تسلط «المساء» الضوء على رجالات صنعوا مجد مدينة مراكش، وأخرجتهم من الظل إلى مشاركة الرأي العام المراكشي والوطني هموم قضية حملوها على عواتقهم. عمدت «المساء» إلى الاقتراب من ثلة من خيرة رجالات، تركوا بصمات في المدينة الحمراء، وأغلبهم تواروا إلى الظل بعيدا عن عدسات المصورين أو كاميرات الإعلاميين، أو حتى مقالات الصحافيين. واتصلت بالجدد منهم، منهم من اعتذر نظرا لمرضه، ومنهم من فضل عدم الظهور تواضعا، فكانت «المساء» صلة وصل بينهم وبين قراء أرادوا معرفة الكثير عنهم، لأنهم كانوا يعملون أكثر مما يتكلمون .. شخصية فريدة متفردة، اجتمع فيها ما تفرق في غيرها. غريب في نظر البعض في كل شي، حتى إن البعض يعتبره سابقا لعصره. جمع عبد الإله المستاري، الوكيل العام للملك السابق لدى محكمة الاستئناف بمراكش بين الكفاءة والنزاهة، والصرامة والأناقة، هذا ما وصفه به من عاصروه وعاشر، وعاينوه في سلك القضاء، ومختلف المصالح والمؤسسات الخارجية. قطب من أقطاب ورموز القضاء في العالم العربي الذين حملوا الرسالة بأمانة، وشهد لهم الجميع بالنزاهة، وتميزوا بالاستقامة والكفاءة. تجربة قضائية متميزة.. صفات لا يزال ينهل منها تلاميذه إلى اليوم، بالرغم من مغادرته سلك القضاء مرفوع الرأس. كان الحرص على تطبيق القانون وتحقيق العدل مبتغاه، وحسن الإصغاء من أهم خصاله، والقدرة على تنسيق العمل بين مختلف مكونات الجسم القضائي داخل دائرة المحاكم شهادة تحسب له. تربع عبد الإله المستاري على ناصية قلوب كل من عمل معه أو احتك به. «جنان المستاري» بآسفي ولد عبد الإله المستاري بمدينة آسفي، وبها استنشقت رئتاه أريجها الفياض. نشأ وسط أسرة عرفت بوطنيتها الصادقة، وضربت المثال في الإخلاص والتضحية والوفاء، حيث كان والده شيبة الحمد الفقيه العالم والقاضي الجليل عبد السلام المستاري، أحد رجالات الرعيل الأول للحركة الوطنية، وأحد الرموز التي كان لها شرف التوقيع على وثيقة الاستقلال سنة 1944. في مدينة آسفي الساحلية لاتزال بصمات هذه الأسرة العريقة، التي تشبعت بكل القيم الوطنية والروحية النبيلة، موجودة إلى اليوم، إذ بمجرد أن تطأ قدماه المدينة وسأل عن حي يسمى «جنان المستاري»، حتى يرشد الطفل الصغير إليه. تربى وترعرع عبد الإله المستاري في مدينة مراكش الفيحاء، التي درس فيها تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي، وكان خلاله نجيبا في التحصيل الدراسي، دمث الطبع مهذب الأخلاق، بحسب ما يحكي أحد التلاميذ الذي درس معه في حديث مع «المساء»، قبل أن ينتقل إلى مدينة الرباط من أجل استكمال دراسته الجامعية. في سنة 1974 عين عبد الإله المستاري نائبا لوكيل الملك بالمحكمة الابتدائية بعد أن تدرج في عدة مناصب قضائية عبر محطات أساسية انطلقت من مدينة مراكش، التي كانت لها ولاتزال مكانة خاصة في عقله ووجدانه، على اعتبار أنها المهد الأول، الذي تفتقت فيه مواهبه ومداركه القضائية، قبل أن يصير مسؤولا بمحكمة الاستئناف بالمدينة نفسها سنة 1978، حيث عمل نائبا للوكيل العام للملك، قبل أن يصبح وكيلا للملك بالمحكمة الابتدائية بفاس سنة 1983، ليعود من جديد إلى مدينة مراكش وكيلا للملك سنة 1986، حيث شغل منصب الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بمراكش سنة 1998، وهو المنصب الذي ظل يشغله إلى أن أحيل على التقاعد سنة 2012، بعد أن استوفى كافة مدد التمديد. غادر المستاري حلبة القضاء مرفوع الرأس تاركا بصماته البينة والواضحة على عدد من الملفات، أبرزها ملفات الفساد بالمدينة التي كان يحيلها على أنظار الفرقة الوطنية للشرطة القضائية بعد دراستها في مدة معقولة وبطريقة علمية، يقول عدد من الحقوقيين في حديث مع «المساء». اكتشاف تفجيرات «أركانة» بفضل قناعته الراسخة، وقوة إقناعه، ولباقته، أسندت لعبد الإله المستاري مهمة رئاسة اللجنة الإقليمية لتتبع الانتخابات بعمالة أكادير سنتي 1992-1997، حظي خلالها بالتقدير والاحترام من لدن كل مكونات اللجنة. وأهلته كفاءته أن يكون عضوا فاعلا في اللجنة الدولية للتعاون القضائي المغربي الاسباني، وله نشاط متميز في عدد من منظمات المجتمع المدني، التي تهتم بمناهضة العنف ضد المرأة والطفل. وكان من الأوائل الذين أحدثوا خلايا منظمة بالمحاكم تهتم بهذه القضايا سنة 2005. يحكي من عمل معه أنه كان يتابع مرافعات ممثلي النيابة العامة، التي كان يحرص على أن تكون تأصيلية قبل أن تكون نصية، ويقوم بزيارات لقاعات الجلسات للوقوف على سير العمل. كما أن صرامته وحرصه على العمل طال أيضا تحريره لبعض المراسلات، حيث كان يطلب من كاتبته تدوين المعطيات وكتابة الوثائق بقلم الحبر قبل طباعتها، حرصا على ترشيد وسائل المؤسسة التي يعمل فيها. كما كان يتتبع الشكايات المسلمة لنوابه ويصدر تعليماته بخصوصها، كما كان يقدم أسئلة للعناصر الأمنية للاستعانة بها خلال مراحل التحقيق في بعض القضايا الخاصة. ومن طباع المستاري أنه كان يضع قلما وورقة بالقرب من سريره، فكلما تذكر معلومة أو حدثا يدونه في ورقة ولو كان نائما. وخلال حدث «أركانة» انتدب الوكيل العام عبد الإله المستاري طبيبا متخصصا أقام في نادي وزارة العدل، من أجل الانضمام لفريق المحققين لمعاينة ضحايا التفجير والكشف عن هوياتهم، الأمر الذي لقي استحسان المسؤولين الفرنسيين، كيف لا وهو الذي بمجرد أن وطأت قدماه مكان التفجيرات، حتى أكد للفريق أن العمل إرهابي. اجتهادات متميزة وتنويهات مستحقة طبع المستاري العمل القضائي بتجربة غنية واجتهادات بناءة، تجلت في تبسيط عدد من الإجراءات والمساطر لتحسين مستوى أداء الإدارة القضائية ومردوديتها، وجعلها أكثر نجاعة وفاعلية. وأغنى المستاري الخزانة القضائية بمراكش بإسهامات علمية عالية المستوى، منها ما يتعلق بالصعوبات المثارة بمناسبة إحجام المحاكم في التصريح بقرارات تمديد المداولة دون إشعار الأطراف سنة 1981، والتقسيم الثلاثي لجرائم الأموال التي يقترفها موظفون عموميون (سنة 1984)، ومحاضرة حول حالات الاعتراض على أداء قيمة الشيك والآثار المترتبة عليها، وكذا الآثار المترتبة على العقوبات السالبة للحرية والملامح العامة للعقوبات البديلة سنة 2000، إضافة إلى أثر استئناف النيابة العامة للأمر الصادر عن قاضي التحقيق بعدم المتابعة. حصل المستاري على وسام العرش الملكي من درجة فارس سنة 2004، وعين من قبل الملك محمد السادس عضوا في اللجنة الملكية لبعثة الحج سنة 2006، كما حظي بمنحه الصفة الشرفية كقاض من لدن الملك محكمة السادس خلال هذه السنة، إضافة إلى حصوله على دروع شرفية ورسائل تقديرية في محافل قضائية وطنية ودولية، كالتي منحها الوكيل العام للجمهورية بمحكمة النقض الفرنسية ورئيس محكمة النقض، ووزير العدل بدولة الإمارات، كما حصل على لوحة الشرف والقيم القضائية من رئيس الودادية الحسنية للقضاة، وذرع من رئيس الاتحاد العالمي الإفريقي للقضاة، وذرع من رئيس المؤتمر العربي الثالث لرؤساء النيابة العامة، وكذا الاحتفاء الذي نظمته الودادية الحسنية للقضاء وكلية الحقوق بمراكش. كما تلقى المستاري رسالة شكر وامتنان من مدير الثقافة والاتصال بمنظمة «الاسيسكو» على إثر ندوة علمية حول جرائم الأموال، إضافة إلى توصله برسالة شكر وتنويه من لدن سفير سويسرا بالمغرب عن المجهودات التي بذلها إزاء ضحايا فاجعة «أركانة» بمراكش.