف لإعداد الأرضية لإدخال قوات برية، وبالتالي فإن العملية البرية ليست سهلة، فالمعركة فيها ستكون فوق سطح الأرض وتحته. ورغم التحفز الإسرائيلي للعملية البرية من قبل المستوى السياسي والأحزاب والرأي العام، أبدى المستوى العسكري العملياتي تحفظا كبيرا في الذهاب إليها، لمعرفته اليقينية بوجود جملة مخاطر كثيرة على دخول الجيش إلى غزة برا، ومن أهمها: 1 - أن يستهدف الجنود عند اقترابهم من الأحياء السكنية بالقنابل والتفجيرات والعمليات الاستشهادية؛ 2 - استهداف قوات المشاة التي لا بد أن تتخذ لها في غزة حيزا مكانيا تتوقف فيه بشكل ثابت للتحقيق مع من يلقى القبض عليه؛ 3 - تلغيم الأرض من قبل حماس بالقنابل والمتفجرات، وتفخيخ بعض المنازل، واستهداف الدبابات والناقلات بصواريخ مضادة قد تؤدي إلى خسائر في صفوف الجيش؛ 4 - كيفية التعامل مع المقاتلين الفلسطينيين، مع عدم ضمان سقوط ضحايا مدنيين، مما قد يثير ردود فعل واسعة ضد إسرائيل في المحافل الدولية والأمم المتحدة؛ 5 - أن إسرائيل تدخل المعركة البرية وهي ليست في أفضل وضع من الناحية الاستخبارية، ومعرفة ماذا يجري في غزة، خاصة تحت الأرض، ولا يوجد حتى الآن ما يدل على حصول تراجع في قوة حماس العسكرية. ولذلك توصي المحافل العسكرية الإسرائيلية بأنه من أجل تدارك كل هذه المخاطر، ينبغي أن تكون العملية سريعة ومحاطة بنيران كثيفة لمنع تعرض الجنود للخطر، والضغط بقوة على حماس للتراجع والقبول بالتهدئة. أهداف الغزو البري لم يكن سرا أن القيادة الإسرائيلية، السياسية والعسكرية، كانت مترددة بشكل كبير في اتخاذ قرار بشن عملية عسكرية برية، خاصة أن عملية محدودة النطاق لن تحقق أي أهداف، بينما عملية برية واسعة ستكون محفوفة بمغامرات كبيرة. مع العلم بأن الرأي السائد في إسرائيل أنه بدون شن عملية عسكرية برية واسعة في عمق قطاع غزة لن يكون بالإمكان الحديث عن وقف الصواريخ، ويبدو أن المعضلة التي واجهتها الحكومة الإسرائيلية لدى اتخاذها القرار بالذهاب نحو العملية البرية أنها تتركز حاليا في تحقيق أهداف منضبطة أكثر. ولذلك بدأ الجيش الإسرائيلي يطالب الفلسطينيين في القطاع في الأحياء القريبة من الشريط الحدودي بالنزوح عن بيوتهم، وقصف هذه المناطق، بادعاء أن العملية هي إخلاء سكان لأغراض دفاعية، لكن هذه الخطوة التي تعودها الفلسطينيون في حملات برية سابقة في حربي 2008 و2012، لها هدفان: 1 - ردع الرأي العام الفلسطيني في غزة حيال النتائج المتوقعة لاستمرار إطلاق الصواريخ من حماس؛ 2 - ضرب المنظومة الدفاعية لحركة حماس مع الشروع في العملية البرية. ورغم حشد الجيش الإسرائيلي لقوات كبيرة، ومنها كميات من الدبابات، فالملاحظ أن إسرائيل ليست متسرعة للانتقال إلى المرحلة البرية الواسعة في عمق القطاع، ومازالت مقتصرة حتى كتابة هذه السطور على الأطراف النائية من حدود القطاع: الشرقية والشمالية والجنوبية. ولذلك وضعت محافل التقدير الاستراتيجي الإسرائيلي «بنك أهداف» للعملية البرية، التي انطلقت مساء الخميس الماضي، وقدمتها إلى المستوى السياسي الذي أخضعها لنقاشات مطولة في جلسات المجلس الوزاري المصغر للشؤون الأمنية والسياسية «الكابينت»، وبلغت 27 جلسة بمعدل 160 ساعة تقريبا، منذ عملية خطف وقتل المستوطنين الثلاثة في الخليل أواسط يونيو الماضي. وحذرت أوساط الجيش الإسرائيلي والاستخبارات العسكرية المستوى السياسي من السعي إلى القيام بأي مغامرة، مما يعني أن قرار القيام بعملية برية في قطاع غزة لن يكون بهدف احتلاله والقضاء على حماس، بل الاكتفاء بوضع أهداف متواضعة يمكن تحقيقها، من بينها: 1 - تقليص عدد الصواريخ التي تطلق باتجاه إسرائيل؛ 2 - ضرب منظومات استراتيجية لحركة حماس يصعب استهدافها من الجو؛ 3 - العمل على إضعاف قوة حماس التي لم يظهر عليها التراجع طيلة الأيام ال11 الماضية منذ بدء العدوان يوم 7 يوليوز الحالي، فيما الضرر النسبي الذي أوقعته بإسرائيل محبط؛ 4 - البحث عن عملية برية نوعية يمكن عقبها التوصل إلى تهدئة. العمق الجغرافي تتفق المستويات السياسية والعسكرية والأمنية في إسرائيل، بما يقترب من الإجماع، على أن إدخال القوات البرية إلى المنطقة الواقعة بين السياج الحدودي مع غزة والمناطق المأهولة هو الجزء السهل من العملية البرية، حيث ستكون الحركة سريعة، ويرافقها إطلاق نيران كثيفة، وتحت غطاء جوي، لأن القناعة السائدة في مقر وزارة الحرب الإسرائيلية أن قطاع غزة مبني بشكل «فخ»، وهنا تبدأ المعركة الحقيقية، فوق وتحت سطح الأرض، لأن هناك مدينة تحت الأرض، وستحاول حماس من خلالها أسر جنود إسرائيليين. ورغم العمليات الجوية الكثيفة لم يتوقف إطلاق صواريخ حماس، لأن ما دمر أثناء العدوان الحالي على غزة من أنفاق تابعة للحركة لم يؤثر على قدرتها في صناعة المزيد من الصواريخ، ولذلك يشكو الجيش الإسرائيلي من نقص في المعلومات الاستخبارية حول الحصول على أهداف بعينها في غزة، بعد أن تقدمت قواته أمتارا قليلة داخل حدود غزة. ورغم مرور ما يقرب من 48 ساعة على انطلاق العملية البرية الإسرائيلية ضد غزة، هناك حالة من الإحباط أصيب بها كبار الضباط وصناع القرار السياسي، لقوة الكثافة النارية التي فاجأهم بها المقاتلون الفلسطينيون فور تقدمهم البري البطيء، بعدما ظنوا أن حماس ستركع على ركبتيها، وستتعطش لوقف إطلاق النار، لكن ما بدا في الساعات الأولى للعملية البرية أن الحركة، على غير المتوقع، يمكنها الصمود وتحمل القتال لفترة طويلة وبقدرات عالية، لأنها توقعت ذلك سابقا، وأعدت له جيدا. بل إن جنديا إسرائيليا أصيب في الاشتباكات التي حصلت على مشارف غزة، قال للصحفيين فور وصوله إلى المستشفى الإسرائيلي: «لم نر أيا من مقاتلي حماس الذين اشتبكنا معهم، وكأننا نقاتل أشباحا، واصفا حال الجيش بكونه قضى ليلة مرعبة على حدود غزة، لأن مقاتلي حماس لايزالون مختفين، ويخرجون للقتال عند تقدم القوات لوقت قليل، فهم لا يخوضون قتالا مستمرا أمام الجنود الذين يبحثون عن فتحات الأنفاق في المنطقة الحدودية». لكن العمق الجغرافي للغزو البري الإسرائيلي على حدود غزة يحدد بمعيارين أساسيين: 1 - صعوبة التمييز بين المدنيين والمقاومين في أحياء غزة المعقدة، مما سيؤدي إلى قتل العديد من الفلسطينيين، وخروج التنديد الدولي، وضيق الفترة الزمنية الممنوحة لإسرائيل لاستكمال عدوانها؛ 2 - مع إخراج هذا المُخطط البري إلى حيّز التنفيذ، قد تبدأ إسرائيل بفقدان الشرعية الدولية والعربية، خصوصا أن بعض دول الإقليم العربي تريد أن ترى حركة حماس وهي تنزف. ولذلك تعمدت القوات البرية الغازية لحدود غزة أن تصل وحداتها العسكرية إلى مناطق خافية عن العيان، وتمنع مقاتلي حماس من مراقبتها، بالاستفادة من الحرب السابقة على قطاع غزة 2012، حيث كان تجميع القوات البرية كثيفا وباديا للعيان، وتمكن الغزيون من مشاهدة آلاف الجنود بالعين المجردة موزعين في المنطقة، لذا كان من السهل توجيه الصواريخ وقذائف الهاون باتجاههم، مما أدى في حينه إلى إيقاع إصابات في صفوفهم، أما اليوم فإن الغزيين لا يرون بوضوح حجم القوات التي تلقت الأوامر بالتحرك نحوهم. أخيرا.. فإن من اتخذ القرار الإسرائيلي بدخول العملية البرية نحو غزة يفهم أن الحديث ليس عن نزهة صيفية أو جولة صباحية، لأنه رغم الإعداد لهذه الحملة البرية بشكل جيد ولمدة طويلة لا يمكن افتراض أن تكون المخاطر التي قد تواجهها القوات المتوغلة في قطاع غزة من قبل حماس في حدود المعقول، فالحركة وعدت القوات الغازية بمفاجآت غير سارة البتة، والمفارقة أن وعود حماس لدى إسرائيل باتت تكتسب كثيرا من المصداقية! عدنان أبو عامر