المافيا نشأت لأن الدولة لم تكن عادلة، ومن شاهد أفلام المافيا أو قرأ الروايات التي تتطرق لهذا العالم المثير لتأكد من شيء واحد فقط، وهو أن الناس عندما يضيق بهم ظلم الدولة وأجهزتها، فإنهم يبحثون عن بديل، وهذا البديل هو خلق عالم خاص يشبه الدولة المصغرة، أي تنظيم مسلح له زعيمه وجيشه وشعبه، والناس فيه يدينون بالولاء المطلق لزعيمهم الذي لا يتردد في الدفاع عنهم بمختلف الوسائل. في رواية «العراب» للكاتب الإيطالي ماريو بوتزو، التي تحولت إلى فيلم شهير من ثلاثة أجزاء، هناك تصوير ملفت لكيفية نشوء المافيا من لا شيء وامتدادها حتى تصبح دولة داخل الدولة. في البداية جاء طفل إيطالي فقير اسمه فيتو كورليوني إلى نيويورك على متن سفينة مثقلة بالمهاجرين قادما من جزيرة صقلية حيث قتل والده على يد المافيا المحلية بداية القرن العشرين. في نيويورك قاسى الطفل الجوع والحرمان والمرض، ثم جعلته الظروف يسرق زربيّة لكي يمشي فوقها طفله الرضيع الذي كان يبكي كثيرا بسبب البرد، ثم ارتكب أول جريمة له عندما ضاق ذرعا بتصرفات زعيم مافيا صغيرة مختصة في الابتزاز. ومنذ تلك اللحظة كسب الرجل الكثير من الهيبة والاحترام، وكبرت شبكته حتى أصبحت أخطبوطا ممتد الأطراف داخل أجهزة القضاء والجيش والشرطة والاقتصاد والبنوك. وبعد أن ظل كورليوني يحتكر في بداية حياته المافيوزية استيراد وتوزيع زيت الزيتون، أصبح بعد ذلك يتحكم في شبكات الفنادق والمطاعم والمتاجر ودور القمار وكل شيء تقريبا. كان كورليوني الزعيم المطلق الذي يدين له أتباعه بالولاء المطلق، وكل من تشتم خيانته يصفى فورا. أقسى جريمة داخل المافيا هي الخيانة. لكن في فيلم العراب، هناك ظاهرة ملفتة وهي طابع القدسية التي تتمتع بها الأسرة لأنها أكثر أهمية من المافيا، وكورليوني لم يخن زوجته أبدا، وهي كانت ربة بيت ممتازة وحكيمة، وأولاده تلقوا تعليما راقيا أو دخلوا صفوف الجيش وكافحوا من أجل بناء حياتهم، أي أن المافيا التقليدية لا تعلم أبناءها الفشوش أبدا، عكس التنظيمات العشوائية المختصة في النهب والاختلاس والابتزاز. ما يميز المافيا التقليدية إذن هو ذلك الترابط القوي والرمزي بين الشبكة ككل وبين الأسرة المشكلة من الأب والأم والأبناء، وأفراد التنظيم يوصفون بأنهم «رجال كلمة وشرف»، ويلتزمون حد الموت بقانون الصمت من أجل عدم توريط أو فضح باقي أفراد الشبكة. لكن المافيا التي يفترض أنها نشأت لتحمي المستضعفين من بطش الدولة تتحول هي بدورها مع مرور الزمن إلى دولة أخرى تبطش بأتباعها وتبتزهم، وتكثر بذلك الصراعات وتصفية الحسابات، وتتشقق الشبكة الواحدة إلى شبكات كثيرة، تماما كما تحدث الانشقاقات في دولة واحدة أو داخل الحزب الواحد. في هذه الحالة، أي عندما تغدر المافيا «بشعبها»، يعود الناس إلى أصلهم الأول، يعودون إلى أسرتهم الصغيرة التي تستعصي على الخيانة. الأسرة هي أصل العالم، ومنها البدء وإليها المنتهى.