نستغرب استمرار وفدي السلطة والمعارضة في التفاوض حتى الآن في جنيف رغم الفجوة الواسعة في مواقف الطرفين وعدم التوصل إلى نقطة اتفاق واحدة، سواء حول القضايا الإنسانية السهلة أو السياسية الأكثر تعقيدا. من الواضح أن استراتيجية الطرفين، والنظام خاصة، تقوم على عدم الانسحاب من المفاوضات والبقاء في صقيع جنيف حتى اللحظة الأخيرة، حتى لا يتحملا تبعات هذا الانسحاب أمام المجتمع الدولي. الوفد الرسمي السوري مرتاح للوجود في جنيف والبقاء تحت الأضواء واستغلال الفرصتين، الإعلامية والسياسية، المتاحتين له لطرح وجهة نظره، واللقاء بأجهزة الإعلام الدولية، ولأول مرة، بعد أن كانت هذه الأجهزة متاحة بالكامل، ودون منافسة، للمتحدثين المعارضين، ومن الائتلاف الوطني على وجه الخصوص. استراتيجية النظام التفاوضية تقوم بالدرجة الأولى على التركيز على «الإرهاب» باعتباره المعضلة الكبرى التي تواجه سورية وشعبها، لإدراكه أن هذا التركيز يجد صدى واسعا في الأوساط الغربية على وجه الخصوص؛ بينما يركز الوفد المعارض على المادتين السادسة والسابعة عشرة من إعلان مؤتمر جنيف الأول، أي الحل السياسي، وتشكيل هيئة حكم انتقالي بصلاحيات كاملة. السيد وليد المعلم تعامل مع وفد الائتلاف الوطني بازدراء كامل، فلم يشارك مطلقا في جولات الحوار المباشر، ولم يجلس معه في غرفة واحدة، وترك هذه المهمة لمن هم أقل أهمية من أعضاء الوفد، وكأنه يقول لهم لسنا على مستوى واحد، وأنتم لا تتمتعون بأي صفة تمثيلية على الأرض السورية. السيد الأخضر الإبراهيمي، الذي يدير هذه المفاوضات، وجد نفسه في موقع صعب للغاية، ليس فقط لأن الهوة واسعة جدا مثلما اعترف بذلك في مؤتمره الصحافي يوم الاثنين، والأخطر من ذلك أنها تزداد اتساعا، وإنما أيضا لأنه ارتكب خطأ كبيرا، في اعتقادي الشخصي، عندما انتقل بسرعة إلى القضية السياسية الأهم والأعقد، وهي نقل السلطة. وفد النظام يتعمد إحراج خصمه المقابل، من خلال محاولة جره إلى قضايا سياسية، خارج إطار بنود جنيف الأول، مثل التركيز على الصلاحيات المقدمة إليه في ما يتعلق بقضايا وقف إطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين في مدينة حمص وغيرها، والتقدم بإعلان مبادئ تحكم سير المفاوضات، ينص على قضايا غير خلافية وأساسية في نظرها، مثل رفض التدخل الخارجي ومكافحة الإرهاب والحفاظ على مؤسسات الدولة والإقرار بوحدة سورية وسلامة أراضيها واسترجاع الأراضي المغتصبة كافة. المتحدثون باسم الوفد السوري أكدوا دائما، وفي كل اللقاءات والمناسبات، أنهم لم يأتوا إلى جنيف لتسليم السلطة، وأن الشعب السوري هو الذي يقرر من يحكم سورية ومصير الرئيس بشار الأسد، وكأنهم يقولون هذه هي خطوطنا الحمراء، ومستعدون لبحث أي شيء آخر غيرها. لا نبالغ إذا قلنا إن مؤتمر جنيف 2 أو الجولة الأولى منه انتهت إلى الفشل، ولا نعرف ما إذا كانت ستكون هناك جولات أخرى أم لا، لكن ما نعرفه، بل وشبه متأكدين منه، أن اللقاءات التي من المتوقع أن تبدأ ستدور في الدائرة المفرغة نفسها. الوفد الرسمي السوري سيعود إلى دمشق مثقلا بالبضائع والمشتريات، وفي ذروة السعادة لأنه لم يقدم أي تنازل سياسي، ونجح أسلوبه المناور والمراوغ، ونجح أكثر في كسر العزلة الدولية عن نظامه، بينما سيعود الوفد المعارض إلى المنافي والعواصم التي تدعمه، وسيجد عاصفة غاضبة في انتظاره من الفصائل المقاتلة المتعددة على الأرض السورية التي أهدر بعضها دم أعضائه لجلوسهم مع النظام وممثليه والتفاوض معهم في جنيف. النقطة الإيجابية الأبرز التي يمكن التوقف عندها في المؤتمر بعد ما يقرب من أسبوع من انعقاده، تتمثل في بدء العملية التفاوضية وكسر الحاجز النفسي بين الجانبين وجلوسهما وجها لوجه، ولكن السؤال الأهم هو كم ستطول هذه العملية.. بضعة أشهر، بضع سنوات..؟ الله أعلم. الفصل الثاني من جنيف قد يكون مختلفا، ولا نستبعد توسيع قاعدة المشاركة، بحيث يتم ضم إيران، ورفع «الفيتو» السعودي المفروض عليها، وإضافة ممثلين آخرين لفصائل سورية معارضة على الأرض، سياسية وعسكرية، فما تريده أمريكا وروسيا، الدولتان الراعيتان لهذا المؤتمر، هو تشكيل تحالف بين النظام والجبهات المعتدلة في المعارضة لمحاربة الجماعات الإسلامية المتشددة، وربما لهذا السبب يركز الوفد الرسمي السوري على أنه لا يريد «ليبيا ثانية» على الأرض السورية. السؤال الذي يطرح نفسه وبقوة هو متى سيتم الوصول إلى هذا التحالف، وهل سيكون السيد أحمد الجربا رئيسا لوفد المعارضة السورية في اللقاء المقبل؟ نشك في ذلك؟