الأزمي: لشكر "بغا يدخل للحكومة على ظهرنا" بدعوته لملتمس رقابة في مجلس النواب    أخبار الساحة    الدار البيضاء.. توقيف المتورط في ارتكاب جريمة الإيذاء العمدي عن طريق الدهس بالسيارة    تقديم «أنطولوجيا الزجل المغربي المعاصر» بالرباط    أجماع يعرض جديد حروفياته بمدينة خنيفرة        تقديم العروض لصفقات بنك المغرب.. الصيغة الإلكترونية إلزامية ابتداء من فاتح يناير 2025    أطباء القطاع العام يخوضون إضرابا وطنيا لثلاثة أيام مع أسبوع غضب    في الحاجة إلى تفكيك المفاهيم المؤسسة لأطروحة انفصال الصحراء -الجزء الثاني-    بووانو: حضور وفد "اسرائيلي" ل"الأممية الاشتراكية" بالمغرب "قلة حياء" واستفزاز غير مقبول        بمناسبة رأس السنة الأمازيغية.. جمهور العاصمة على موعد مع ليلة إيقاعات الأطلس المتوسط    فيديو "مريضة على نعش" يثير الاستياء في مواقع التواصل الاجتماعي    الكرملين يكشف حقيقة طلب أسماء الأسد الطلاق ومغادرة روسيا    المغرب-الاتحاد الأوروبي.. مرحلة مفصلية لشراكة استراتيجية مرجعية    الجزائريون يبحثون عن متنفس في أنحاء الغرب التونسي    نيسان تراهن على توحيد الجهود مع هوندا وميتسوبيشي    محمد صلاح: لا يوجد أي جديد بشأن مُستقبلي    تعيين مدرب نيجيري لتدريب الدفاع الحسني الجديدي لكرة الطائرة    سوس ماسة… اختيار 35 مشروعًا صغيرًا ومتوسطًا لدعم مشاريع ذكية    النفط يرتفع مدعوما بآمال تيسير السياسة النقدية الأمريكية    أسعار اللحوم الحمراء تحلق في السماء!    توقعات أحوال الطقس اليوم الإثنين    غضب في الجارة الجنوبية بعد توغل الجيش الجزائري داخل الأراضي الموريتانية    نادي قضاة المغرب…تعزيز استقلال القضاء ودعم النجاعة القضائية        بنما تطالب دونالد ترامب بالاحترام    "سونيك ذي هيدجهوغ 3" يتصدر ترتيب شباك التذاكر    تواشجات المدرسة.. الكتابة.. الأسرة/ الأب    تولي إيلون ماسك لمنصب سياسي يُثير شُبهة تضارب المصالح بالولايات المتحدة الأمريكية    أبرز توصيات المشاركين في المناظرة الوطنية للجهوية المتقدمة بطنجة    تنظيم كأس العالم 2030 رافعة قوية نحو المجد المغربي.. بقلم / / عبده حقي    شكاية ضد منتحل صفة يفرض إتاوات على تجار سوق الجملة بالبيضاء    تصنيف التنافسية المستدامة يضع المغرب على رأس دول المغرب العربي    إعلامية فرنسية تتعرض لتنمر الجزائريين بسبب ارتدائها القفطان المغربي    إدريس الروخ يكتب: الممثل والوضع الاعتباري    السلطات تمنع تنقل جماهير الجيش الملكي إلى تطوان    شركة Apple تضيف المغرب إلى خدمة "Look Around" في تطبيق آبل مابس.. نحو تحسين السياحة والتنقل    حكيم زياش يثير الجدل قبل الميركاتو.. الوجهة بين الخليج وأوروبا        الموساد يعلق على "خداع حزب الله"    اختتام أشغال الدورة ال10 العادية للجنة الفنية المعنية بالعدالة والشؤون القانونية واعتماد تقريرها من قبل وزراء العدل في الاتحاد الإفريقي    شركات الطيران ليست مستعدة للاستغناء عن "الكيروسين"    أنشيلوتي يشيد بأداء مبابي ضد إشبيلية:"أحيانًا أكون على حق وفترة تكيف مبابي مع ريال قد انتهت"    معهد "بروميثيوس" يدعو مندوبية التخطيط إلى تحديث البيانات المتعلقة بتنفيذ أهداف التنمية المستدامة على على منصتها    كيوسك الإثنين | إسبانيا تثمن عاليا جهود الملك محمد السادس من أجل الاستقرار    مواجهة نوبات الهلع .. استراتيجية الإلهاء ترافق الاستشفاء    إنقاذ مواطن فرنسي علق بحافة مقلع مهجور نواحي أكادير    خبير أمريكي يحذر من خطورة سماع دقات القلب أثناء وضع الأذن على الوسادة    لأول مرة بالناظور والجهة.. مركز الدكتور وعليت يحدث ثورة علاجية في أورام الغدة الدرقية وأمراض الغدد    دواء مضاد للوزن الزائد يعالج انقطاع التنفس أثناء النوم    أخطاء كنجهلوها..سلامة الأطفال والرضع أثناء نومهم في مقاعد السيارات (فيديو)    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



عبد الجبار السحيمي كاتب منافح عن الحرية
نشر في العلم يوم 10 - 05 - 2012

بحسه الصحفي العميق، وغيرته الوطنية الخالصة، أدرك عبد الجبار السحيمي منذ أن بدأ مشواره الصحفي والنضالي، أن الحرية، خاصة حرية التعبير، هي أساس كل تنمية وكل تقدم ينشده لوطنه العزيز. فاستل قلمه منافحاً عن الحرية في مقالاته وقصصه القصيرة التي كان ينشرها على صفحات جريدة " العلم" وملحقها العلم الثقافي.
في قصصه القصيرة الرائدة في أسلوبها وموضوعاتها، كان يختار شخوصه من بين أبناء الطبقة الفقيرة، من المهمشين والمستضعفين والمسحوقين، معبِّراً عن آلامهم ومعاناتهم وإخفاقاتهم وإحباطاتهم. فقصصه القصيرة فضاء يتحرّك فيه المقهورون أو المضطهدون أو المحرومون أو المخنوقة أصواتهم؛ فتصوِّر عالَمهم الداخليّ وترسم أحاسيسهم الأليمة، في لحظاتِ انكسارهم وحصارهم وانهيارهم. وعبد الجبار السحيمي لا يرمي بطوقِ نجاة إلى هؤلاء المساكين، ولا يضع أقدامهم على سبيل الخلاص، وإنّما يكتفي بوصف مأساتهم، فقصصه لم تُكتب لهم، بل كُتِبتْ لغيرهم من الميسورين والمترفين ورجال السلطة، من أجل تحسيسهم بأحوال أولئك المعوزين والبائسين، وهم يئنون تحت وطأة القلق المستبد والخوف الدائم، وينوءون تحت نير الاضطهاد، ويقاسون التعذيب الرهيب الذي يجعل أرواحهم تترنح على حافة الحياة، وتذوي على حدود الموت.
لا يمكن أن تدرس قصص السحيمي بمعزل عن شخص الكاتب وإنتاجه في الأجناس الأدبيّة الأخرى، وفي مقدِّمتها مقالاته اليوميّة؛ وقد جُمِعت بعض مقالات السحيمي ونُشِرت في كتابٍ عنوانه " بخط اليد" وهي كذلك تضج بالنضال من أجل الحرية.
عبد الجبار السحيمي كاتب ملتزم يؤمن بأنَّ النصَّ خطابٌ يعبِّر عن واقعٍ ثقافيٍّ وحضاريٍّ، ويرمي إلى إحداثِ تغيير في العقليّة والمواقف والتوجُّهات. ولهذا فإنّ تجربته القصصيّة تتجاوب مع الواقع الاجتماعيّ والسياسيّ المغربي والعربيّ في أزماته وتحوُّلاته الفكريّة الحادّة. ففي مجموعته القصصيّة الثانية " سيدة المرايا" كما في مجموعته الأولى " الممكن من المستحيل" التي تُعدُّ نقطةَ تحوّلٍ نوعيٍّ في تاريخ السرد المغربيّ، يعرض علينا شخصيّات اختارها بعناية من بين المضطهدين والمقهورين، ووضعها في مواقف سرديّة ملتهبة متفجّرة، وراح يطوّر أحداثة بحنكة ومهارة وصبر فائق، ليكسب تعاطف القارئ ويُنتِج الأثرَ المطلوب في نفسه. ومَن يُمعِن النظر في قصص مجموعة " سيدة المرايا" ، يتّضح له أنّها كُتبت في فترة الستينيّات والسبعينيّات، شأنها في ذلك شأن قصص مجموعته الأولى " الممكن من المستحيل "، فالمجموعتان تنتميان إلى الفترة الزمنيّة الحرجة ذاتها، وتتناولان الأوضاع الاجتماعيّة التي كانت سائدة آنذاك.
أوّل ما يلفت انتباهنا في هذه القصص أنّها تعالج موضوعةً واحدةً، يمكن تشخيصها بوضوح في كلِّ قصة، تلكم هي موضوعة (الحرِّيَّة).
لا يتناول الكاتبُ، في هذه القصص، (الحُرِّيَّةَ) من المنظور الدينيّ أو الفلسفيّ الذي يتساءل عن مدى حرّيّة الأفراد في ممارسة إرادتهم، أي ما إذا كانوا أحراراً في اختياراتهم، والتحكّم في أعمالهم في ضوء معارفهم وبمحض إرادتهم، لا طبقاً لما كُتِب أو قُدِّرَ عليهم سلفاً. فهذا النوع من الحُرِّيَّة ترفٌ لا يحلم به شخوص تلك القصص من المضطهدين والمقهورين. كما لا يعالج الكاتبُ موضوعةَ (الحُرِّيَّة) بمعناها الاجتماعيّ والسياسيّ الذي يتضمَّن حرِّيَّة الرأي، وحرِّيَّة الصحافة، وحرِّيَّة التجمُّع، وحرِّيَّة تأسيس الأحزاب وغيرها مما يطلق عليه اسم (الحريّات المدنيّة). فهذا ترفٌ آخر لا تحلم به شعوبنا، وإنّما تتمتَّع به تلك الشعوب التي قطعت شوطاً بعيداً في التقدُّم والمدنيّة. إنّما يتناول الكاتبُ موضوعةَ (الحرِّيَّة) في أبسط معانيها وأدنى مستوياتها، تلك هي حرِّيَّة الإنسان في الحركة والتنقُّل دون أن يخشى إكراهاً أو اضطهاداً أو سجناً. وهذا جزء ممّا يسمَّى ب (الحرّيات الطبيعيّة) التي يمارسها الإنسان بصورة تلقائيّة غريزيّة، بوصفه كائناً حيّاً تشكّل الحركةُ بالنسبة إليه ضرورةً بيولوجيّةً حتميّةً لازمةً لحياته وإنسانيّته. فوضعُ قيودٍ على حرّيّة حركة الإنسان مصادرةٌ لوجوده.
إنّ الكاتب يضع شخوص قصصه في سياقات اجتماعيّة وسياسية تحرمهم حتّى من التنقُّل بحرِّيَّة من منازلهم إلى مقرّات أعمالهم، دون أن يشلَّ حركتَهم الخوفُ ويجعلهم مثل جرذان ترتجف في جحورها المحاصرة بالقطط الهائجة، أو مثل سلاحف منكمشة في قواقعها أمام خطر داهم يهدّد حياتها ووجودها.
وينبغي أن نتذكّر أنّ أيَّ كاتبٍ في بلادٍ لا تسود فيها الحرِّيَّة، يصعب عليه أمران: الأوّل، الكتابة عن أيِّ موضوعٍ بحرِّيَّة، سواء أكان الموضوع فكريّاً أم اجتماعيّاً، والثاني، الكتابة عن الحرِّيَّة ذاتها بحرِّيَّة؛ لأنّ أعداء الحرِّيَّة هم القابضون على زمام الأمور المانعون لما لا يريدون. ولهذا، ولكي تحقّق موضوعةُ الحرِّيَّة ذاتَها في النصّ الأدبيّ في تلك البلاد، فإنّها تضع قيداً على حرِّيَّة الكاتب في التعبير من ناحية، وتطلق حرِّيَّة القارئ في التأويل من ناحية أخرى. فالكاتب لا يتناول هذه الموضوعة مباشرة ولا يقول كلَّ شيءٍ، بل يستخدم تقنيّات الحذف، والرمز، والتلميح، والإيحاء التي تتطلب أن يستخدم القارئ خياله في الإضافة إلى النصّ، وملء الفراغات، والتفسير، والتأويل. وبعبارة أخرى، إنّ موضوعة الحرِّيَّة التي اختارها عبد الجبار السحيمي أثّرت في بناء السرد وتقنياته، دون أن يتخلى الكاتب عن جرأته الأدبية وعزمه على كشف المستور.
ولعلَّ أمثلةً من قصصه تبيّن لنا بوضوحٍ تامٍ كيف أن موضوعة الحرية هي المحور الذي يدور حوله السرد كله:
في قصة " ما قبل الصحو وبعده"، كان السارد يسترخي فوق كرسي الحديقة، متعباً مهزوزاً، وهو يتصوّر عالَماً آخر يفترض أنّه سيكون أفضل من هذا العالَم الحالي، حين أحسّ فجأةً أنه مُراقَبٌ. وعلى الرغم من أنَّ الشخص الذي يراقبه من الخلف لا يحدّ من حركة سيره ولا يمنع تنقله، فإنّ السارد كان يشعر بأنَّ عينَين قاسيتَين تخترقان ظهره منذ خرج من البيت، وطيلة اليوم، في كلّ مكان. وحتّى عندما يلج المقهى هرباً من هذا الذي يلاحقه باستمرار، فإنّه لم يكُن يحسُّ بالرغبة في أن يشرب أيَّ شيء، لأنَّ وجود عينين تراقبانه بإلحاح يجعله منفعلاً، متشنجاً، خائفاً. فعندما "يراقبك أحد من وراء ظهركَ، هذا يعني أنك أصبحت غير قادر على أن تكون حُرّاً... " وأمسى كلُّ وجودك مصادراً.
وفي قصة " الرعب " تتعرض حرِّيَّة "سين" لخطرٍ جسيم. كان "سين" في أوّل الشارع حين أراد أن يدخّن سيجارة، ولكنّه يكتشف أنّ علبه الوقود التي في جيبه فارغة. يرفع عينيه ليطلب عودَ ثقاب من أحد المارة، فتصطدمان برجل شرطة. يتراجع " سين " إلى الوراء، ثم يستدير، ويندفع يجرى بأقصى طاقته، حتّى ييتمكن من تسلق جدار ويقفز إلى الجهة الأخرى. (لاحظ رمزيّة الجري والجهة الأخرى).
وفي قصّة " الفاركونيت" الشهيرة في الأدب العربي المعاصر، يوقظ هدير السيّارة سكّان العمارة. وفي إحدى شققها يرتجف هلعاً رجلٌ وزوجته وطفلهما. يطلّون من النافذة ليروا أربعة من ركاب السيّارة يترجّلون ويتوجهون نحو العمارة، في حين يبقى ثلاثة آخرون في السيّارة. تقول المرأة لزوجها إنّهم قادمون. ارتدِ ملابسكَ. وتقول بصوت مختنق: هل نضيء المصباح، فيقول زوجها: الأحسن ألا نفعل حتّى يطرقوا الباب. ويقول الطفل أنا خائف... ويخيّل لساكني العمارة أنّ أبوابهم كلَّها بدأ ينهال عليها الطرق ... ثم يسمعون بكاءً آتياً من فوق. فيقول الزوج لقد أخذوا جارنا في الطابق العلويّ، كان دوره هذه المرّة.
وفي قصّة " عفريت الدار"، يُعطي السيّد أمراً صارماً لِخَدَمه أن يتجمَّدوا في مكانهم، ثم يدخل غرفته، ويوصد الباب، ولا يظهر مرّة أُخرى ليعطي الأمر الذي يسمح لهم بالحركة. ويبقى الخدم يتساءلون ما إذا كان السيد ما زال في غرفته أم غادرها.
وفي قصّة " شاهد المدينة" يوجد أحمق في المدينة. وإذا كان عَقْلُ هذا الأحمق قد عُقِلَ فتوقّفَ عن التفكير السوي، فإنّ جسمه هو الآخر أصبح سجين مكان واحد في المدينة لا يغادره، فهو يقف طوال النهار ساكناً إلى جوار نخلةٍ على الرصيف المقابل للبناية المركزيّة للشرطة، ولا أحد يعرف ما الذي أذهب عقله ولماذا يقف هناك بلا حراك.
وفي قصّة "المُتّهم"، يحكم القاضي بالإعدام على شخص لا يحمل اسم المحكوم عليه بالإعدام طبقاً لمنطوق الحُكم. وعلى الرغم من أن أوراق التعريف الخاصّة بهذا المُتّهم تُثبتُ أنّ اسمه مخالف لاسمِ مَن حُكِمَ عليه بالإعدام، فإنّ رئيس المحكمة يُصرُّ على إدانته، لأنّ العدل، في مفهوم هذا الرئيس، يقتضي إيجاد متَّهمٍ ما لكلِ جريمةٍ تُقترَف.
وهكذا نرى أن قصص السحيمي تدور حول " الحرية" في أبسط صورها، تلكم هي الحرية الطبيعية: حرية الإنسان بوصفه كائناً حياً يحتاج إلى حركة وسكن وطعام.
إنها لخسارة فادحة ومحزن حقاً أن تفقد ساحتنا الأدبية العربية كاتباً يكاد يكون الوحيد الذي نذر قلمه لقضية الحرية ونافح عنها بشجاعة أدبية نادرة، وعزيمة لا تضاهى.(*)
(*) يُنظر كتاب: النور والعتمة: إشكالية الحرية في الأدب العربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.