مشاكل المرأة لا يمكن حلها بصور شكلية وبمراكز الاستماع، وإنما يجب معالجتها ضمن القوالب الفكرية المؤطرة للهوية الاجتماعية جرت العادة أن يفتح للتداول موضوع المرأة في مثل هذا الوقت من كل سنة لعد المكاسب التي جناها المكون النسوي في محيطه ولاستشراف الآفاق المستقبلية لتسوية ما لم يدركه النضال في ما يشبه استراحة محارب يحصي المغانم ويعد العدة للنيل من العدو. وهذه الصورة المتكررة تعكس ثقافة كاملة تحتاج إلى وقفة أخرى، ليس من أجل تقويم الحصيلة، ولكن لتقويم الأداء. منطق الصراع فما يجب استحضاره في مقاربة هذا النوع من التعاطي مع القضية النسوية، إضافة إلى الإطار المرجعي للحركة والذي نشير إليه في هذه الورقة، هو الطريقة التي يتم من خلالها تبليغ مطالب المرأة، فإذا كان وضعها كما هو الحال يستدعي تكثيف الجهود واستعمال كل وسائل الضغط المتاحة من أجل تحقيق الأهداف المتوخاة، فإن منطق الصراع الذي يغلب على الحركة ونوع الخطاب الذي تروجه يشير إلى طرائق غريبة عن الخصوصية العربية والانتماء الثقافي. الصراع مغلف بلبوس غربي محض لم ينقل هموم المرأة الغربية وحاجتها إلى الانعتاق بل نقل صراعا فكريا كاملا، عاشه الانتقال الفكري والاجتماعي الغربي منذ أولى اصطداماته بالكنيسة والطبقة البرجوازية إلى حدود القرن ال19، وهكذا بدل أن تكون بادرة التحرر ذات ملامح عربية تبحث في العمق الثقافي والفكري المسؤولين عن وضعية التردي، نقلت هموم الفكر الليبرالي بحمولته التاريخية والثقافية ككل، وبدأت تبحث لها عن عدو مثيل في الرقعة العربية لإنجاح صورة الصراع كما شاهدتها في الغرب، وقد عبرت مجلة «الفتاة المصرية» وخرجات قاسم أمين وغيرهما بداية القرن العشرين عن هذه الصورة بالتمام والكمال. أما منطق المواجهة الذي غلب على الموجة الثانية بعد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فقد طبع بطابع اشتراكي راديكالي ناسب انتشار الفكر الاشتراكي والشيوعي في أوساط المثقفين الغربيين وخاصة الشباب، وخلال هذه المرحلة، عاش الوطن العربي، وضمنه المغرب، خطابا انبنى على مبدأ الصراع كما تتصوره هذه الإيديولوجيا، كرست النفس العدائي في الخطاب النسوي وتحولت الحركة من صفتها الاجتماعية، على اعتبار أنها جزء منه، إلى حركة نسوية تنظر إلى اختلاف النوع كمحور تدير حوله النزاع، وتنظر إلى الأنثى خارج السياق الاجتماعي كأنها كائن قائم بذاته متمركز حول نفسه، منفصل عن الرجل وفي صراع كوني معه. ولو كانت أغراض هذه الحركة التحرير باعتبار المرأة إنسانا وليس أنثى بعيدا عن الإيديولوجيا المستوردة، لتمكنا من إصلاح أعطاب عارضة سببتها قيود التخلف، ضمن واقع إنساني عربي مثقل بالأمراض والعيوب خلفته عصور الانحطاط والتخلف. الدليل المرجعي والخصوصية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا يعكس هموم الوطن العربي والإسلامي تماما، وإذا سلمنا بوجود قيمة رفع الضرر والقضاء على التمييز وغير ذلك من مطالب المساواة بالذكر، فإن النسق الناظم لتلك المطالب لا يمكن عزله عن موطنه الغربي الذي رعاه، حيث لن تخفى على المتفحص للمواثيق الدولية المنبثقة عن الإعلان تلك السمات ذات الأصول المادية الفارغة من كل اعتبار روحي افتقده الغرب منذ دعاوى أجست كونت ودوركايم وغيرهما قبل مئات السنين، هذا الذي لم يحصل في الدول العربية، حيث تسجل أعلى نسب التدين في العالم، وهذا الاعتبار يضاف إلى خصوصية النفسية العربية وطبيعة العلاقة التي تجمع الأسرة في الوطن العربي، والتي تكون فيها الأنثى أما أو أختا أو بنتا أو جدة أو ربما خالة أو عمة، ولن تعوزنا من المواثيق الدولية استشهادات تكشف الخواء الروحي لمضامينها، ويكفينا أن نذكر من ذلك: < مؤتمر بكين الذي أفرغ وظيفة الأمومة من فحواها الروحي، ونظر إلى علاقة الأم بالأبناء بعيون مادية صرفة عندما وصف دور الأم بكونه غير مريح وغير مدفوع الأجر، وفي ذلك إشارة إلى زاوية نظر مغايرة لهذه العلاقة، حيث يجب أن تقوم على التعاقد لا على التراحم، علاقة مادية تجعل من الأمومة وظيفة جافة كوظيفة المسكن. < تم إفراغ الشذوذ من مدلوله الذي يعتبره حالة غير طبيعية، وذلك بالتدليس في التسمية ليسهل إضفاء الشرعية على الزواج المثلي وليشترك في مدلوله مع العلاقة الطبيعية بين الذكر والأنثى في مؤسسة الزواج، فسميت أطراف العلاقة الجنسية -أيا كانت- باسم” شريك” حتى يتم إدخال كل علاقة جنسية غير سوية ضمنها. وخلاصة القول، كما يقول محمد ضريف، أنه منذ مؤتمر نيروبي 1985 أصبح الضغط على العوامل الداخلية للمجتمعات مطلوبا حتى تتغير وضعية المرأة طبقا للإيديولوجيات المعاصرة المؤسسة لحقوق الإنسان المعترف بها كقواسم حضارية مشتركة، بل كانت الإشارة مباشرة إلى المجتمعات ذات القوانين والعادات الإسلامية منذ 10 أبريل 1987، وهذه العادات والتشريعات والأخلاق والمبادئ التي تميز هذه المجتمعات الإسلامية هي التي تشكل الهوية الثقافية، وتشير إلى العمق التاريخي والإرث الحضاري الذي يجب أن ينقح ويهذب، لا أن يمحى ويذوب في ثقافة الآخرين وحضارتهم، فإذا كان الإسلام مسؤولا مباشرا عن وضعية الدونية والتهميش الذي لحق المرأة فلنحاكم النصوص المؤسسة: القرآن والسنة، وإذا كانت المسؤولية بشرية بسبب انحراف حاصل في فهم تلك النصوص أو إهمالها لننكر على هؤلاء ونرجع الوضع إلى السكة الصحيحة. والظاهر أن هذا الوعي جاء متأخرا، حيث انتقلت العلمانية في تبنيها لقضية المرأة من منطق الصدام الاجتماعي إلى الصدام الفكري، وهي بداية الخط الصحيح. الصراع المفتعل هذا والإصرار على مقابلة الانحراف الفكري والسلوكي في المجتمع بشراسة الدفاع طيلة قرن مضى أفقد مطلب التسوية المصداقية المطلوبة، فحيث كان الغرض من الحركة وضع المرأة في الموضع اللائق والطبيعي بحكم فطرتها الإنسانية غير الناقصة صار مدار الخطاب حول كونها أنثى، فأبدلت بذلك الصفة الإنسانية التي تجعل منها كائنا وظيفته الإعمار وموقعه المسؤولية الحضارية، إلى موضوع نوع ناقص يبحث عن تفاصيل الجسد الضائع ويصر على امتلاكه والتصرف فيه، واصطنعت هذه الحركة ورديفاتها نصرا زائفا لم يسترجع كرامتها الإنسانية الضائعة البتة، بل كرست وضعية الدونية التي طالما عانت منها، فبعدما كانت مجرد أنثى في البيت، صارت أنثى على رؤوس الأشهاد، على عتبات المحلات التجارية ومنتوجات التطهير، وعلى واجهات المجلات وظهور الجرائد، تنتهك حرماتها باسم الحرية وتباع كرامتها بدعوى الشجاعة والجرأة الخادعة، وضاعت بين هذه المكاسب ومكسب آخر اسمه اليوم العالمي للمرأة، يضعها إلى جانب اليوم العالمي للتدخين واليوم العالمي للبيئة واليوم العالمي للماء والسيدا، وأي مهزلة أجدر بالتحقير كتشييء الإنسان. مشكلتنا اليوم أننا أمة تستورد الألبسة والأطعمة والرفاهية وتستورد معها الثقافة والقيم، أما الفعل الإنساني فهو نسي منسي لا نرجوه من الخارج ولا نطلبه في الذات، وهو في الذات أصيل لكنه لم يمكّن من وسائل الإثبات والثبات، وما حجبه إلا الجمود والجحود وبعض ميولات التسلط والذكورية التي أساءت التعامل ردحا من الزمن إزاء القيم العليا المتجذرة في الثقافة المرجعية للمجتمع العربي والأمة الإسلامية، إلى جانب التشويش الفكري والتحديات الخارجية، وقد قال الشاعر من قبل: وهل يبلغ البنيان تمامه ^ إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم مشاكل المرأة لا يمكن حلها بصور شكلية وبمراكز الاستماع، وإنما يجب معالجتها ضمن القوالب الفكرية المؤطرة للهوية الاجتماعية، بإنشاء خلايا للتفكير في قضايا النساء لا تنكر الإسلام كمقوم أساسي لهذه الهوية. على المرأة أن تتحاشى صنع مكانتها بالصورة والقوام، فلم يكن المظهر يوما صانعا للإنسان، إنما تصنع الإنسانية بالفعل الإنساني، بالإنتاج الفكري وبالإبداع والفن وبالبذل والعطاء.