كلّ الذين كتبوا عن القصة بالمغرب مُبيّنين مياسمها التاريخية، من منظور خصوصية التكوين والصياغة الفنيين(1)، يجمعون على أهمية المجموعة القصصية الأولى لعبد الجبار السحيمي «الممكن من المستحيل»(2)، وذلك في سياق لحظات تطوّر السرد القصصي مطلع العقد الستيني وصُعدا، وهي اللحظات التي شهدت تبلور تصوّر للكتابة القصصية يتخطّى منظور الخاطرة والكلام المرسل، إلى تشكّل نص قصصي يرادف الواقع ويحاكيه، ويتناسب مع تلك الحقبة بما شهدته من تفاعلات سياسية واجتماعية؛ بما يعني أن تطوّر السرد القصصي اعتمد على «تجريب» أساليب جديدة من السرد، و»تحديث» أطر هذا النوع الأدبي بحسب اقتناع هذا الكاتب أو ذاك، وفهمه لجدوى الأدب ومسلّماته الفكرية والإيديولوجية المصاحبة. من هذا المنظور، شكلت المجموعة القصصية الأولى لعبد الجبار السحيمي، مثلما هو الأمر كذلك في مجموعته الثانية «سيدة المرايا»(3)، واحدة من مجاميع تلك الحقبة التي راهنت على تمثل قيمة إبداعية لعلاقة الأنا بمحيطها، وفي سعيها لانتقاده. إن نصوص السحيمي في سعيها لتقديم رؤية انتقادية للواقع وللعصر، لم تخطئ الموعد بناظم حكائي مركزي يعلي من شأن الحرية، ويفضحُ المُزيف، ويلاحقُ حوادث الوقت ومصير الإنسان. من هنا كذلك، انشغال عبد الجبار السحيمي بانتقاء بناء قصصي، لغة وأسلوبا وصورا، ينسجم مع طبيعة العوالم الحكائية دلالة ومدلولا. يتوازى هذا الانشغال مع واقع تومئ إليه النصوص، واضح بالنسبة لنا، بخلفية أحداث اجتماعية وسياسية وبفعل عوامل تاريخية واقعة وممتدة من نهاية الاستعمار وإعلان الاستقلال، إلى تكاثر الخيبات مثل حمم متقاذفة أضحت لها أسرار اعتقالات وتعذيب وملاحقة. يعتني السحيمي في قصصه برصد واقع يسوده الفقد والتذرّر، وتتماهى فيه الأحلام مع الجراح؛ فالكتابة هنا لا تستعلي على الواقع، بل هي صاعدة منه، كأنها تجميعٌ لأعمار متهالكة وشخصيات أعياها العثور على ملاذ، وقد حاصرها الضياع الذي أضحى رديفا لحالات وجودية فيها من التمرّد والاحتجاج والانتهازية شيء، ومن التعسف السياسي والاستبداد والوصولية شيء آخر. بهذا الاختيار، لا تستند الحكاية في نصوصه القصصية إلى الإيحاء أو الرمز، بالرغم من أن عبد الجبار السحيمي يمتلك من ألاعيب السرد وألوانه الشيء الكثير، لأنها حكاية عادة ما تلتفت إلى الحاضر، ولا يهمّها الحنين أو الإحساس الرومانسي بالماضي مهما كان مشعا وأخاذا. أعرض هذه الأفكار في مستهلّ صياغتي لهذا المدخل الموجز لإعادة قراءة قصة «الفارگونيت» لعبد الجبار السحيمي، بغاية تمثل بعض خصائص الكتابة القصصية لديه، وكذا استعادة ذاكرة قصة قصيرة ظلت شاهدة على حقبة معلومة من التاريخ السياسي والاجتماعي لحقبة السبعينيات الملتهبة. كيف يمكن لكلمة واحدة أن تختصر تاريخ حقبة بكاملها ؟ ألأنّ قصة «الفارگونيت» لم تهتمّ بنمذجة بطولة مزعومة، واكتفت بمنحها لفكرة أضحت هي البطلة بتعبيرات بارودية تعرض لها القصة بطريقة تصاعدية وبنوع من الترتيب الدلالي؟ سأعود لاقتراح بعض عناصر الإجابة عن هذا السؤال بعد حين؛ أي بعد إعادة استحضار «أفقين نقديين» تأملا كتابة القصة وكذا العالم القصصي لعبد الجبار السحيمي، وسيسهمان في توضيح وإغناء ما سأبسطه من تحليل في ما سيأتي من فقرات؛ أستهلهما بتصور للأستاذ أحمد اليبوري: 1 - فقد أدرج في دراسته « تطوّر القصة في المغرب: مرحلة التأسيس» تجربة السحيمي ضمن القصة التأملية، وهي في نظره من صنف الإنتاج الفني الذي «ينطوي على عناصر التأمل في الوجود بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، لأنه تحديد لموقف من قضايا الفكر أو أحوال العصر» (4)؛ بهذا الاختيار، بيّن أحمد اليبوري أبعاد الدائرة الدلالية الكبرى الناظمة لمجموعة «الممكن من المستحيل» حاصرا إياها في قضية الحرية من جوانب عدّة، أهمها دورها في الحياة الإنسانية. من ذلك مثلا تعليقه على قصة «في منتصف الليل» حيث: «يبدو البطل مضطربا يضايقه كل شيء ويسعى للتخلص من كل شيء. وقد استطاع ذلك إذ أمكنه أن يقتل الذبابة، ويسكت الساعة، ويوقف قطرات الماء، غير أن حريته، رغم ذلك بقيت مقيدة إذ جسم زوجته يحاصره بدفئه ويخدره بما يتيحه له من لذات. فالجنس إذن في شكله البدائي أول عقبة في سبيل الحرية التي تتيح للفكر والشعور والخيال أن يحلق بعيدا عن المادة» (5). كما يؤكّد أحمد اليبوري أن أكثر قصص هذه المجموعة تدور حول الحرية بطريقة أو بأخرى، «بل إن عنوانها نفسه يشير إلى ذلك: فالمستحيل ليس إلا تلك الحرية التي تبدو في الأفق بعيدة المنال، لكنها ممكنة التحقيق بالإرادة والوعي» (6). وعلى ضوء هذه الملاحظة، يصف أحمد اليبوري الطريقة الفنية في هذه المجموعة القصصية التي وظف فيها السحيمي العديد من الأساليب التعبيرية أبرزها: الانتقال في بعض الفقرات بطريقة فنية من ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب؛ وكذا الإكثار من المفاجآت المتقنة، كما يستهل أحيانا قصصه بأحداث غامضة مشوقة؛ فضلا عن استعماله الجمل القصيرة (7). 2 - الأفق النقدي الثاني وجدته عند الأستاذ عمر والقاضي وكتبه سنة 1972 عن قصة «الفارگونيت» بقصد إثارة الانتباه إليها، وليس القيام بعملية نقدية للقصة (8). ورغم ذلك، فإن المسلمات التي انطلق منها عمر والقاضي تبقى أساسية ومتجانسة، وتستجيب للعديد من الأسئلة التي تجلّي الخصائص الفنية والدلالية لهذه القصة. معنى هذا، أن النصوص الأدبية تظل دوما مشتملة على معان ممكنة وأفكار متحركة وغير ثابتة، أي أنها نصوص تمتلك قدرة الانفتاح على قصد دلالي يمكن أن يشغل بال القراء في سياقات زمنية مختلفة. ويبدو من المفيد اليوم، إعادة قراءة نصوصنا الأدبية في ضوء ما راكمته من رصيد نقدي يتيح التعمّق في التجليات المختلفة لمفاهيم الأدب والكتابة. للتدليل على هذا المقترح، ينطلق عمر والقاضي في قراءته لقصة «الفارگونيت» من ربطها بزمنها الأدبي، لمّا «كانت الدعوة إلى الاتجاه الواقعي هي أكثر الدعوات إلحاحا على الأدب العربي الحديث... فزمن «الفارگونيت» لم يكن يتطلب ذلك المثقف الذي يعيش على الهامش، مكتفيا بالتحليق أبعد ما يكون عن اهتمام مواطنيه. لذلك، نجد جميع مظاهر الحياة مسجلة في قصصنا: تناولت التخلف، الفقر، المرض، الظلم» (9). فمنذ أواخر الستينيات و مطالع السبعينيات، تجلّت ملامح أدب طليعي توسّل بالبحث عن أسلوب جديد في الحكي بنسيج واقعي حينا، ورمزي أحيانا أخرى. وقد تعلّقت الواقعية بمفاهيم الالتزام والنضال والدفاع عن القيم الفاضلة؛ ولم يكن هذا التصوّر للواقعية ليجعل الأدب بوجه عام، ذيلا من ذيول السياسة، بقدر ما سمح له بتوفير أبنية سردية وألوان من التعبير أغنت فهم غرضية هذا الجنس الأدبي في ثقافتنا الحديثة. ولعلّ هذا ما أسعف عبد الجبار السحيمي، في تصوّر عمر والقاضي وفي قصة «الفارگونيت» حصرا، على تحديد «موقفه وعلاقته، ورأى أن من واجبه توضيح الأشياء في أذهان الجماهير. صحيح أن أي أثر أدبي لم يقم بثورة، لكن من يشك في أن بعض الروايات والأشعار لم تعتبر من بواكير أدب ثورة ما، وأن الأدب يستطيع أن يمهّد لتغيرات. لذلك، إننا نريد أدبا يحمل في أحشائه حلما بالتغيير»(10). وبعد وصفه للعالم الحكائي للقصة، ينهي عمر والقاضي تعليقه بهذه العبارات: «إن قصة «الفارگونيت» شهادة على الوضع المرفوض، ولا ضير إن أصبحنا نؤرخ «الفارگونيت»، فقديما أرّخ أجدادنا بعام الفيل» (11). مع قصة «الفارگونيت»،إذن، نستعيد لحظة أساسية من لحظات كتابة القصة بالمغرب، مع نصوص- معالم أذكر منها مثلا ( لا حصرا): «الديدان التي تنحني» لمحمد زفزاف؛ «خديجة البيضاوية» لإدريس الخوري؛ «قصة تقليدية» لمحمد الأمين الخمليشي؛ «الغرباء» لرفيقة الطبيعة؛ «العين الثالثة « لأحمد المديني؛ « حكاية الرأس المقطوع» لمحمد برادة؛ «زينة» لمبارك ربيع؛ «الأوطوروت» لمصطفى المسناوي، «الرجل الذي وجد البرتقالة» لأحمد بوزفور إلخ....؛ في هذه القصص احتفاء بأحاسيس تستمدّها الشخصيات القصصية من فضاء عامّ، صنع هواجسها ومغامرتها، بها وعبرها تحيا القلق والتوتر، لكنها، في الآن ذاته، تحمل قيم التمرّد على الثابت والجامد والمبتذل في العلاقات والانفعالات. وكأني بهذه القصص وغيرها تغالب مختلف أصناف السقوط الذاتي والاجتماعي الذي طبع مغرب سنوات أواخر الستينيات ومطالع السبعينيات كما أسلفت. لأمر ما لم ينشر عبد الجبار السحيمي قصة «الفارگونيت» ضمن مجموعته الأولى «الممكن من المستحيل»، بل احتفظ بها لمجموعته الثانية «سيدة المرايا»، وقد كتبت نصوصها كذلك خلال سنوات الستينيات والسبعينيات؛ مما يعني أن المجموعتين القصصيتين تنتميان إلى نفس الأفق التاريخي، ولعلهما،كذلك، محكومتان بنفس الاقتناعات والهويات النصية التي تجعلها وثيقة الصلة بقضايا المجتمع والفرد في ذلك الإبان وسالف العصر والأوان. من هنا بناء نصوص هذه المجموعة القصصية على عالمين متضادين: واحد قائم وآخر محلوم به تتطلّع إليه الشخصية القصصية لتتخطى خيبتها، أو لتحتمي من قسوة تفرضها رتابة الأيام، أو جبروت مستبد (كما هو الأمر مثلا في قصة «ما قبل الصحو وبعده»، وفي قصة «الرعب» كذلك). تنفتح قصة «الفارگونيت»، التي يجعل منها هذا المقال محور تحليل وتأمّل، على هدير الفاركونيت التي توقظ سكّان العمارة، من بينهم رجلٌ وزوجته وطفلهما. يبسط السارد كيف يطلّون من النافذة ليروا كيف يترجل البوليس متجها نحو العمارة، في حين يبقى آخرون في السيّارة: «قالت المرأة: إنّهم قادمون. ارتدِ ملابسكَ بسرعة. (ص12) (...) قالت المرأة بصوت مختنق: هل نضيء المصباح؟ قال الرجل: الأحسن أن لا نفعل حتى يطرقوا الباب. قال الطفل بصوت مختنق: إنني خائف. (...) وخيّل لساكني العمارة، أن أبوابهم كلّها بدأ ينهال عليها الطرق. (ص13) ... قالت له: أسمع بكاء آتياً من فوق. قال لها: نعم. انهضي الآن، واذهبي إلى أمينة... لقد أخذوا زوجها عبد الله. كان دوره هذه المرة»(ص14). بالرغم من أن الشخصيات المحورية في القصة: الزوج والزوجة والابن والجار والبوليس لا تكشف عن هوية محددة، إلا أنها تمتلك «وضعا وجوديا» يجعلها لا تهتمّ إن كان ما يقع لها في تلك الليلة الهادئة يقوده التوقع والاحتمال، إلا أنها أضحت متيقنة من ضغط «وعي اجتماعي شقي» يلاحقها، ممزوج بارتدادات نفسية تعكسها علاقتها المتوترة مع العالم المحيط بها، وسطوة خيبة تلفها من كلّ ناحية. بهذا المعنى، لا تحمل شخصيات قصة «الفارگونيت» أقنعة، ولا تتوارى خلف ظلالها، لا تغدو أشباحا. بل بالعكس، إنها تتشبث بكينونتها وتحتمي بها من هشاشة واقع اجتماعي ونفسي ظاهر وجليّ. وإذا كانت الحكاية في «الفارگونيت» تحتمل «قراءة مرجعية»، أي الذهاب من النصّ إلى خارجه، ومن التخييل إلى الواقع، فإن هذا التقاطع الخفي بين العوالم يستثمره عبد الجبار السحيمي ليجعل من هذه القصة تعبيرا عن «سردية المابين» أو «سردية العبور». لهذه السردية علامات. أبرزها: - أن أفق الحرية الذي تنشده الشخصيات (الزوج و الزوجة والابن وباقي سكان العمارة طبعا) منبعه شعور عميق بعلاقة الإنساني بالاجتماعي في بعدها القاهر والقاسي والمدمّر. - أن وصف الإحساس بالمطاردة (كما هو الأمر كذلك في قصة «ما قبل الصحو وبعده») هو في أيضا وصف لوضع الكائن في زمن خشن. بهذا المعنى، يتضح لقارئ قصص عبد الجبار السحيمي أن نصوصه الحكائية ذات رؤية فلسفية متعلّقة بجوهر الوجود الإنساني وهو ينشد قيم الحرية والمساواة والعدالة والكرامة. وليس بالإمكان قراءة نصوص السحيمي بمعزل عن هذه الرؤية؛ لأن نشدان هذه القيم يفتح القصص على خطاب المونولوج والبوح الأقرب في التعبير عن التصدّع الداخلي للشخصيات من جرّاء ما تحياه من مواضعات ومغامرات ورغبات. ولا تجعل هذه الرؤية عوالم الحكاية في القصة ذات أسرار أو إشارات ملغزة، بل هي في العادة تشخيص للخبيء والفاجع والمبتذل. في كلّ قصة من قصص عبد الجبار السحيمي هناك محنة يعكسها قلق شخصياته الدائم في كشفها عن البعد الخفي للواقع في الحكاية. والواقعية عنده ليست تقنية في التعبير، إنها رغبة في كتابة «قصة الشعور» التي يتجاور فيها الممكن مع المستحيل، والحضور مع الغياب، وضياع الحب بجوار مشاعر الكبت؛ وبعبارة واحدة تجاور الهموم اليومية مع التردي الاجتماعي. قال شاطوبريان ذات يوم هذه الحكمة: «الكاتب الأصيل ليس هو الذي لا يقلّد أحداً؛ بل هو الكاتب الذي لا يمكن أن يقلّده أحد». وعبد الجبار السحيمي واحد من هؤلاء... إحالات (1) أذكر على سبيل المثال بعض الأبحاث الجامعية لكل من: أحمد المديني: فن القصة القصيرة بالمغرب، نشأته وتطوّره واتجاهاته، دار العودة، بيروت، 1980 نجيب العوفي: مقاربة الواقع في القصة القصيرة المغربية، من التأسيس إلى التجنيس، المركز الثقافي العربي، 1987. عبد الرحيم مودن: الشكل القصصي في فن القصة بالمغرب، من بداية الأربعينيات إلى الستينيات، 1987. (2) عبد الجبار السحيمي: الممكن من المستحيل، مطبعة الرسالة، 1969. (3) عبد الجبار السحيمي، سيدة المرايا، دار الثقافة، 2007، وعليها تتمّ الإحالة في المتن. (4) أحمد اليبوري: تطوّر القصة في المغرب: مرحلة التأسيس، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب، 2005، ص 153. (5) نفسه: ص 160، 161. (6) نفسه: ص 161. (7) نفسه: ص 162. (8) وقد أعاد تقديم محتوى قراءته والتعليق عليه ضمن: تلقي القصة القصيرة، وقائع الأيام الثانية للقصة القصيرة، منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب 2002، ص 159- 165. (9) نفسه: ص 160- 161. (10) نفسه: ص 163. (11) نفسه: ص 165.