نتساءل عن السبب الذي يجعل العشق مسوغاً للاستسلام والانكسار وتحطيم ذات العاشق والخنوع والرضى بالتبعية العمياء لمعشوق من طينة البشر وليس نبيا ولا رسولاً في مختلف المجتمعات، وفي مختلف الظروف، قد تظهر هناك حاجة إلى صناعة الأسطورة بشكل جماعي. ولكن كم هذه الصناعة ونوعيتها يتباينان حسب المجتمعات والمراحل التاريخية. ويمكن أن نتساءل اليوم عما إذا كنا كمجتمع مغربي، ورغم وجودنا في القرن الواحد والعشرين، وارتفاع معدلات التمدرس وإيقاعات التحديث التقني، نحمل حاجة إلى إنتاج الأساطير بصورة متوالية وشديدة التواتر والتردد، حتى ولو كانت أساطير من طبيعة مغرقة في البدائية. ففي السنوات الثلاث الأخيرة على وجه الخصوص عشنا ظواهر أسطورية، أُتيحت للجميع فرصة تتبعها في الداخل والخارج، وتقوم هذه الظواهر عموماً على ثلاثة أسس: الأساس الأول هو الاعتقاد بوجود أشخاص استثنائيين بيننا قادرين على صنع المعجزات، بطرق لا يدركها العقل. الأساس الثاني هو انتظار حصول المعجزات، والاقتناع بأنها ستحل أعقد المشاكل وستغير وضعاً وتقوم عوجا وتصحح حالة وستفرج كربة وتزيل غما وتعالج عطلاً. الأساس الثالث هو الاستناد في التسليم باستثنائية الأشخاص وتحقق المعجزات إلى مستند ديني وتفسير مغترف من ثقافتنا الإسلامية. هناك في المغرب تصاعد في حركة التدين، وهذا في حد ذاته يمكن أن يكون عنصرا إيجابياً على طريق تجذير الاعتزاز بالهوية وإنماء حس الأخلاق والارتباط بالقيم المعنوية، إلا أن الأمر يفضي أحياناً بفعل عوامل متداخلة إلى جنوح نحو حقل الأساطير والخرافات باسم الدين، بينما هذا الجنوح ليس ضريبة إلزامية في كل اتساع للممارسة الدينية. فعلى مستوى الأساس الأول، تميزت السنوات الأخيرة بذيوع صيت رجال يقدمون أنفسهم، أو يقدمهم أتباعهم على أنهم قادرون على إتيان الخوارق، وفك أعقد المعادلات، وأنهم رجال مشمولون بالقداسة ومؤهلون لإنقاذ المغاربة، ولذلك يتعين أن يوضعوا في أرفع المراتب وأن تسبغ عليهم كل معاني المهابة والتبجيل والإكبار، فالله تعالى اصطفاهم وجعلهم فوق بقية بني البشر، ومنحهم بركات وكرامات تشفي من الأسقام والعلل وترشد الناس لما فيه صلاحهم وتحميهم من السقوط في مستنقع الضلال. لقد عشنا انبثاق نوع من المهدوية التي ترى في بعض الوجوه تشخيصا لحلول المهدي المنتظر، الفاتح لعهد جديد، والأحق بقيادة أمور الناس. وللإشارة فالأمر يتعلق دائماً بذكور وليس بإناث. ومن بين هذه الوجوه مثلا، هناك الشيخ عبد السلام ياسين المرشد العام لجماعة العدل والإحسان. فأصبح من العادي جداً أن نعثر في ما يُكتب عن الرجل من طرف جماعته أو مريديه أو حتى بعض الشباب غير المنتسب إلى الجماعة، على أفكار من قبيل أن شخصاً شاهد النبي (ص) وأمره بكتابة وصية لأتباع العدل والإحسان بأن الله هو من ولى خليفته وأن الويل لمن شك في ذلك. ونجد أيضاً دعوة صريحة إلى الامتثال المطلق بدون قيد في ما يشبه العبودية في قولة أحدهم» «وقفوا بباب الرجل، أي سيدي عبد السلام وعند بابه تُقضى الحوائج الكبرى، أتدرون ما معنى الوقوف بالباب معناه المحبة والأدب والاتباع والافتقار والذل والانكسار». ولا تجد لجنة الإعلام والاتصال في الجماعة أي حرج في ترويج مثل هذه الأقوال، ومن ذلك أن امرأة شاهدت النبي (ص) حاضراً مع أعضاء الجماعة ويوزع الثمر على المؤمنين والمؤمنات، وأن رجلاً شاهد «سيدي عبد السلام حفظه الله مع الشيخ أحمد ياسين ومع أولياء الله عز وجل بجانب الشهداء الذين تفوح رائحة دمهم الزكية والشيخ أحمد ياسين يمشي على قدميه. ونعثر على تصريح مسجل في شريط أيضاً يذهب صاحبه إلى أن شروط الخليفة قد اجتمعت كلها في الشيخ عبد السلام ياسين وهي «أن يكون عالما، ومربياً، ومجاهداً، وأن يكون من آل البيت، وأن يكون حافظاً لكتاب الله، وعالماً باللغة العربية، وأن يكون مبشراً، وأن يكون مجتهداً ومبعوثاً وأن يكون صاحب جماعة، وأن يكون له يقين في الخلافة يسعى لها سعيها». طبعاً، لا ننازع أحداً حقه في أن يعشق المرشد العام أو أن يؤمن برسالة الجماعة، ولا نستصغر دور الجماعة ولا ننكر حقها في الوجود والعمل، لكننا فقط نتساءل عن السبب الذي يجعل العشق مسوغاً للاستسلام والانكسار وتحطيم ذات العاشق والخنوع والرضى بالتبعية العمياء لمعشوق من طينة البشر وليس نبيا ولا رسولاً. وفي منطقة الصخيرات، صعد نجم رجل آخر يُدعى المكي الترابي كمعالج للأمراض بدون جراحة أو أدوية، وكان يُستقبل بالزغاريد والهتافات والناس تجري خلفه للظفر بلمسة من يده. وفي مداغ، ولد شيخ الطريقة البودشيشية المدعو حمزة عام 1922، وأصبح شيئا فشيئا يحظى بشعبية، وصلت إلى حد قيام عموم الناس من «فقراء الزاوية» بتقبيل يده والحرص على التبرك بلمس وسادته أو فراشه أو جزء من ثيابه وإطلاق أوصاف عليه كنا نعتقد أنها تخص الخلفاء والصحابة فقط، فهو «الإمام الهمام الفاضل العالم العامل الراسخ الواصل شيخ الطريقة ومنار الحقيقة الشريف القادري الحسيني سليل أهل الصلاح والولاية وسبط رجالات الجهاد والهداية سيدي أبو جمال الشيخ سيدي حمزة بن العباس بن المختار القادري بودشيش». وكتبت الصحافة تقول أن وفداً من سكان كلميم أتوا بيت الشيخ ومعهم هدية عبارة عن جمل، وهم يرددون «طلع البدر علينا...». وعلى مستوى الأساس الثاني المتعلق بانتظار حصول معجزات على يد هؤلاء الرجال الاستثنائيين، فإن الأمر هنا يتعلق بشيوع فكرة مؤداها أنهم يمتلكون حلولا سحرية للمشاكل، فتتدخل عوامل غير عادية وغير مألوفة للتغيير والتقويم. فبدون تخطيط عقلاني من النوع الذي تُحل به المشاكل عادة في عرف المجتمعات المتحضرة، وبدون استناد إلى العلم والعقل، نستطيع التماس طرق الخروج من الأزمات الفردية والجماعية. ونحيل هنا مثلاً إلى المشاهدات والرؤى التي زكاها الشيخ عبد السلام ياسين، وتبناها، والتي تنبأت بحصول الحدث العظيم والقومة الكبرى في 2006، حتى إن أحدهم رأى خريطة المغرب، وملَكا يكتب في أرجائها القرآن، وفي يده ميزان منصوب (أي شعار العدل والإحسان)». وعندما لم يتحقق شيء من ذلك، لم يضطرب سير الجماعة، ولم ترتفع من داخلها أصوات قوية للمطالبة بمراجعة منهج الجماعة وتقديم نقد ذاتي، وهذا معناه أن العوامل التي أنتجت رؤيا 2006 هي من الرسوخ والتجذر بحيث لا تتأثر بعدم تحقق الرؤيا، وأن المنزع اللاعقلاني متحكم في جسم الجماعة حتى الآن. أما «معجزة» المكي الترابي، فتمثلت في قدراته الخارقة على جلب النفع للناس ولكل من يقترب منه أو يسعى إلى تحصيل حصته من بركة المكي. فهو دائماً، حسب القصة التي يتم تسويقها عنه، كان يمثل فأل خير ومصدر يُمن على المحيطين به، فلما اشتغل مع والده في الزراعة، كان المحصول السنوي يفوق أربع أو خمس مرات محصول الجيران عن نفس المساحة المزروعة، كما كان المكي يملك القدرة على طرد الجن والأرواح الشريرة، وعلى معالجة المرضى بما في ذلك من أصيب منهم بالسيدا والسرطان، وشرع في نشاطه «الطبي» عام 2006 في جو من الإقبال الجماهيري المنقطع النظير، حتى إن مكان عمله تحول حسب الصحافة إلى «أكبر مزار للمرضى في تاريخ المغرب»، لكن الإقبال تراجع فيما بعد، وأصبح المكي يظهر ويختفي متذرعاً بالسفر إلى الخارج أو الانشغال بمعالجة «حالات خاصة» وانتهت الأسطورة أو كادت. وفي ما يخص «معجزة» الشيخ حمزة، فتمثلت في قدرته على منح من يتصل به راحة نفسية ومساندة روحية، وعوناً على التماس طريق الصلاح والرشاد والسعادة، دونما حاجة إلى جلسات للتطبيب النفسي. وهناك شهادات منشورة لأشخاص يعتبرون أن زيارات الشيخ لعبت دوراً في تغيير مسار حياتهم وجعلت أبواب الأمل والأمان والنعم تنفتح أمامهم! وعلى مستوى الأساس الثالث المتعلق بالتسويغ الديني لهذه الظواهر الأسطورية، فإن الشيخ عبد السلام ياسين وجماعته يعتبران منظورهما في شموليته، يمثل سيراً على منهاج النبوة واهتداء بأحكام القرآن الكريم، وينطلقان من أن الإيمان بالغيب والمشاهدات والرؤى -بالطريقة المعتمدة لدى الجماعة- يمثل أساساً مكينا للإسلام. كما أن المكي الترابي ألبس طقوسه رداء دينياً، ففضلاً عن أصوات التكبير والصلاة على النبي التي كانت تتعالى لدى ظهوره، فإنه هو نفسه كان يزعم أنه أمضى 13 عاماً لا يخرج من بيته، مستغرقاً في الصلاة والعبادة، وأن الله وهبه قوة ليحارب بها الجن، وأنه ولي من أولياء الله الصالحين «أينما وضع يده، كيجيب الله التيسير»، وأن «الولي هو من يعطيه الله بركة ليداوي بها الناس، وهو من لا يفعل المعاصي، وهو رجل صالح منحه الله قوة دون الناس أجمعين، وسخرها لخدمة عباده من خلالها، وهو وسيط بين الله وعباده!». وهذا الخطاب ذاته هو المعتمد أيضاً في حديث ظاهرة الشيخ حمزة عن نفسها، فهذا الأخير إذن يحوز بركة من النوع الذي يمنحه الله لفصيلة خاصة من عباده الأتقياء الذين يستطيعون ضمان انتفاع الناس بتلك البركة. فلماذا تواترت مثل هذه الظواهر في مغرب اليوم، واخترقت حياة الناس الصحية والدينية والنفسية والسياسية؟ ولماذا وجدت صدى لدى فئات مختلفة من حيث الأعمار والطبقات والمناطق، حتى وصلت إلى مئات الآلاف من المغاربة؟ فأتباع الشيخ ياسين والمتعاطفون معه يقدرون ربما بمئات الآلاف، والمكي الترابي كان يستقبل المئات بل الآلاف يوميا، والشيخ حمزة كان يجمع حوله بمناسبة احتفالات الزاوية أكثر من مائة ألف شخص في يوم واحد. هل هناك خيط رابط بين كل هذه الحالات؟ وما الذي يجعل أسطورة تختفي لتنبعث أخرى؟ وكيف نشأ هذا الاستعداد الغريب لصناعة أساطير وتصديقها بكل هذه السهولة، وعدم مراجعة الذات بعد ثبوت أننا كنا فقط بصدد أسطورة ليس إلا؟ لماذا غابت لدينا ثقة الإنسان المغربي في ذاته وعقله إلى هذا الحد، فقبل تقديس وتأليه الأشخاص وتصديق الرؤى واللجوء إلى الشعوذة. هل يتعلق الأمر بمأزق الحداثة التي يظهر أن قطاعا واسعا منا يحتفظ منها بالقشور، بينما النواة شيء آخر؟ كيف نتقبل خطاب الأساطير في زمن ازدادت فيه نسبة المتعلمين فينا وحقق العلم والتكنولوجيا خطوات جبارة على طريق سد مختلف حاجات الإنسان؟ هل لذلك علاقة باتساع نفوذ الحركات الأصولية في عالمنا العربي الإسلامي، أم بانتشار التشيع (المهدوية وعصمة الإمام..)، أم بغياب الحسن الثاني الذي نجح في خلق أسطورة كبرى حول شخصه؟ هل هذه الظواهر كانت دائما موجودة ومنحتها وسائل الإعلام اليوم حجما أكبر من الماضي؟ هل تكالبت المشاكل على المغربي من كل جانب، وعجز عن حلها، وقدر أنها من التعقيد والاستعصاء بحيث لا بد من وصفة أو وصفات سحرية لمواجهتها؟ هل نعيش عواقب استقالة المثقفين وضمور دورهم في التنوير، أم نعيش آثار اختلالات عميقة في النظام التربوي أو النظام الاجتماعي أو النظام السياسي أو النظام الاقتصادي (اعتماد الربح السريع ولو باستغفال الناس)؟ هل مجتمعنا في أزمة؟ هل هي أزمة أفراد أم أزمة عامة؟ هل هناك شعور بأن مسالك الحلول الطبيعية انسدت بالكامل، وأن كل المحكيات الكبرى والمشاريع المجتمعية الكبرى التي أطرت التفكير الجماعي قد فشلت؟ هل العولمة وحدها مسؤولة عن حركة الانغلاق والهروب إلى الأسطورة في غياب القدرة على مواجهة التحدي العولمي؟ إن الأسطورة قد تُصنع أو توظف من طرف جهة عقلانية، تعي ما تفعله، وقد تلعب بواسطة ذلك أدواراً اجتماعية أو دينية أو سياسية إيجابية أحياناً، لكن هذا المسلك خطير وبعيد عن النزاهة ولا مسؤول. وكيفما كان الحال فإن استطابة الأسطورة وتقبلها يطرح سؤالا جوهريا عن طبيعة الخصاص أو الحاجة التي أشبعتها الأسطورة وجعلت المتلقي يصل إلى حد معاداة العلم والعقل والمنطق، ويفقد ثقته بنفسه وبحقه في الكرامة.