من الواضح أن قرار المحكمة الجنائية الدولية إصدار أمر باعتقال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه السابق يوآف غالانت يشكل انتصارا دبلوماسيا للفلسطينيين على صعيد الترافع القانوني في المحافل الدولية. صحيح أن تنفيذ هذا القرار قد يكون صعبا إن لم يكن مستحيلا أصلا، لكنه يمثل مع ذلك ضربة قاصمة لحكومة بنيامين نتنياهو على صعيد إدارة الجانب المتعلق بصورة إسرائيل وسمعتها الدولية. وفي هذا السياق من الضروري التذكير بأن إسرائيل خسرت تماما المعركة الإعلامية، ومعركة الشرعية في مواجهة المقاومة الفلسطينية. ولعلّ إصدار هذا الأمر بسبب تهم ارتكاب جرائم حرب، سيظل حتّى دون تنفيذه، سيفا مسلطا على رأس المسؤولَين الإسرائيليين. تمثل هذه المذكرة أيضا إدانة رسمية من أكبر هيئة قضائية دولية، سبق لها أن حاكمت مجرمي حرب اقترفوا جرائم ضد الإنسانية في البوسنة أو تشاد أو السودان. وهي كلّها ملفات شهدت تقديم متابعين كانوا مسؤولين عن أعمال إبادة أو جرائم ضد الإنسانية بعضهم أدين مباشرة وبعضهم غيابيا. هناك معارضة شديدة من الولاياتالمتحدةالأمريكية لقرار المحكمة الأخير ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية، ومن المتوقع أن يبادر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى فرض عقوبات ضد هذه المحكمة، لكن هذا أيضا يمثل جزء من الهزيمة الإعلامية والأخلاقية التي حصدتها الحكومة الإسرائيلية الحالية. فبعد أكثر من عام من الحرب لم تستطيع الرواية الإسرائيلية أن تصمد أمام الادعاءات القوية باقتراف هذه الجرائم. وتمثل هذه المذكرة التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية ورقة ضغط لا تقلّ أهمية عن الأوراق الأخرى التي توظفها المقاومة الفلسطينية ضد الحكومة الإسرائيلية. كما أنها تضرب مسمارا آخر في نعش المستقبل السياسي لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ولا سيّما على الصعيد الدولي. فحتّى الحلفاء الأوربيون والأميركيون الذين أعلنوا اليوم معارضتهم لهذا القرار، قد يجدون أنفسهم قريبا في مواجهة مع الرأي العالم المحلي، بسبب إصرارهم على مواصلة دعم الحكومة الإسرائيلية المتطرفة، والإسهام بطريقة غير مباشرة أو مباشرة في اقتراف جرائم حرب واضحة ومثبتة. لقد حاولت إسرائيل على مدار شهور أن تغطي على هذه الجرائم المقترفة بترويج رواية البادئ أظلم. لكن الرد غير المتناسب تماما مع ما قامت به حركة حماس يوم 7 أكتوبر، وضع حلفاء إسرائيل أيضا في موقف محرج، ولا سيّما بعد أن تبين أيضا أن الكثير من الجوانب المتعلقة برواية إسرائيل حول قطع رؤوس الرضّع واغتصاب النساء يوم 7 أكتوبر، كانت مجرد فبركات إعلامية لا أقلّ ولا أكثر. تبدو القوة القانونية لهذه المذكرة الدولية جد محدودة بالنظر إلى صعوبة تنفيذ عملية الاعتقال، لكن القوة السياسية والدبلوماسية واضحة ومؤكدة. وتؤكد أن معركة المستقبل أهم بكثير من المعركة الدائرة حاليا في قطاع غزة. بعبارة أوضح، من الصعب بعد أن صدرت هذه المذكرة أن تستطيع إسرائيل إقناع أيّ جهة بأنها غير ضالعة في اقتراف هذه الجرائم، التي ستعود إلى الواجهة طال الزمن أم قصر. وفي هذا السياق، وعلى الرغم من المكابرة الواضحة، فإن التأثير المحتمل لهذا الحدث على مسار المفاوضات والتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار، يبدو واردا جدا. فبعد أن أصبح بنيامين نتنياهو على قائمة المطلوبين للمحكمة الجنائية الدولية، أصبحت تحركات الجيش الإسرائيلي اليوم في غزة ولبنان قيد المراقبة الشديدة، ومتابعة الحقوقيين، وممثلي المنظمات الدولية، الذين يجمعون الأدلة على تورط هذا الجيش في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. ومن ثمّ فإن حكومة نتنياهو ستجد نفسها تحت ضغط جديد، وقيود نفسية تكبّل حركتها داخل القطاع. وتزيد هذه القيود أكثر مع استمرار حركة حماس في استعادة قوتها داخل القطاع، ومواصلة حرب الاستنزاف الطويلة الأمد ضد الجيش الإسرائيلي. ستحاول حكومة نتنياهو إظهار بعض التحدي لما صدر عن المحكمة الجنائية الدولية، لإرضاء الحلفاء المتطرفين مثل سموتريتش وبن غفير، لكن هذا لا ينفي أبدا، أن هذا القرار يمثل منعطفا جديدا في مسار الحرب الدائرة حاليا، ومن المتوقع أن يلقي بتداعياته المتوسطة والبعيدة على تماسك الحكومة الإسرائيلية، وقدرة رئيسها على الاستمرار في تجاهل نداءات عائلات الأسرى.