بعد ثلاث سنوات على اندلاع ما سمي ب»الربيع العربي»، بات المشهد أكثر وضوحا: إذا كانت تونس استطاعت الخروج من عنق الزجاجة بصعوبة بالغة، فإن كل الدول التي خرجت فيها الحشود إلى الشوارع تصرخ عن بكرة أبيها: «الشعب يريد إسقاط النظام»... لم تسقط أنظمتها ولا هم يحزنون، بل الشعوب هي التي سقطت في مستنقع بلا قرار. لحسن حظ تونس أنها تمكنت من تفادي «قشور الموز» التي رميت تحت أرجلها. رغم اغتيال شكري والبراهمي وظهور السلفيين في جبل الشعانبي، استطاع التونسيون أن يتفادوا الأسوأ، وأخرجوا من المجلس التأسيسي دستورا محترما، حظي بتوافق عسير، في انتظار أن ينتخبوا رئيسا غير مؤقت وحكومة غير تكنقراطية... والعبرة بالخواتم. «الربيع العربي» تحول إلى «خريف إسلامي»، يهدد الحريات والمستقبل، وهاهو «الخريف الإسلامي» يتحول إلى «شتاء عسكري»، يمطر جثثا ودماء... دون الحديث عن ليبيا واليمن، المشهد يبدو كارثيا في سوريا ومصر، أكبر دولتين عربيتين. سوريا أصبحت مثل أفغانستان: كل «مجاهدي» العالم يتقاتلون على أرضها والسياسيون يحصون الجثث والغنائم في جنيف. «السلام» الذي كان ينعم به السوريون في بلادهم، تحول إلى «مؤتمر سلام» في سويسرا، وشكرا ل»الربيع العربي»! أما «الثورة المصرية» فلم تكن أكثر من «كاميرا خفية». «الثورة» التي أبهرت العالم، تبين في النهاية أنها مجرد «انقلاب عسكري» نفذه الجيش على الرئيس حسني مبارك كي لا يورّث الكرسي لابنه جمال، باختصار شديد. ما تبقى مجرد تفاصيل وحطب طاحونة. لقد استعمل الجيش المصري كل شيء كي يحافظ على السلطة: شباب الثورة و»الإخوان المسلمون» والرصاص الحي والمطاطي والأزهر الشريف والبابا تواضروس وحزب النور السلفي ووسائل الإعلام المنحطة وباسم يوسف وشيرين وإلهام شاهين ومحمد البرادعي وعلاء الأسواني... كل شيء وجده أمامه استعمله كي لا تسقط القبعة العسكرية على الأرض، وتضيع سلطة يحتكرها الجيش منذ أكثر من ستين عاما. أين من اعتصموا لأسابيع طويلة في «ميدان التحرير»؟ أين حركة «كفاية» وشباب السادس من أبريل وكلنا خالد سعيد؟ انتهوا منبوذين أو في السجن أو المنافى أو خلدوا إلى الصمت. طمطاوي وعنان والسيسي وفيالقهم أزاحوا «الريّس» العجوز، لأنه لم يسمع كلام عمر سليمان، وأصر على توريث الحكم لابنه جمال. استغلوا خروج الجماهير إلى الشارع، كي ينفذوا مخططهم ببراعة منقطعة النظير. حققوا مطلب الشعب بإسقاط حسني مبارك، عن طريق رفع أيديهم عن حماية منشآت الدولة، وإصدار بيانات تمجيدية إلى «شعب مصر العظيم»، وعندما عزل «الريس» العجوز وتحول كرسيه إلى سرير يتجول بين المحاكم وشاشات التلفزيون، وفي انتظار أن تهدأ العاصفة، تركوا «الإخوان المسلمين» يلعبون في مؤسسات الدولة، وعندما أصبح «الشعب» جاهزا للتظاهر ضد «الإخوان»، حان وقت إرجاع عقارب الساعة إلى الوراء: أعادوا محمد مرسي إلى سجنه و»جماعة الإخوان المسلمين» إلى السرية، ووضعوا البلد من جديد تحت «الجزمة» العسكرية، والمستقبل على فوهة بركان. الغريب أن الشعب المصري يبدو راضيا بالقسمة والنصيب. رغم مضي آلاف السنين، لم يستطع المصريون التخلي عن «عقدة الفراعنة». يفضلون ديكتاتورا على رئيس منتخب. بلد سوريالي يصفق لمن «يدعس» عليه بالحذاء، وإعلام لا يعرف إلا التحريض، ومثقفون يقفون في طابور طويل أمام ثكنة ويؤدون التحية العسكرية... هناك كثير من الأسئلة تطرح اليوم في مصر: هل قدر المصريين أن يختاروا بين اللحية والقبعة العسكرية؟ بين الأبيض أو الأسود؟ أين اختفى محمد البرادعي؟ العسكر يريدونه في السجن، لأنه لم يساعدهم في التنكيل بالإخوان، اكتفى بأن أسقط معهم البقرة ورفض أن يفصل لحمها أمام الملأ. البرادعي في فيينا، ومرسي في السجن ومبارك في الحكم أو تقريبا... أحيانا، تبدو الأحداث مثل «فيلم كوميدي» لم يسبق للسينما المصرية أن أنتجت مثله، وكنا سنموت بالضحك فعلا، لولا أن آلاف الأبرياء ماتوا بشكل مجاني في هذا الشريط الدموي الحزين !