بدأت حكايتي معه باكرا.أقول حكايتي مع قصصه. أذكر بالضبط أني تصيدت مجموعته «الممكن من المستحيل» من مكتبة إدريس في شارع بوشريط بمدينة الجديدة. يومها كنت طالب ثانوي ب«ابن خلدون». إلا أن ما ترسخ في ذاكرتي المعنى المعبر عنه في إحدى قصص تلك المجموعة. بالتأكيد لم تكن «الفاركونيت». إلا أني غير قادر اللحظة على دقة الاستعادة. لكن المهم الرؤية الفلسفية التي تحكمت في صوغ النص : في بيت ينتظرون ولادة، وفي آخر يترقبون وفاة. هذا العمق يختزل مفهوم الحياة في ولادة، وبالتالي موت. وهو تقابل أبدع خيال الراحل عبد الجبار السحيمي في/ وعلى نسج خيوطه وفق تكثيف جد دقيق، ومرآوية تراوح بين فضاءين: الألم، وفضاء الاحتفاء بالحياة. إنها ثنائية البكاء/ الفرح. هذه استوقفتني في إحدى الروايات اليابانية القصيرة (ما أكثر استخفافنا بالأعمال قصيرة الحجم!) ذلك أن تصور الحياة يتأسس من منطلق إخلاء المكان. فكلما لاحت بارقة حياة، ولادة جديدة، سارع المسن في العائلة إلى كسر أسنانه وإن تكن سليمة علامة التقدم في السن، وبالتالي شد الرحال إلى جبل السنديان الذي لا يمكن الوصول إليه. إنه علامة النهاية، أي الموت. فإخلاء المكان وبقدر ما يعبر عن وضعية اقتصادية يحيل على الاحتفاء، كما على المأساة.. ولم تنته الحكاية. أقول اتخذت لها بداية جديدة. حينها استيقظ السارد النائم في. السارد الذي عبره ذات أفق هوى جائع لنثريات تفتت الصخر..هوى كسره خيال روائي روى وما ارتوى.. أذكرها أواسط سبعينيات قلقة، لما تفتق الخيال عن نص قصصي ضاع فيما ضاع بعثته لجريدة «العلم» واشترطت نشره ب«العلم الثقافي»، ملحق الكبار يومها (كان يصدر الجمعة) إلا أن المفاجأة نبتت في الضفة الثانية، لما نشر النص بصفحة الأحد التي قدم إليها الراحل بما معناه أن من ينشر في هذه الصفحة بالذات لا يعني أن كتاباته دون مستوى وقيمة مادة «العلم الثقافي». من يومها واكبت النشر في الجريدة ذاتها، ولأكثر من مرة على صفحات «العلم الثقافي» وفي الصفحة الأخيرة، حيث نشرت كل أربعاء ومن خلال زاوية اخترت كعنوان لها «نافذة».. وكان ينشر في اليوم ذاته الأستاذ عبد الكريم غلاب موضوعا رئيساً يتناول فيه قضية من قضايا الأدب أو الفكر عموما. وهنا وبكل موضوعية، أنتهزها فرصة لأشكر دعم الإنسان. والمثقف الشاعر نجيب خداري، الذي لا أذكر - وعلى امتداد مراسلاتي معه - أنه حذف مادة أو نقص، أو انتقص من قيمتها.. ولي في ذكرى الأستاذ عبد الجبار السحيمي تحيته. ولم تنته الحكاية، حكايتي معه. كنت حريصا على متابعة كتاباته الصحافية الجريئة، وبالضبط في عموده «بخط اليد». يكتب، وكأنه يحكي. وكان يلتقط بعين ذكية تفضح التفاصيل وتعريها.أحيانا لربما غالبا نرى مواده في غاية البساطة، أقول نراها عادية. تماما عادية. إلا أنه لم يكن. كان يرى رؤية فنان يجيد رسم اللحظة. دالا كان وعميقا. وأعتقد بأن العمق الجريء الذي نسج تفاصيله قاده غير مرة إلى المثول أمام محاكمهم، ومعانقة حرية الحياة، والبدء من جديد وعلى الوتيرة ذاتها. لم يكن سهل الاقتياد/ الانقياد. بل إنه الحكيم في زمن عزت فيه الحكمة. فلم يقبل بمنصب، ولا رغب، أو ترشح، وما أكثر المرات التي عرض عليه ذلك. كان يعرف بأن الأديب أديب في سلوكه كما في مواقفه. لذلك نال احترام الجميع وتقديرهم. بل إنه كان المحكم في قضايا ومشاكل بنباهة لم تغلب يوما السياسي، ولا انتصرت له أو دافعت عنه. ولم تنته الحكاية، قل لن تنتهي، وقد عبرت ذكراه في صمت أخجل أكاذيبهم هم الذين تشعبطوا بحثا عن ذوات وهمية وكراس جمدت شيخوخة بؤسهم وجوعهم.