تعتبر المجموعة القصصية الموسومة ب" دموع فراشة " آخر ما أنتجه القاص المغربي حميد ركاطة، و هي صادرة عن دار التنوخي للطباعة و النشر. و عندما يطلع عليها القارئ ، يقف على مجموعة من العتبات الممهدة للدخول في فضاء القصص ، التي مجموعها 75 قصة مشكلة لعدد الصفحات التي وصلت إلى 106 صفحة . و أول عتبة تصادفنا عتبة الغلاف و العنوان ، فعند قراءة الغلاف سميائيا ، تصدمنا لقطة العين المنسدلة من السماء ، و هي تذرف دموعا غزيرة ، فاضت على إثرها بحيرة من الدموع المالحة ، التي تسببت فيها مجموعة من الأحداث الدرامية و المأساوية ، التي ساهمت في بلورة و إبداع هذه المجموعة القصصية . و الضحية فيها كائنات بشرية ضعيفة ، ترى بعينيها و تتألم بقلبها ، تتمزق أمام مرأى و مسمع من أصحاب القرار . تلك هي حال فئة عريضة من عامة الناس الذين يبحثون عن الحقيقة ، عن الخلاص ، لكنها في النهاية تحترق بمجرد الوصول إلى هذا البصيص من النور ، الذي ينبعث من هنا و من هنالك . إنها تحترق بمجرد الاقتراب من هذا المنفذ ، الذي تظنه الخلاص من أزماتها المتعددة و المتكررة ، وسط جو مظلم ملبد بالغيوم السوداء ، التي ينقشع منها بصيص من الأمل القادم من وراء صورة الغلاف ، من الأفق الذي يحيل إلى مدلول الانفراج ، و النظرة المتفائلة التي يؤمن بها القاص طيلة أحداث قصصه المختلفة و المتنوعة. لقد كانت الدموع هي المتنفس الوحيد ، أمام هذا الواقع المعيش المرير الذي تنتفي فيه كل قيم العدالة و المساواة ، هذه القيم التي تبقى في النهاية مجرد شعارات براقة ، يرفعها بعض من يدعي بتعددية الأصوات ، وسماع كل الأصوات ، سواء أكانت أصواتا متجانسة أم أصواتا متفاوتة و مختلفة. و العتبة الثانية التي تصدمنا هي عتبة العنوان ، الذي انتقاه القاص حميد ركاطة ، بنوع من الدقة و التمعن، بحيث إن العنوان عبارة عن جملة اسمية ، حذف منها المبتدأ وبقي الخبر( عيون) المضافة إلى أضعف كائن حي طبيعي و هو (فراشة) . لقد اهتم الكاتب بالخبر و هو " دموع " وهي دليل على سلسلة من المعاناة و القهر التي ساعدت على سيلان الدموع بهذه الغزارة ، ثم يتساءل القارئ ، دموع من ؟ دموع فراشة .. دموع أضعف مخلوق على وجه الأرض ، الذي يتحرك في الفضاء ، بنوع من الثقة العمياء ، وبنوع من العفوية و الغريزة الفطرية . لكنه لا يلبث أن يتعرض في أية لحظة لهجمات متعددة ، من أعداء كثيرين و متنوعين. و العنوان كذلك يتضمن مفارقة غريبة ، فقد استعار القاص الدموع من الإنسان ، ونسبها للفراشة ، التي لا تبكي بل أنسنها وجعلها كائنا بشريا يبكي مثلما يبكي الإنسان ، وهنا يمكننا من خلال هذا العنوان ، أن نكتفي بالخبر (دموع ) ، أو المضاف إليه (فراشة) ، لنأخذ فكرة محددة عن العنوان بل عن مضمون المجموعة القصصية . وعندما نفكك هذه القصص ، و نتمعن في تمفصلاتها اللغوية و الدلالية ، نلاحظ بأن القاص ، بنين اللغة القصصية ، أي جعل لها بنية خاصة بها . فاستخدم في أغلب النصوص ضمير الغائب ، حيث إن القارئ يشعر بأنه ملم بتفاصيل الأحداث ، وتفاصيل الشخصيات ،و تشعر و كأنه يسير هذه الأحداث ، وهذه الشخصيات بنظرة فوقية ، و أحيانا يغامر و يتسرب إلى الجانب النفساني الجواني ، من أجل تغيير رؤى الشخصيات المشكلة لهذه المجموعة القصصية ، بل تجده أحيانا ، عنصرا مشاركا في سير هذه الأحداث جنبا إلى جنب الشخصيات المساعدة.. و تنوع الضمائر يساعد على تنوع الأفعال ، فمرة يستخدم الأفعال الماضية ، التي تدل على انتهاء الحدث ( فتح الجريدة ، مسح ما بها من أخبار، ظل حائرا في فك أسرار البياض ، فتح ذاكرته ، وحاول تذكر لحظة منيرة ، فلفها السواد. بين الأبيض و الأسود ظل سنوات يبحث عن نفسه فأمطرت غيومه ذكريات قاتمة ، بلا كلمات) عتمة . و مرة يستخدم أفعال المضارعة التي تدل على زمن الحاضر ، و الدخول في المستقبل ، الذي ينهض بالجمل السردية ويحولها من حالتها السكونية إلى حالتها الحركية ، التي تخلق منها سردا مسرحيا في شكل سيناريو حواري ، داخلي و آخر خارجي .( الرجل الذي يجلس وحيدا في المقهى مخبر متقاعد ، تدين له المدينة برد الصنيع لإغراق السجون بأعز مناضليها) معطف كاكي . إن الزمن هنا يتحرك من المضارع ، بشكل سردي ليدخل إلى زمن المستقبل بأسلوب مسرحي حركي ، و كأن القاص يتحكم في زمن القصة ، محدثا نوعا آخر من الزمن هو الزمن النفسي ، أي زمن المعاناة و المأساة التي تمر منها نفسية كل واحد مسجل على قائمة المناضلين ، بل الذين يهمون بالنضال أو في نفسهم فكرة النضال . و تتحرك أفعال المضارعة و تتحرك معها طريقة الكتابة السردية ، من لغة القصة التي تجلب القارئ و تدفعه إلى متابعة القصص ، إلى السيناريو المسرحي الذي يصور الأشخاص ، و كأنهم أبطال مسرحيات أو أفلام صامتة ، تتحرك بتحرك الأحداث . فعندما يتحدث القاص عن المعطلين يصفهم بأسلوب حركي ، و كأنهم ممثلين جالسين على كراسي المقاهي ،مثل ذلك الرجل الذي صوره الكاتب و كأنه محكوم عليه بالمؤبد ، يقضي العقوبة السجنية على كرسي المقهى.( الرجل الذي يقضي ما تبقى من عقوبة النبذ على كرسي المقهى) معطف كاكي ويستمر السناريو المسرحي بفقدان حاسة البصر، و تعويضها بطريقة برايل في الكتابة ، (.. رغم فقدان بصره استعان بطريقة " برايل " ليخط آخر التقارير عن انتفاضة مزعومة ) من أجل الاستمرار في تقديم الوشاية الكاذبة ، التي تزج الناس في غياهب السجون. و هذه الضمائر المختلفة ، و المتنوعة ، تتنوع معها الأفعال ، وبتنوع الأفعال تتنوع الأصوات ، فمنها الذكورية و منها الإناثية ، و أحيانا نجد أن القاص حميد ركاطة ، يؤنسن الجماد ، فيجعله بطلا أساسيا ضمن قصصه ، عندما جعل من المرآة إحدى أبطاله الرئيسيين ( لقد أكدوا لي جميعا إنه وقف آخر مرة وراء المرآة...لكن لماذا أطلقت سراحه ؟ لأنه ارتكب الجريمة و أخفى الجثة بداخله . و المرآة هل اجتازت مرحلة الخطر ؟ لقد تركته يحدق فيها بخبث و خرجت ....) جريمة وهذه الشخصيات المؤثثة لفضاء المجموعة القصصية ، تتحرك بنوع من الحرية ، داخل ردهات القصص ، دون ذكر لأسماء محددة ، وكأن القاص قصد تنصيب أبطال دون أسماء ، إنهم أبطال مجهولو الهوية . ولعل السبب في ذلك البيئة المحافظة التي يعيش فيها الكاتب ، هذه البيئة التي تمنعه من الإفصاح صراحة عن أسماء أبطال قصصه .. إن أسلوب السرد المسرحي ، و حركية الأشخاص داخل القصص ، بشكل دينامي ، يشعر القارئ و كأنه أمام برميل بارود قابل للانفجار في أي وقت ، لما تجتره هذه الأشخاص من مرارة ، وحنق مما يعرفونه من قسوة الحياة و مرارتها . إنها شخصيات واعية ، لها رؤية موحدة إلى العالم ، رؤية تحمل صفة التناقض ، لكنها تنشد إلى تحقيق عالم منسجم ، متناغم ، عالم تنتشر فيه الفضيلة و القيم الإنسانية الفاضلة ، عالم يسمع أكثر مما يتكلم ، لأن قلوب الشخصيات مليئة بالأحزان ، و العيون مليئة بالدموع ، تخرج من اللواحظ و من المآقي . لكن الذي يمنعها من البوح و التعبير هو هذا الوعي الذي اكتسبه الأبطال من الواقع المعيش ، من ظروف و مآسي المجتمع. إن هذه الشخصيات بالرغم من حجب أسمائها فإنها متطورة ، تنمو وتتطور حسب طبيعة الأحداث ، وحسب ورودها في القصة ، وتشعر بهذه الأصوات عالية رغم أسلوب التكثيف و التضمين ، الذي تشترطه القصة القصيرة جدا . إنها بأسلوبها المسرحي تفجر الفضاء المكاني و الزماني ، بحيث إننا عند قراءة هذه القصص نشعر بتنوع الفضاء المكاني ، وهذا التنوع تفرضه طبيعة القصة ، بل أحيانا ، نجد بأن الأحداث تغطي المكان فتجمع بين أحداث القصة ومكانها . أما زمن القصة فيجمع بين زمنين ، زمن الوقائع ، أي الزمن الذي وقعت فيه أحداث القصص ، وزمن القص ،وهو الزمن الذي سرد فيه القاص هذه القصص . بل أكثر من هذا هو أن حميد ركاطة ، له السبق في ولوج وخوض غمار نوع جديد من الزمن نسميه بالزمن النفسي ، وذلك عندما يعبر عن نفسية بعض الشخصيات و هي تنتظر خبرا جديدا ، أو تسمع خبرا يحمل مفاجأة وغالبا ما تكون هذه المفاجآت ضارة ، تزيد من ارتفاع درجة التوتر النفسي ، فيبادر القاص إلى التقاط هذه التغيرات في ملامح شخصياته ، وانعكاس هذه النفسيات على سير أحداث القصص ، و كأننا أمام مشاهد مسرحية حركية ، تجمع بين السرد القصصي و السيناريو المسرحي ، في قالب جديد يمكن وسمه بالنص القصمسرحي: ( نظر إلى وجهها الوديع ، سألها : هل تحبينني ؟ قالت : طبعا يا عزيزي صمت قليلا ،ثم كرر نفس السؤال ، رمقته بنظرة خاطفة قلقة ، وسألته : هل تحبني ؟ غاب في صمته ، التفت إليها عابسا : لماذا هذا السؤال ؟ ألست زوجي ؟ غاصت في وجهه العبوس ، أثارت حيرته ، أوصدت كل النوافذ و الأبواب ، ثم همت خارجة ، سألها : إلى أين ؟ فقالت : هل فعلا أنا زوجتك؟) مجرد أسئلة إنه حوار يجمع بين زوج يتبادل لغة الحوار الواقعي و النفسي ، انتهى بطرح السؤال ، الذي يمتد من الزمن الماضي و يخترق الحاضر إلى المستقبل المظلم ، لدرجة أن المرأة أنهت حوارها حول مصداقية هذا الزواج الذي يظهر أنه زواج على الورق فقط. وهذا النوع الجديد من الزمن في " دموع فراشة " يدفعنا إلى سميأة الأشخاص ونقلها من درجة البطل الورقي ، إلى البطل الحسي ، الذي يشعر و يتألم و يتأمل . وهذا يساعدنا على كشف جانب آخر في قصص حميد ركاطة وهو ما يعرف بسميائيات الأهواء ، وهذه النظرية الجديدة تقول : بأن العلاقات الإنسانية ، بين أفراد الأسرة و العائلة ، يحن بعضها إلى بعض ، فتجد أن هناك دافعا يحثها إلى السؤال على الأحبة من خلال الدافع أو المحفز ، وهذا المحفز عند أبطال أغلب هذه القصص هو محفز الحب بمختلف أشكاله ، حب المرأة ، حب الوطن ، حب الماضي و الأمل في القادم الجميل ( ... و النهب الذي يمزق أوصال البلد " الحبيب " ) عاشق الوطن . و الجميل في قصص دموع فراشة ، هو حرص القاص على الربط بين السرد و الوصف الدقيق للشخصيات ، وذلك بربطها بواقعها المعيش ، مما يشعر القارئ بحقيقة الأحداث المؤلمة التي نقلها القاص أدبا . إنها شخصيات حقيقية تتحرك على بياض صفحات القصة ، لأنه من شدة حرصه على ذكر تفاصيل أبطاله بكل جزئياتها وخصوصياتها ، تشعر به و كأنه يحركهم على صفحات القصة ، كما يحرك الممثلين على خشبة المسرح ، أو على شاشة السينما . لقد استفاد حميد ركاطة في ذلك من تقنية الإخراج المسرحي ، فالأشخاص في هذه المجموعة القصصية ، لا يعتبرون أبطالا عاديين ، بل هم ممثلون يقدمون أدوارهم بنوع من الحرفية و الإتقان : (من أعلى المنبر ، كان الخطيب يحث الناس على محاربة الأعداء و نبذ الشقاق . لما جن الليل و أوى الجميع إلى أوكارهم ، كان وزمرته ينسفون أركانا قصية من المدينة.) النمر المقنع إنها بالفعل لقصة سينمائية ، أو مشهد مسرحي جميل ، وكأن القاص يحمل كامرا يلتقط بها مشهدا مروعا ، يبين انتفاء القيم الأخلاقية التي يدعو إليها كثير من الناس ، لكن في حلكة الظلام يخرجون خلسة ، و يرتكبون جرائهم المروعة في حق الوطن و المواطنين. ومن شدة اندماج القارئ مع أحداث القصص ، و مآسي الشخصيات ، يجد نفسه بطلا من أبطال القصص ، يساهم في إيجاد الحلول و المخارج المنغلقة ، بل أحيانا يجد القارئ نفسه يبحث عن القفلة ، التي تعودها في القصص القصيرة جدا . لأن كثيرا من قصص هذه المجموعة تنتهي نهاية مفتوحة ، يترك فيها القاص للقارئ ، حرية اختيار القفلة المناسبة ، وهذا أسلوب جديد في الكتابة القصصية الحداثية ، التي يلجؤ فيها القاص إلى توريط القارئ ، وجعله عنصرا مهما من عناصر القصة ، بل يساهم أحيانا في كتابتها من خلال جمع حروفها المتناثرة هنا وهناك ، مثلما نجد في قصة (ح ن ظ ل ة ) التي أدخلت القارئ في متاهات مقتل ناجي العلي ، بل دفعته للبحث عن الطريقة وعن الكيفية التي قتل بها ناجي العلي ، و من قتله ؟ ( و هو يتصفح الجريدة ، أثار انتباهه كاريكاتير فاضح ، طواها و ألقى بها جانبا ، تذكر ناجي ، و سعيد و الآخرين من قضوا مضجع الكبار ، و أضحكوا البسطاء من الناس ، وتركوا العالم حائرا في فك ألغاز الخطوط و الرسوم ، انتحب في صمت على موت الإبداع و رحيل المبدعين فجأة دون خبر يذكر أو حتى تعليق بسيط ينشر ....) ح ن ظ ل ة بهذا يكون القارئ حلقة أساسية في الكتابة القصصية في أسلوب حميد ركاطة ، لأن القارئ عندما يقرؤ القصة ، يتذوقها ثم يؤولها ، وبعد ذلك ينتج نصا قصصيا متخيلا من إبداعه ، يرقى من مستوى الخيال إلى مستوى التخيل ، الذي يمزج الواقع بالأدب من خلال أدبية العمل الأدبي وهذه الخاصية هي التي تميز الكاتب عن عامة الناس ، ففي قصة قراصنة التي تجمع بين القصة و المسرحية تأخذ القارئ إلى فضاء الأحداث ، وتجعله يتحرك مع تحركات الشخصيات ( انقطع التيار فجأة .....من خلف بوابة المنزل ، كان حارس العمارة يتلصص و يتصنت في حذر شديد ، في لحظة حاصرت دورية الشرطة المكان ، كسرت الباب و اقتحمت المنزل .) إن هذا النوع من الكتابة القصصية يذكرنا بالكتابة المسرحية الذهنية التي تأخذ مادتها من المشاهد الواقعية ، التي عاشها القاص أو عايشها ، نقلها من شكلها الواقعي الآلي إلى الشكل الأدبي ، الذي يرقى بمشاعر القراء و يدفعهم إلى البحث عن الحلول و البدائل الواقعية الممكنة. في النهاية تبقى دموع فراشة من حيث الشكل ، مجموعة قصصية تحترم خصائص كتابة القصة القصيرة جدا مع انزياح في اللغة القصصية ، من لغة السرد القصصي ، إلى لغة السيناريو و الحوار المسرحي ، نظرا لاهتمام القاص حميد ركاطة بالفن المسرحي ، فمرة يحترم اللغة القصصية ، ومرات يجد نفسه في أحضان أب الفنون ، يتجاذب معه أطراف الحديث ، وتتوسطهم القصة القصيرة جدا بطبيعتها الفضولية المشاغبة . ومن حيث الدلالة نكتشف من خلال قراءتنا المتمعنة لهذه المجموعة القصصية ، أننا أمام قاص من العيار الثقيل ، يحمل هما كبيرا ، قاص له رؤية إلى الواقع ، رؤية تنشد التغيير ، تغيير مجموعة من المظاهر السلبية التي تكبل المجتمع من التحليق عاليا . إننا أمام مثقف عضوي يدمع بغزارة ، و يحترق مثلما تحترق الفراشة حينما تبحث عن الحقيقة الغابرة في عتمة الظلام ، وغيوم الضباب ، مثقف عايش مرحلة من مراحل القهر وسنوات الرصاص ، فكان البطل الذي أنقذته الصدفة ، وعاش لينقل هذا الواقع ويسجله أدبا ليبقى شاهد عيان ، و مجموعته القصصية شهادة شاهدة على العصر .