لم تفلح فرنسا، منذ تولي ساركوزي الرئاسة، في تكريس سياسة فاعلة ومؤثرة في الرقعة السياسية الدولية، وخاصة بمنطقة الشرق الأوسط التي لم تحقق بها أي اختراق دبلوماسي جدير بمكانتها ونفوذها الدوليين. وتخشى الأوساط السياسية والإعلامية أن تؤدي الارتماءة في أحضان أمريكا أو الانحياز المكشوف إلى سياستها إلى تهميش فرنسا سياسيا وتغييبها عن جوهر النزاع في الشرق الأوسط بأزماته الأربع: الفلسطينية واللبنانية والعراقية والإيرانية. دبلوماسية شاردة ضباب كثيف يلف التوجهات الحالية للدبلوماسية الفرنسية، ويطرح أكثر من علامة استفهام حول الخيارات الجديدة للرئيس نيكولا ساركوزي بين الإبقاء على الدبلوماسية العريقة والخطوط الثابتة المستمدة من مبادئ وقيم الثورة الفرنسية، أو كسر الجمود الذي يلف هذه الثوابت، وتكريس القطيعة التي وعد بها وأسند مهمة حمل لوائها في الخارج إلى الوزير الاشتراكي برنار كوشنير المعروف بتأييده للحرب على العراق وبتناغمه مع المحافظين الأمريكيين الذين خططوا وقادوا هذه الحرب. وبين الخيارين وتماطل الرئيس الفرنسي في الحسم، لا يملك المراقبون إلا أن يقروا بتراجع التأثير الدولي لفرنسا في أكثر من رقعة جغرافية.. في إفريقيا منطقة نفوذها القديمة في العهد الاستعماري، والتي أصبحت تغازل اليوم الولاياتالمتحدة والصين وغيرهما من الدول ذات الأطماع الاقتصادية والسياسية المختلفة، وفي أوروبا، حيث الاتحاد من أجل المتوسط، الذي أحدثه ساركوزي كبديل لمسلسل برشلونة، يعيش حالة جمود متواصلة، وفي الحلف الأطلسي حيث خيار الانضمام العسكري لم يحسم بعد، وكذلك، وهذا ما يهمنا في المقام الأول، في الشرق الأوسط الذي توجد فيه فرنسا في وضعية شاذة، حتى إن الكثير من الأوساط السياسية والإعلامية لا تتردد في التأكيد على أن الدبلوماسية العريقة لفرنسا في المنطقة بصدد تلقي ضربات موجعة في العهد الجديد. انحياز ومغازلة وتخشى ذات الأوساط أن يؤدي الانحياز إلى الدبلوماسية الأمريكية إلى تهميش فرنسا سياسيا وتغييبها عن جوهر النزاع في الشرق الأوسط بأزماته الأربع: الفلسطينية واللبنانية والعراقية والإيرانية. فحتى اليوم، لم يفلح وزير الخارجية برنار كوشنير، الذي كان يحظى بشعبية كبيرة في الأوساط الفرنسية وصنف على مدى أربع سنوات الشخصية المفضلة لدى الفرنسيين، في تكريس سياسة فاعلة ومؤثرة في الرقعة السياسية الدولية، وتحقيق اختراق دبلوماسي جدير بمكانة فرنسا ونفوذها الدوليين. ولا مجال للتذكير بأن كوشنير دشن شهره الثاني من تعيينه بانحياز مكشوف إلى السياسة الأمريكية، حينما أرعب الدنيا بالخطر الذي يتهدد العالم من امتلاك إيران للقنبلة النووية، داعيا إلى الاستعداد إلى الأسوأ، أي الدخول في حرب معها، قبل أن يفند هذه المزاعم تقرير مصالح الاستخبارات الأمريكية القائل بتوقف إيران عن أنشطتها النووية سنة 2003. وهكذا ربحت إدارة بوش بتصريحات كوشنير نقطا كانت تنقصها، وخسرت فرنسا موطئ قدم في المعادلة الإيرانية. ولأنه أدرك على التو خطأ مغازلته المفرطة للبيت الأبيض وما أعقبها من شجب واستياء، حاول كوشنير التقليل من أهمية تلك التصريحات التي «تم تحريفها وتأويلها بشكل خاطئ»، على حد قوله. كبوة ساركوزي وربما كان كوشنير يعتقد أنه بإيفاد مبعوث إلى غزة، في شخص الدبلوماسي المتقاعد أوبان لاموسوزيير، لربط اتصال مع حركة «حماس»، سيعيد إلى فرنسا موقعها في المعادلة الفلسطينية، والحال أن اتصالات مماثلة تمت في لبنان دون نتائج تذكر، حيث قام منذ تعيينه بزيارات مكوكية لبيروت، وأوفد إلى عين المكان وأيضا إلى دمشق وطهران مبعوثه، المسؤول عن الإدارة العامة للأمن الخارجي، جون كلود كوسيران، في محاولة لإقناع قادتها بأهمية التوصل إلى حل يمكن من تجنب حرب أهلية بين الفصائل اللبنانية. وقد خرج صفر اليدين يائسا لا يملك سوى هذه المقولة للتعبير عن عجز فرنسا في إيجاد مخرج للأزمة اللبنانية: «لم نحقق أي تقدم في الملف اللبناني، بل أنجزنا على العكس، خطوات إلى الوراء». وكانت فرنسا ستشد بخيوط المعادلة اللبنانية لولا كبوة ساركوزي لإرضاء واشنطن بقوله إن حزب الله جماعة إرهابية. والنتيجة : مقاطعة حزب الله لفرنسا وتراجع ساركوزي قبل أن يعض لسانه ويصدر بيانا يصبح فيه حزب الله بقدرة قادر «فاعلا سياسيا هاما». وهكذا تضيّع الدبلوماسية الفرنسية، ومعها ساركوزي، نقطة ارتكاز أساسية في لبنان، بعد أن أضاعت الورقة السورية إثر قرار الرئيس الفرنسي بوقف أي اتصال مع دمشق إلى أن تنخرط بصورة أكثر جدية في تسوية الأزمة اللبنانية. ربما انتبه ساركوزي، ولكن بعد فوات الأوان، إلى أن سوريا هي جوهر الحل في لبنان، وأن تهميش حزب الله ووضعه في خانة الجماعات الإرهابية لن يخدم في شيء المصالح الفرنسية بالمنطقة. فحزب الله لا ينتصب في المعادلة اللبنانية كفاعل سياسي مهم فقط، بل يشكل جوهر الحل اللبناني سياسيا أولا، بحكم نفوذه وشعبيته، ثم عسكريا بفعل ترسانته العسكرية التي مكنته من قصف المدن الإسرائيلية مباشرة، وهو أمر لم يقم به أي جيش عربي منذ حرب 1948. حصيلة باهتة وفي قراءة للحصيلة الدبلوماسية الفرنسية في لبنان، البلد المحوري في أي تحرك دبلوماسي فرنسي في الشرق الأوسط، يتجلى واضحا أنها لم تنجح منذ مجيء ساركوزي إلى سدة الحكم، في تحقيق أي اختراق سياسي، سواء تعلق الأمر بانتخاب الرئيس ميشيل سليمان الذي كان يحظى بنوع من التوافق، أو بتشكيل حكومة وحدة وطنية. وحتى المعلومات المرتبطة بتطورات الأزمة اللبنانية كانت على شحها لا تشفي غليل ساركوزي ووزير خارجيته، نظرا من جهة إلى الطوق الذي فرضته أوساط المعارضة اللبنانية على المعلومات باتجاه سفارتي فرنسا ببيروت ودمشق، وندرة تقارير الإدارة العامة للأمن الخارجي (الاستخبارات الخارجية) من جهة أخرى. وكان الدبلوماسيون الفرنسيون على اتصال دائم بصحفيين لبنانيين لمدهم بالمعلومات اللازمة، ولم تكن الاستخبارات الفرنسية هي الأخرى على علم بما تقوم به الإدارة الأمريكية من أجل التصدي لحزب الله بكافة الطرق، حتى وإن اقتضى الأمر إشعال فتيل مواجهة مسلحة بين السنيين والمسيحيين من جهة، والشيعة من جهة أخرى، قد تفضي في نهاية المطاف إلى تسوية سياسية. لا غالب ولا مغلوب والتسوية لن تأتي هذه المرة لا من فرنسا ولا من الولاياتالمتحدة، بل من دولة صغيرة الحجم لكنها أصبحت ذات ثقل هام في المنطقة اسمها قطر. وقد قام أميرها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، بدعم من الجامعة العربية، بوساطة ناجحة بالرغم من تحفظ بعض الدول العربية، حيث جمع في الدوحة مختلف الفصائل اللبنانية من أجل إيجاد مخرج نزيه ومشرف للجميع ضمن معادلة «لا غالب ولا مغلوب». والسر في نجاح هذه الوساطة أن أمير قطر بقدر ما يحظى بمصداقية كبيرة في المنطقة، فهو يقيم علاقات ممتازة مع الجميع، مع السوريين والإيرانيين وحزب الله وحركة حماس ومع الإسرائيليين أنفسهم. كما تجمعه روابط متينة مع الولاياتالمتحدة ومع فرنسا أيضا، إذا عرفنا أنه هو من قام بتمويل عملية تحرير الممرضات البلغاريات المحتجزات في ليبيا. وهكذا ظلت فرنسا على الهامش في المسألة اللبنانية التي حقق فيها كل من سبقوا اختراقا ملحوظا. وفي القضية الفلسطينية، منيت سياسة ساركوزي أيضا بالفشل لفرط انحيازه إلى إسرائيل. فلا مؤتمر المانحين بباريس، الذي لم يمنح للقضية الفلسطينية سوى الفتات مما تبقى في صناديق الاتحاد الأوربي الفارغة، ولا زياراته المتتالية للمنطقة من أجل وقف العدوان على غزة الذي لم يتوقف بطبيعة الحال إلا بعد عشرة أيام بطلب من واشنطن التي أعطت الإشارة ببدء المذبحة، ولا أيضا المقترح الذي أعده مع مصر لإقرار التهدئة، كل ذلك لم يفلح في إعطاء فرنسا نقطة ارتكاز في المنطقة بسبب تداخل مواقفها وافتقار الدبلوماسية الفرنسية إلى استراتيجية تكون فاعلة ومؤثرة في المعادلة الشرق-أوسطية. أنقرة جسم مزعج مصاعب أخرى تؤكد وضعية الشرود التي توجد عليها فرنسا في منطقة الشرق الأوسط، وتتمثل في كون ساركوزي المعارض الرئيسي لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي (لأنه لا يريد أن يمزج 70 مليون مسلم في النسيج الأوربي)، لا يحظى بشعبية كبيرة في أنقرة، التي لا تسمح حتى اليوم للطائرات الفرنسية العابرة بالمؤن والعسكريين إلى أفغانستان بالتحليق في أجوائها. وحينما بادرت إلى القيام بدور الوسيط في المفاوضات بين السوريين والإسرائيليين، امتنعت عن إبلاغ باريس بمحتوى هذه المفاوضات أو حتى بتفاصيلها. وفي الملف السوري الإسرائيلي، تعاني باريس أيضا من شح في المعلومات من الجانب التركي ومن الجانب الأمريكي أيضا الذي تتقن استخباراته فن التكتم، وخاصة على الشريك الفرنسي. وستبدي لنا الأيام ما إذا كان ساركوزي سيكون أكثر وداعة مع الأتراك الذي هم ليسوا على كل حال في وضعية شرود بالمنطقة. رضوخ لواشنطن وتتساءل الأوساط السياسية الفرنسية عما إذا كان في إعلان الرئيس نيكولا ساركوزي إرسال قوات إضافية إلى أفغانستان يدشن لعهد جديد من القطيعة مع السياسة الخارجية لأسلافه، أم إن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد مغازلة ظرفية للرئيس الأمريكي باراك أوباما، الذي أعلن قبل أسبوع عن عزمه إرسال 17 ألف جندي إضافي إلى أفغانستان. وقد اعتبرت المعارضة أن باريس بدأت تحذو حذو واشنطن وحلف شمال الأطلسي في قراراتها الدولية التي تمثل رضوخا لطلبات واشنطن، وأنها، كما قال بعض نواب الحزب الحاكم، تجنح باتجاه العودة الكاملة إلى القيادة العسكرية الموحدة للحلف التي تركتها فرنسا قبل ثلاثين عاما، في عهد رئاسة الجنرال ديغول. وقد قرر الرئيس ساركوزي، من دون سابق إعلان، إيفاد قوات فرنسية إضافية إلى أفغانستان، وهو قرار قوبل برفض أزيد من ثلثي الفرنسيين، حيث بين استطلاع للرأي أجرته في حينه مؤسسة (بي إف أ)، أن 68 في المائة من الفرنسيين يرفضون إرسال بلدهم مزيدا من القوات إلى أفغانستان، بينما أبدى 25 في المائة تأييدهم، ورفض 7% منهم الإعراب عن موقف بهذا الشأن. وفيما عبرت الصحف عن اندهاشها للقرار الذي اعتبرته ارتماءة غير مضمونة العواقب في أحضان واشنطن، أكد اليسار، على لسان الحزب الاشتراكي، أن زيادة القوات الفرنسية في الوقت الذي تغرق فيه القوات الموجودة في الرمال الأفغانية، هو «خطأ فادح»، بينما أصيب الحزب الشيوعي بما وصفه ب«الصدمة» من قرار ساركوزي، معللا رفضه إرسال قوات إضافية بالقول: «لا نعرف مخاطر الانزلاق ولا الضمانات الممكنة لحماية الجنود الفرنسيين». ولتبرير موقف ساركوزي، كشف وزير الخارجية برنار كوشنير، من جهته، أن رئيسه كتب إلى رؤساء الدول التي لديها قوات في أفغانستان لحثها على «تحديد رؤية استراتيجية للوضع الأفغاني»، حيث الوضع «لا يمكن أن يستمر على هذا المنوال، وأن ثمة حاجة إلى رؤية استراتيجية ورؤية سياسية». مجلس للدبلوماسية والأزمات وفي خضم تراجع الثقل الدبلوماسي الفرنسي في الشرق الأوسط وأيضا في إفريقيا ومناطق أخرى من العالم، يعتزم الرئيس ساركوزي إنشاء مجلس للأمن القومي على الطريقة الأمريكية، مرتبط مباشرة بمكتب الرئاسة. والمجلس الذي يعتبره ساركوزي الحلقة المفقودة بين أجهزة الاستخبارات والعمل الدبلوماسي، سيكون مرتبطا بالرئاسة كما في الولاياتالمتحدة وروسيا أيضا،و سيصبح «الهيئة الرئيسة للتحليل والمناقشة والتفكير في مجال الأمن والدفاع في الفترات العادية كما في الأزمات». وسيعقد المجلس اجتماعات منتظمة لإرساء السياسة الدفاعية والدولية والأمنية أو تحليل المعلومات التي تجمعها أجهزة الاستخبارات. كما سيعبأ في حالة الأزمات، مثل الأنشطة الإرهابية واحتجاز رهائن في الخارج ونزاعات تشارك فيها فرنسا وعمليات خارجية. وتوزع هذه المهام حاليا بين الخلية الدبلوماسية في الرئاسة وهي هيئة خاصة بالرئيس تضم عسكريين، والأمانة العامة للدفاع الوطني التي تتسم بتحفظ كبير وتضم 560 عنصرا و تخضع لسلطة الوزير الأول. وسيمر إنشاء هذا المجلس عبر تفكيك للأمانة العامة للدفاع الوطني وإعادة توزيع الأدوار داخل جهاز الدولة بحد ذاته والإليزي حيث ستتم إعادة تحديد مهام الخلية الدبلوماسية.