عبده حقي في شارع «هوفيت بوانيي» في أصيلة التقيت لأول مرة بالحكيم عبد الجبارالسحيمي ذات صيف بعيد على الأرجح في 1990.. رأيته متحللا إلى حين من خط يد لا تسمعه ومن ورقة وحرف ضل طريقه عن صف الحروف المدجنة... كان سيدي عبد الجبار متحللا من كل ملحقات مهنة المتاعب.. كل مكان لديه في تلك الظهيرة الرطبة من صيف أصيلة غير قميص قزحي وسروال قصير (كيلوت) وصندال وصنارة. ومن فرط دهشة اللحظة وصدفة الصدف الجميلة، لم أدرك هل كان الشيخ عائدا من البحر أم هو رائح إليه.. لكن من دون شك أنه كان عائدا بصنارة سامقة وطاعنة في الصبر، كانت صنارته بكل يقين تغازل الأسماك ولا تصطادها. صافحت الحكيم بحرارة وبادلني بتحية أحسن منها... دخت ودوخني.. لم أعد أعرف من أين أبدأ قصتي معه، أمن مأساة البطل البروليتاري في (الممكن من المستحيل)؟ أم من جمرة الخط في يده؟ أم من الحصار الثقافي الذي يرتع فيه. سألته عن الصحة والأسرة وأشياء أخرى لم أعد أذكرها، وقلت في نفسي هي ذي إذن فرصة العمر كي أتعلم من شيخ البحر كيف أصطاد في قيعان دويات السرد.. هي ذي فرصة العمر كي أغنم من بركات سيدي عبد الجبار القصصية. ذكّرته بنص قصصي كنت قد كتبته في أواخر الثمانييات، وعلى الأرجح سنة 1989، موسوما ب»التبوريدا»، وكنت قد بعثت به إلى صفحة «الباب المفتوح» في جريدة العلم، تلك الصفحة الخاصة بإبداعات الشباب، على غرار صفحة «على الطريق» في جريدة الاتحاد الإشتراكي أو «إبداع ونقد» في جريدة أنوال. وانتظرت وطال إنتظاري أياما غير معدودات، حتى إنني يئست من حظي مع النشر، ونسيت «التبوريدا» وخمّنت أنني قاص فاشل وأن الحكيم، الذي لا يملك سلة مهملات، هو أدرى بالصنعة القصصية، فكان علي، إذن، أن أتعظ بحكمته وأستمرفي الصيد بغير قليل من الصبروالتؤدة.. عليّ أن أكتب ثم أكتب ثم أكتب... ومرت الأيام ومن حيث لم أدر، نزلت علي حمامة رسالة ذات صباح يخبرني فيها صديقي العزيز الراحل الإعلامي والقاص مختار الزياني أن نصي القصصي «التبوريدا» قد نُشر في صفحة «حوار»، وكانت وقتئذ صفحة ثقافية وأدبية في درجة رمزية أرقى من صفحة «الباب المفتوح»، مما يعنى بلغة المرحلة أنني ارتقيت إلى رتبة ما قبل الولوج إلى نادي الأدباء الكبار في الملحق الثقافي الشامخ. وقلت في نفسي لماذا لا أستمر في مشاكسة سيدي عبد الجبار السحيمي بسؤال آخر عن مجموعته القصصية اليتيمة «الممكن من المستحيل»، وهل من أمل لنا في مجموعة قصصية ثانية، وأخبرني في تلك اللحظة أن لديه مجموعة قصصية موسومة ب»السيف والدائرة»، كانت محاصرة في إحدى دور النشر في القاهرة، والتي أقفلت لسبب غير معروف. ذكّرت سيدي عبد الجبار السحيمي بهذا الحدث المنقوش إلى اليوم في ذاكرتي القصصية وأكد لي أن النص القصصي «التبوريدا» يستحق أن يحظى بدرجة أسمى من «الباب المفتوح»، الخاص بالأدباء الشباب، ولعل هذا الحدث كان بكل تأكيد همسة الحكيم الأزلية التي ظلت ترن وتقف منتصبة أمامي، مثل قامة شهرزاد كلما همَمتُ بكتابة محاولة قصصية. بين «الفاركونيت» و«كما هي العادة» كلما ذكرنا اسم القاص الراحل عبد الجبار السحيمي كلما تبادرت إلى أذهاننا إضبارته النيزك «الممكن من المستحيل» وكلما أثيرت هاته، كلما توقفت «الفاركونيت» على سطيحة تلك القصة الناتئة في متن المجموعة إلى درجة يتماهى فيها عنوان المجموعة الرئيسي مع عنوان قصتها الفرعي، لتعلن عن فرادتها وتميزها كنص سردي يؤرخ لزمن العسس السبعيني.. مغرب سنوات الرصاص في مقابل أقلام الرصاص. لكنْ لست أدري ما الذي يشدّني وحدي أكثر، في ما أعتقد، إلى قصة «كما هي العادة» في نفس المجموعة القصصية بشكل أقوى من القصص الأخرى، بما فيها قصة «الفاركونيت».. فكلما سألني أحد الأصدقاء عن أنطولوجيا القصة القصيرة المغربية، يقفز إلى ذهني فجأة نص «كما هي العادة»، بكل كدحه وحميميته ورومانسته ولغته الصاعدة من المدن السفلى. تحكي قصة «كما هي العادة» عن سيدة وحيدة في البيت تنتظر في وحشة وغربة الليل عودة زوجها الكادح من المعمل، وتمضي بها الاستيهامات إلى استرجاع لحظات عودته كل ليلة بما يمزق صمت الليل في البيت، من كحاته وخطواته وفيضان إبريق القهوة في المطبخ ودخان سيجارته.. إنه يعود في هدوء حتى لا يوقظها.. أما هي فتنتظره من تحت الغطاء في الظلام، متظاهرة بالنوم من دون أن يعلم هو بذلك.. تنتظره أن يضغط على زر المصباح ويرفع الغطاء عنها ويسوي مكانه بجانبها على السرير، لكن انتظارها يطول ويطول في تلك الليلة ولا أحد يطرق الباب.. لا أحد يكح أو يشعل سيجارته، فالزوج قد مات منذ سنين ولم يكن انتظار عودته سوى حالة سيكولوجية مرضية تنتابها كل ليلة. ما يشد المتلقي في نص «كما هي العادة» هي لعبة السرد، الذي يقتعد على تقنية «الفيدباك»ن الذي يتماهى كثيرا في القصة مع سرد قصص الأفلام البوليسية. في حوار أجرته الإذاعة الوطنية مع عبد الجبار السحيمي في أواخر الثمانينيات، سألته إحدى الصحافيات (لم أعد أذكر اسمها) ما إذا كان هناك سؤال هام جدا لم تطرحه عليه فقال لها: السؤال الذي لم تطرحيه عليّ هو: لماذا لم أترشح للانتخابات البرلمانية؟!... رحم الله الفقيد.