تسعى هذه المقاربة النقدية ، إلى مساءلة النصوص القصصية التي تتضمنها مجموعة ( دموع فراشة )،للقاص و الناقد حميد ركاطة. على مستويين.المستوى الأول يهتم بالحكاية باعتبارها المادة الخام التي تشكل موضوعات الكتابة السردية و مرجعياتها الواقعية. أما المستوى الثاني، فيعمل على تبيان الصياغة الفنية لهذه المادة الحكائية.والترابط بين الحكاية و السرد. الرحلة السيزيفية للبحث عن الحكاية. لعله من المهم بداية الإشارة الى التعدد الكتابي عند القاص حميد ركاطة. قاص متميز كما أنه يكتب المقالة النقدية. وإذا كانت هذه الإشار لا تقدم ما يسوغها هنا على نحو كاف، فإنها تفرض حضورها من خلال ما يشبه المقدمة التي عنونها الكاتب ب:( قبل الكتابة..كان الحكي)، ص: 5 . إنها بمثابة تصور نقدي للكتابة السردية.يبين فيها أهمية المادة الحكائية. وأهمية القارىء في الوقت نفسه.يقول الكاتب في الصفحة،5:( ونترك القرىء يصلبنا و حكاياتنا النازفة حتى الموت).مما يشي بأن المبدع حميد ركاطة يكتب عن وعي بأهمية مكونات العملية الإبداعية. في البدء كانت الحكاية. والحكاية غواية. تشدنا إليها. حكايات الجد و الجدة و كل شخص طاعن في السن. يقول السارد في قصة ( مذكرات طفل حزين ) في الصفحة 9 ( كانت جدتي تنبهني في حنق كلما غادرنا القرية (...) لكن جدي أجابني ...). وفي قصة (المهزوم) يقول :(كان الجد يحكي لحفيده عن انتصاراته العظيمة ) ص ، 66. وفي قصة ( أسطورة خنيفرية ) يقول السارد في الصفحة 67: ( كان الاب يحكي لابنه عن الاسد الذي كان يروع الغابة ووحيشها بزئيره...). هكذا يصبح الجد و الجدة والأب مصادر الحكاية . لكن حين نتحول من الحكاية إلى الكتابة تموت الحكاية. وفي موت الحكاية يتورط الكاتب. وفي تورطه هذا تتحول الحكاية من غواية تشد الكاتب و تغريه، إلى سراب لا حقيقة له. ليعيد البحث المتجدد عن الحكاية،فتتكرر عملية البحث الى ما لا نهاية . يقول السارد في الصفحة: 5( وقد أدركنا أن حبل غوايتهم قد لف حول العنق ). تموت الحكاية ولا يبقى سوى الفراغ ( لأن الحكاية ترفض التشظي داخل الخواء، وقد تحولت الفراغات الى سراب ندمن على إقتفاء أثره ) ص:5. لكن هذا الفراغ ( حسب الكاتب) يصبح ممتلأ فيما بعد.لأن مصادر الحكاية تتغير وتتنوع. الوقع المعيش بتحولاته وتغيراته. واقع ممسوخ ويعج بالمفارقات و التناقضات. هكذا يقدم لنا الكاتب حميد ركاطة، ارتطامات الشخوص بعضها ببعض. وارتطامها بواقع يعرف التحول. لكنه تحول ممتليء بالإنهيارات و الفراغ الوجودي. تحول الواقع وانهياراته: إذا اعتبرنا عنوان المجموعة دموع فراشة مفتاحا لنصوص هذه المجموعة ، فإن ذلك يتجلى في قصة دموع فراشة نفسها. قصة تهجس بما يعتمل الواقع من معوقات كابحة لاحلام فئة اجتماعية. يمكن القول بدون مبالغة ، بأن هذه القصة ، تحمل الرؤيا الفنية للقاص حميد ركاطة و للمجموعة القصصية برمتها. حيث عرفت حياة الإنسان تحولا عميقا. لكن نحو المسخ والإنهيار. يقول السارد في الصفحة 21 :( تذكرت كيف غير اللون الأحمر تاريخ البشرية ). على الرغم من أن القصة لا تقدم سوى صورة إمرأة تعمل في الحانة.تدمن على الإبتسامات و القبلات المزيفة التي توزعها على الزبناء. فهي مزيفة الصورة و الملامح كذلك.من كثرة المساحيق و الأصباغ( احمر شفاهها يرغمها على الاستمرار في الحفاظ على تزييف حقائقها .) ص: 21.تزييف مادي، يؤدي لا محالة الى زيف وجودي. إن أغلب قصص المجموعة تتمحور حول هذه القصة.وتدور في فلكها.خاصة القصص الثالية: قصة زوايا ( ص: 10)، قصة خارج السرب ( ص: 14)، قصة في مواجهة الصمت( ص: 17)، قصة برلمانيو الهامش( ص: 20)، قصة محارب متقاعد( ص: 22)، قصة أرخبيل( ص: 24)، قصة بائعة التفاح( ص: 28)، قصة زلة قاتلة ( ص: 32)،قصة التنين ( ص: 35)، قصة النصاب ( ص: 36)،قصة راعي البقر( ص:41). على الرغم من أن الحدث في هذه القصص القصيرة ، يبدو بسيطا، فإن هذه الأحداث البسيطة تنحرف عن مرجعيتها الواقعية أ و الحكائية الأصل. وتدخله في مرجعيات الذات ( الذوات) الإنسانية التي تكون شاهدا على هذا الحدث أو ما يرتبط به.إن الحدث في قصة ( برلمانيو الهامش) مثلا، عبارة عن حدث بسيط و مألوف عند الجميع، وهو المفارقة بين أهل الحل ( البرلمانيون)، و الشباب المعطل الذي ينتظر الحل. لكنه لا يجد سوى فرق التدخل السريع . لكن هذا الحدث الذي يبدو بسيطا، يحمل في أعماقه بعدا إنسانيا. يتجلى في إنهيار هؤلاء الشباب / المعطلين. إنهيارات على المستوى المادي و النفسي. وهي / القصة ترصد في الوقت نفسة، المفارقة الطبقية القائمة بين هؤلاء المسؤولين ( ممثلوا الأمة نائمون في أماكنهم)ص: 20. وبين المعطلين( أمام بوابة البرلمان كانوا ثلة من البسطاء يحتضرون،) ص: 20. هكذا يعيش الفرد انكسارات وهزائم. ليعيش معاناة مريرة بسبب ما تنتجه تلك المفارقة الكاوية بين الحلم و الواقع. بين ما هو كائن و ما يجب أن يكون. يسيطر الخراب الوجودي و الخواء الذاتي على أغلب قصص المجموعة.في قصة صاحبات السعادة ، يقول السارد:( خرجت نساء حيهن الملئ وجههن بالتجاعيد لمازرتهن، ولتعرض ما تبقى من إنسانيتهن بضاعة لتبديد الجوع و الكابة.) ص:19. في هذا الإطار، تلتقي قصة صاحبات السعادة بقصص أخرى. قصة : دموع فراشة. ص: 21 . قصة : المثقف . ص : 23. قصة : جراح غائره . ص . 26. قصة : كل شيء نسبي .ص: 29. قصة : العنكبوت . ص : 31. قصة : امرأة من زماننا. ص: 33. يصبح الإنسان في هذه النصوص القصصية، مطعونا في أحلامه الصغيرة. وشجرة يهددها الإجتثاث. وتشكل شخصياتها مظهرا من مظاهر الإحساس الفاجع بالفقد: فقدان الذات الأصلية في قصة ( دموع فراشة)، فقدان الإنسانية في قصة ( صاحبات السعادة)، فقدان الذات في قصة ( زلة قاتلة )، إلخ... تعكس ما يعانيه هذا الواقع من خراب على أكثر من مستوى قيمي. يفتك بإنسانية الإنسان. ويهدد بطغيان ما هو مادي استهلاكي( قصة دموع فراشة ،قصة كل شيء نسبي). وتغييب ما هو روحي. إن ارتطام شخصيات هذه النصوص القصصية بواقعها المدمر، يجعل منها نماذج إنسانية ممثلة لما يشيع في هذا الواقع من انهيارات ايلة بالضرورة الى استبداد الخراب بكل شيء. بدءا من الأحلام و الأمال الصغيرة الخاصة، وإنتهاءا بما هو جمعي معبر عن تصدع اليات الوعي في أكثر من مستوى: اجتماعي ، اقتصادي، سياسي وثقافي. حسب هذا التصور، فإن هذه هذه الشخصيات القصصية، عبارة عن صور تعلن عن انهيارات من نوع أخر. وهي انهيارات الإنسان أمام قسوة الحياة و تحولاتها (1). في قصص أخرى يعمل الكاتب حميد ركاطة ، على بناء تلك المفارقة الساخرة.مفارقة تشي كذلك بالتحول والإنهيار في الوقت نفسه. في قصة ( ندف من الحزن ) بين المرأ و الرجل. بين إمرأة بأعصاب متوترة و رجل متقل بالهموم . يقول السارد في الصفحة 11 :( كانت سيدة تبدد زمنها بالنظر من نافذة عبر منظار، إلى شقة مقابلة.).وفي المقابل نجد شخصية الرجل ( فبدا لها الرجل الذي ظل متمنعا على قبضتها طوال يوم كسيح...) ص: 11. والشيء نفسه نلمسه في القصص الثالية: قصة( شروخ) ص: 37، قصة ( الذئب و القبرة) ص: 39 ، قصة ( المخبر) ص: 40، قصة( راعي البقر) ص: 41، قصة (عرافة) ص: 43، قصة ( عاشق الوطن) ص: 79. قصة( الوجه و القناع) ص:80.قصص تعمل على تعرية دواخل الشخصيات. وكأنها تستهدف قصاصا من واقع محتشد بالمثالب و الخطايا.ولعلها تعمل ذلك تثمينا للانساني المضيع و المفقود. الإنساني المترع بالطهر، النقاء و الفضيلة.وهكذا تهزأ القصة( الفن عامة) بالواقع وتعيد تركيبه.من جديد. لكن وفق متتاليات من السخرية السوداء التي تمنح النص كنائيته وبعده الفني. في البحث عن السرد المفقود. نكاد نجزم بأن قصص مجموعة دموع فراشة تقدم نصوصا هجائية قاسية و ساخرة . لما يهمش قيم الحق و الخير و الجمال. لكن لا تقدم لنا ذلك على نحو مباشر.يكتفي برصد ما تقع عليه عين السارد / الكاتب. وما يثير قلقه. بل تعيد صياغته بما يوفر لها خصائص انتمائها الى جنس القصة القصيرة( القصة القصيرة جدا).إ، هذا التصور هو الذي جعلنا نعنون هذا المستوى ب: في البحث عن السرد المفقود. لأن اغلب نصوص هذه المرحلة. تعرف هيمنه جانب أو أخر. فقد تهيمن الحكاية ويغيب السرد. او يهيمن السرد و تغيب الحكاية. وكلاهما أمر غير مرغوب فيه . بحيث يجب أن يكون نوعا من التوازي بين السرد والحكاية في الوقت نفس. إن النوع الأدبي (يتعلق الأمرهنا بالقصة القصيرة)يكسب ديمومته من علاقة أصولية تعي الجوهر الفني كرؤيا تساهم في دينامية النص السردي. والتمازج داخل النص، يعمل على ايصال النص الى مستوى الإشراق والدروة الفنية. فالمادة الحكائية، تقدم من خلال رؤيا المغايرة الواقعية التي تكسبها إياه رؤيا الكاتب.حين ينفخ الروح ألإبداعية في تلك المادة الحكائية. ويمنحها صفات جديدة. لأن الأشياء واقعية كانت أم متخيلة ترتبط بشبكات لا متناهية من العلاقات الفعلية. فداخل كل شيء مادي، شيء اخر أكثر منه عمقا وحضورا. إن هذا ما نلمسه في قصص مجموعة (دموع فراشة) فقصة برلمانيو الهامش على سبيل المثال، تتضمن حدثا بسيطا على مستوى الحكاية. لكن الرؤيا الابداعية التي صيغت بها عميقة.والشيء نفسه نجده في قصة صاحبات السعادة بحيث تتضمن الحكاية حالة بائعات الهوى. لكن الرؤيا الإبداعية، صاغت ذلك بشكل وجودي درامي. أكسب النص ابعادا فنية ورؤى إنسانية. يتحول الحديث عن بائعات الهوى. يقول السارد في الصفحة 19:( وهن يتسكعن ليلا، كانت شوارع المدينة تعنفهن بقسوة.). إلى حالات وجودية ذات بعد إنساني( لتعرضن ما تبقى من إنسانيتهن بضاعة لتبديد الجوع.) ص: 19.إن النص القصصي في هذه المجموعة، يقدم المعطى الحكائي لا كما تكون عليه الأشياء، بل صورتها المتخيلة. حيث تكون هذه الأخيرة، الفاعل المستتر الذي يحيل إلى الإنطباع الوجودي الصرف. والذي من الممكن أن يستخلص قاريء النص من خلاله تلك الإضاءة الجمالية باعتبارها حقيقة معبرا عنها. هكذا اصبحت القصة اليوم تغرف من واقع الأشياء لاكتساب ديمومتها بالطرائق و الأساليب التي تجانب أية حالة من حالات الإنصهار في الكيان الواحد. لكن غياب هذا الإنصهار يؤدي الى الضعف الإبداعي.فهيمنة الحكاية يصيب النص بالجفاف الإبداعي.كما أن غياب الحكاية يجعل من النص مجرد كلمات جامدة و طلاسيم غير مفهومة. يصبح النص على إثر ذلك بمثابة نقل مادي إلى كلمات على الورق.لقد حقق القاص حميد ركاطة هذا التمازج و الإنصهار في أغلب قصص هذه المجموعة.فقد حاول استدراج الحكاية في أقصى تمنعها الى منطقة إشتغاله الخاصة.ليعيد تقديمها من خلال رؤياه الخاصة التي أعادت بناء الشخصيات، و الأحداث ومحاور النص الأخرى. فقدم ذلك البعد الخفي .أو اللامرئي حسب الباحث الايطالي موريس ميرلو بونتي. يشير هذا الأخير بأن( المرئي نفسه هو الذي يحتوي نوعا من اللامرئي )( 2 ).من هذا المنطلق، فالقاص يحاول سحب الحكاية الى أقصى حالات الطفرة الذهنية التي بموجبها تتأسس الذائقة وتصطبغ القصة بتلوينات العناصر المطلقة للمادة موضوع البناء الحكائي. لذا فاستنزاف طاقة الذهن وتوظيفها للمتن الحكائي أمر إلزامي. قصد تحديد الوجهة التي يصبو إليها القاص ( المبدع عامة).من هنا يعمل القاص على ربط التأمل باعتباره وظيفة المبدع بالمتن( المادة الحكائية). إّّذ يعمل على صياغتها وفق رؤياه الخاصة. هذه الأخيرة تمنحها ابعادا و دلالات. يقول رولان بارط/ (إذا ما ظهر تفصيل لا معنى له وغير متجانس، ومتمرد على كل وحدة سردية :R . barthes. فإنه لا يستطيع إعطاء معنى في القصة القصيرة ... كل شيء له معنى أو هو لا شيء...) ( 3 ). ففي قصة دموع فراشة باعتبارها مفتاح المجموعة ( كما أشرنا سلفا)، يقدم لنا السارد وعي الشخصية. باعتبارها موضوع النص القصصي في صورة ملموسة تعيش مجريات الحدث القصصي بكافة تفاصيله وانتماءاته. إن هذا لا يعني حقن المرئي / المتن الحكائي بالرؤيا الإبداعية وإنما تقشير ما يراه القاص / المبدع وصولا الى لب الأشياء باعتبارها حقائق مضمرة حان وقت ظهورها (4). حميد ركاطة، كاتب يكتب بنبض المعاناة.بنزيف الألم الدامي. رغبة منه في إكتشاف سر الخلل الذي يعتور الكون و العلاقات الإنسانية.أما نصوصه، فتنزع الأقنعة عن المستور. لتكشف العلل و المواجع و التشوهات الإنسانية. الهوامش. ° الصفحات المشار اليها في هذه المقاربة مأخودة من : حميد ركاطة ، دموع فراشة ( قصص قصيرة جدا)،ط 1، در التنوخي للطباعة و النشر ، الرباط ، 2010. (1) نضال الصالح، مرجعيات القص وتقنياته في ( ليلة المغول)، مجلة البيان ( الكويتية)،العدد 330، يناير 1998،ص: 108. (2) موريس ميرلو بونتي، المرئي و اللامرئي، ترجمة: سعاد محمد خضر، ص: 39. (3) رولان بارط. التحليل البنيوي للقصة القصيرة، ترجمة: نزار صبري ، الصفحة : 13. (4)قراءة في مجموعة ليلى العثمان ( حالة حب مجنونة)، هدى النعيمي، مجلة نزوى العمانية، العدد، 23، يوليو 2000، 224.