أقدم مدير مدرسة في القاهرة على إبلاغ الشرطة عن تلميذ وُجدت معه «مسطرة» عليها شعار رابعة. وبالفعل، جاءت الشرطة إلى القسم الدراسي واعتقلت طفلا عمره 12 سنة، ولم تطلق سراحه حتى أمضى أياما عدة في ضيافة الشرطة، وخرج بكفالة قدرها 500 جنيه مصري... هذه الواقعة صورة تلخص آلاف الكلمات عن أوضاع مصر التي تودع سنة سوداء من تاريخها تحول فيها الربيع إلى خريف. بعد مرور ثلاث سنوات على ثورة 25 يناير.. ثورة أطاحت برأس النظام، حسني مبارك، فيما بقيت الدولة العميقة برئاسة الجيش تقاوم المد الديمقراطي، إلى أن نجحت في قيادة ثورة «مضادة» عن طريق انقلاب عسكري يوم 3 يونيو الماضي، أنهى عهد الرئيس المنتخب، محمد مرسي، وفتح الباب مشرعا لدكتاتورية عسكرية لم يشهد المصريون لها مثيلا حتى في زمن محمد علي... بعد ستة أشهر على الانقلاب الذي جرى تسويقه بغطاء شعبي وإعلامي وإقليمي، أصبحت الصورة واضحة اليوم. الجنرال السيسي لم يأت لإنقاذ الدولة المدنية من الحكم الديني، ولا ليخلص العلمانيين والليبراليين واليساريين والقوميين والشباب والمرأة من الحكم الثيوقراطي ومن استبداد رجال الدين بزعامة الإخوان المسلمين... الجنرال السيسي، ووراءه أو أمامه الدولة العميقة وإسرائيل ودول الخليج وفلول النظام السابق، جاء ليخلص هؤلاء من رأس الربيع العربي الذي أطل من صناديق الاقتراع في مصر وقبلها تونس، وهو مرشح للانتشار في دول عربية أخرى، ناقلا «وباء» صنذوق الاقتراع و«ميكروب» الحكم الديمقراطي... هذا الأسبوع حكم على قيادات حركة 6 أبريل الشبابية بالسجن ثلاث سنوات رغم أن هؤلاء كانوا رأس حربة في تحريك الشارع ضد حكم الإخوان، وأبدوا دعما لما يسمى بخارطة طريق المستقبل، لكن عندما خرجوا يحتجون ضد قانون تقييد التظاهر، وضد قوانين الدولة البوليسية لم يصبر العسكر عليهم، فاعتقلهم، وقدمهم إلى المحاكم التي صارت ملاحق للثكنات العسكرية في مصر هذه الأيام... أما تقارير المنظمات الحقوقية العالمية فلم تعد تذكر مصر إلا مقرونة بالدولة البوليسية، وهذه أكبر صفعة سياسية للذين توهموا أن السيسي جاء ليخلص «المحروسة» من أصحاب اللحى في سذاجة قل نظيرها في العالم. الإخوان ارتكبوا أخطاء في الحكم، نعم، وأخطاء كارثية فوق ذلك. الإخوان لم يقدروا جيدا قوة خصومهم، هذا صحيح. الإخوان يعرفون كيف يعارضون ولا يعرفون كيف يحكمون، هذا صحيح. الإخوان تصرفوا بسذاجة، مرة عندما وثقوا بالسلفيين وخضعوا لابتزازاتهم المتطرفة في الدستور وغير الدستور، ومرة عندما وثقوا في الجنرال السيسي الذي كان يشجعهم على التصلب أمام معارضيهم، وأوهمهم بأن الجيش وراءهم. نعم هذه حقائق وليست افتراضات. كل هذا لا يبرر الانقلاب العسكري الذي لم يكن سوى مقدمة لانطلاق مسلسل الثورات المضادة الذي أعقب ثورات الربيع العربي. أمام مصر طريق طويل للوصول إلى الديمقراطية. طريق سالت وستسال فيه دماء كثيرة، لكنها في الأخير ستصل، هكذا يعلمنا التاريخ الأوربي الحديث، حيث أعقبت ثورات الربيع الأوربي في القرن ال17 ثورات مضادة كثيرة، لكن في النهاية عبرت القارة العجوز إلى ضفة الحكم الديمقراطي ودولة الحق والقانون... 25 يناير تاريخ سيبقى محفورا في ذاكرة العالم العربي، لكنه تاريخ بداية الموجة الرابعة للديمقراطية، وليس تاريخ نهاية هذه الموجة. الثورات لا تحقق أهدافها في أسبوعين، إنه مسار معقد وشاق وفيه صعود وهبوط، لكن ربيع الشعوب اليوم هو خريف الاستبداد غدا ولو كره الكافرون بحرية الأوطان وإرادة الأمم.