تنشغل الساحة السياسية المغربية حاليا بحدث إعلان أجهزة الدولة عن اكتشاف وتفكيك شبكة إرهابية خطيرة تنسب زعامتها إلى مواطن مغربي له جنسية بلجيكية اسمه عبد القادر بلعيرج. ويفرض علينا ربما هذا الحدث الجديد أن ندلي بثلاث ملاحظات أولية: -الأولى، هي أن العالم يشهد اليوم قيام تيار أصولي إسلامي عالمي ذي تلاوين مختلفة بخوض حرب «مقدسة» ضد بعض أوجه الظلم كالعدوان الأمريكي والإسرائيلي واحتلال أراضي الغير بالقوة، أو ضد ما يعتبره هذا التيار ظلما دون أن يكون كذلك كوجود بعض مؤسسات الديمقراطية والحداثة. وبما أنه لا تكليف بمستحيل، فإننا لا نطالب حكامنا بتغيير خارطة العالم لتحجيم حالة الشعور بالظلم والاضطهاد في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، بل نطالبهم بتوفير الحد الأدنى من الإصلاحات والشروط التي تقلل حظوظ التيار المذكور في العثور على مناصرين وأعضاء. فظروف القهر والحرمان والجهل والتفاوتات وتبعية الحكام وانحباس مسالك التعبير السلمي تعد التربة الملائمة لانسياق عدد من شباب مجتمعاتنا مع الوسائل الدموية لجماعات يعتقدون أنها قادرة على إعادة الاعتبار إلى هوية الأمة وكرامتها وإحراز نصر مكين ضد قوى الظلم والعدوان. وبناء عليه، فإن ظهور خلايا أو مجموعات أو أفراد يقررون اللجوء إلى ممارسة العنف والقيام بتفجيرات انتحارية أو هجمات مسلحة بالمغرب، أمر وارد تماما بحكم عناصر ومفردات السياق العالمي والمحلي. -الثانية، هي أن المغرب يشهد منذ قرابة عقد من الزمن مسلسل حدث أمني متصاعد ومهيمن، تمثله اكتشافات وتفكيكات متلاحقة لبؤر وخلايا وتنظيمات إرهابية تحمل في كل مرة اسما جديدا حتى طالت قائمة التسميات. ويبدو أن هذا المسلسل يريد أن يسير في الطريق بكامل الحرية كما لو أنه يشغلها لوحده، ولا يحفل بأي شيء آخر، فرغم الأعراض الجانبية القاسية والمؤلمة وبعض «حوادث السير»، فإن الانطلاق من شرعية الأهداف المفترضة يجعل البعض يطالبنا بالتسليم المسبق بشرعية الممارسة الأمنية برمتها، بل هناك من جعل ذلك مقياسا للوطنية. بينما أكدت الأحداث حصول تجاوزات في سلوك الأجهزة الأمنية بعد 16 ماي، لكن أيا من أجهزة المراقبة والتتبع لم تتدخل لتصحيح الأوضاع في الوقت المناسب، إلى أن جاء التصريح الملكي بوقوع تلك التجاوزات. فالبرلمان المغربي مثلا لم يباشر تكوين لجنة لتقصي الحقائق، وتصرف ربما وكأنه غير معني بالاتجاه الذي أخذه مسار الأحداث في معالجة ملف التفجيرات. وتؤكد تجارب الشعوب أن مثل هذه الظروف يمكن أن تستغل من طرف الساهرين على الأجهزة الأمنية لتقوية نفوذهم وبسط هيمنتهم بالشكل الذي يخل بالتوازن الضروري بين السلطات في دولة ديمقراطية. ولهذا يتعين أن يشتغل هؤلاء دائما تحت الإشراف الجماعي للسلطة التنفيذية والمراقبة الفعلية لممثلي الشعب. -والثالثة، هي أن للدولة حق العقاب وإيقاع الجزاء القانوني على مرتكبي الجرائم، نيابة عن المجتمع وحماية لأمنه وأمانه، وأن ذلك ليس حقا فقط بل هو واجب أيضا. إلا أن اشتراط خضوع ممارسة هذا الحق لضوابط الشرعية والقانون والمراقبة والمساءلة، لا يجب أن ينظر إليه على أنه يمثل عرقلة لذلك الحق، وانتقاصا من «هيبة» الدولة ومكانتها أو استهانة بخطورة الأفعال المقترفة أو استساغة لتعريض أمن الوطن للخطر. لقد علمنا التاريخ أن النزعة الدكتاتورية، في كثير من الأحيان، تتوسل إلى شعار حماية الوطن لفرض وجودها، وباسم هذا الشعار حكم على الكثير من الشعوب أن تتجرع مرارة مآس كبرى. وبالعودة إلى الرواية الرسمية، نجد أنها تذهب إلى كون عبد القادر بلعيرج أسس في 1992 تنظيمه الإرهابي بهدف التخطيط للقيام بعمليات مسلحة في المغرب، وأنه ارتكب جرائم قتل ببلجيكا وعمليات سطو لتمكين تنظيمه من وسائل التمويل، وأن التنظيم قرر خلق إطارات سياسية تعمل كواجهة للتغطية على أنشطة إرهابية يمارسها الذراع المسلح للتنظيم، كما اتفق على اختراق هيئات المجتمع المدني. وبالتالي فإن حزب البديل الحضاري وحزب الأمة هما الجناح السياسي للتنظيم الإرهابي الذي بايع خلال محطة التأسيس محمد المرواني أميرا عليه. وبناء على ذلك تم اعتقال عدد من الأشخاص من بينهم محمد المرواني، الأمين العام لحزب الأمة، والمصطفى المعتصم، الأمين العام لحزب البديل الحضاري، ومحمد الأمين الركالة، الناطق الرسمي لهذا الحزب، وعبد الحفيظ السريتي، مراسل قناة المنار، في المغرب التابعة لحزب الله، وماء العينين العبادلة، رئيس لجنة الوحدة الترابية في حزب العدالة والتنمية، وحميد نجيبي، مناضل في الحزب الاشتراكي الموحد. وعند تقديم وزير الداخلية لبياناته في الموضوع، كانت الاعتقالات مازالت مستمرة، ومع ذلك لم يرد في خطابه ما يفيد بأن المعطيات المقدمة يمكن أن تتغير على ضوء المعلومات التي قد يدلي بها معتقلون جدد وتأتي مخالفة لما أدلى به معتقلون سابقون. كان لاعتقال الأشخاص الستة الواردة أسماؤهم أعلاه ولبيانات وزير الداخلية وقع الصدمة لدى جزء كبير من الرأي العام، وفتح الباب لطرح مجموعة من الأسئلة المشروعة... كيف نجحت الأجهزة الأمنية في اصطياد وتعقب شبكات إجرامية حديثة التكوين، وتعذر عليها أن تكتشف شبكة بلعيرج التي تعود إرهاصات تكوينها إلى نهاية الثمانينات، والتي ظهرت قبل أن تظهر منظمة القاعدة نفسها؟ وكيف يقال إن الأمر اليوم يتعلق بأخطر شبكة يتم تفكيكها ولا يعقد اجتماع طارئ لمجلس الحكومة ولا اجتماع للجنة المختصة بمجلس النواب؟ وكيف يكون المرواني والمعتصم والركالة متورطين في شبكة إرهابية وهم أول من تظاهر بشارع محمد الخامس بالرباط تنديدا بتفجيرات 16 ماي 2003، ونشاطهم وكتاباتهم وعملهم اليومي مع الشباب في جميع أنحاء المغرب ولمدى عدة سنوات يشهد لهم بالدفاع عن خيار النضال السلمي، بل إنهم يتميزون عن باقي الحركات الإسلامية بتغليب العام على الخاص في تبنيهم للديمقراطية وعدم التحفظ على أي من قواعدها واعترافهم بشرعية النظام القائم ونبذهم للعنف. يوحي خطاب الداخلية بأن القادة الثلاثة يمارسون لعبة مزدوجة، فهم يمارسون عملا سياسيا شرعيا في النهار ونشاطا إرهابيا بالليل، لكن من أين سيستمد الإنسان كل هذه الطاقة ليعبئ الشباب على العمل السلمي، ويقدم كل مؤيدات ذلك، ويكتب مئات الصفحات ويقضي مئات الساعات منافحا عن فضائل العمل الشرعي أمام آلاف المستمعين، وفي عشرات اللقاءات والمناسبات، وبجانب قادة أحزاب أخرى وأطر من مشارب مختلفة بالداخل والخارج، ثم يصنع في جنح الظلام عكس ما يقول؟ وكيف تكون الشبكة الإرهابية قد ربطت علاقات مع الإخوان المسلمين والقاعدة والجماعة السلفية للدعوة والقتال والجماعة الإسلامية المقاتلة المغربية، وتقتني أسلحة إسرائيلية، وتحاول أن ترسل أعضاءها للتدريب في معسكرات حزب الله الشيعي، ثم يقول تقرير الداخلية إن الشبكة «وضعت منطلقاتها الفكرية والتنظيمية في 1992». إن شبكة بهذه المواصفات، لا تملك قطعا أرضية فكرية، إذ إن الخلفيات الإيديولوجية للأطراف التي سعت شبكة بلعيرج للتعاون معها متناقضة ومتعارضة حد التناحر الدموي، كما هي علاقة القاعدة مع الشيعة، فالقاعدة تكفرهم بل وتعتبر بعضهم في أدبياتها أشد خطرا على الإسلام من باقي «أعداء الإسلام»، والساحة العراقية اليوم شاهدة على ذلك. لقد اعتبرت رواية الداخلية أن إنشاء «البديل الحضاري» و»حزب الأمة» يندرج في إطار مخطط إرهابي أصلي اكتمل بنيانه عام 1992، بمعنى أن ظهور الحزبين هو فرع من أصل واحد، والأصل يسبق الفرع. إلا أن مراجعة مسار تاريخ الحركة الإسلامية بالمغرب، يثبت بالعكس أن مخاض تكوين حزب سياسي قانوني ظهر في صيف 1990، من خلال وثائق تحددت فيها بشكل جلي ملامح القطيعة مع العمل السري. فبعد العمل في إطار الشبيبة الإسلامية وجند الله والاختيار الإسلامي، تمت مراجعة الخط العام لعمل المرواني والمعتصم والركالة، وتحرروا بصورة نهائية من رواسب العمل السري واختاروا التزام الشرعية. وكل ذلك مثبت في وثائق متوفرة اليوم، ويمكن الاطلاع عليها. فهل يعقل أن يحدث الواحد فينا قطيعة مع العمل السري بصورة موثقة وبعد مخاض فكري عميق وسجال محفوظ في ذاكرة العمل السياسي المغربي، ويلتزم بحدود القانون لمدى سنوات طويلة، ثم تأتي الأجهزة الأمنية لتحاسبه عن لقاء أو اتصال أو مذاكرة أو جلسة جمعته بهذا الشخص أو ذاك منذ 16 أو 17 سنة خلت، وتفرقت بهم السبل بعد ذلك واختار كل طريقه! هل نسيت الأجهزة الأمنية أن الراحل الحسن الثاني أصدر عفوا عام 1994؟ وهل نسيت أن هناك هيئة شكلها الملك محمد السادس اسمها هيئة الإنصاف والمصالحة؟ أليست المصالحة تعني «طي صفحة الماضي»؟ وما قيمة المراجعة التي يقوم بها الشخص إذا كان تاريخه سيلاحقه، وإذا كان حدث من أحداث ذلك التاريخ سيتحول إلى سبب لمتابعته، حتى ولو كان الحدث عبارة عن جلسة عارضة أو تعارف طارئ لم يدم وانقطعت الصلة بين أطرافه، فيصبح «قرينة» جاهزة على تورط الشخص الدائم في إجرام ضد الدولة. هذا معناه ألا ضرورة للمراجعة التي نعتبر اليوم أنه من مصلحة بلادنا أن يقوم بها عدد من المنتمين إلى ما سمي بالسلفية الجهادية، كما حصل في دول عربية أخرى. وأخطر ما تم، بمناسبة الإعلان عن الاعتقالات وسرد الوقائع المنسوبة للمعتقلين، هو خلق جو إعلامي ونفسي من شأنه التأثير على عمل القضاء، وهذا فيه مس فادح بحقوق الدفاع. إذ تمت تعبئة وسائل الإعلام العمومي لتقديم الوقائع الواردة برواية الأجهزة الأمنية في صيغة أخبار ثابتة، وتحولت التهم إلى حقائق محسومة والمشتبه فيهم إلى فاعلين، وذلك في مرحلة يوجد فيها المعتقلون قيد الحراسة النظرية الخاضعة للتمديدات التي أصبح يسمح بها قانون مكافحة الإرهاب، حيث حرموا من حق الاتصال بمحاميهم ومن حق عرض وجهة نظر أخرى على العموم عبر هؤلاء المحامين. وطوال الفترة التي اعتبرت كافية لمحاولة ترسيخ صورة معينة في أذهان الجمهور مستقاة من الرواية الرسمية، تصرفت التلفزة والإذاعة كما لو كانت أشبه بقسم إعلامي للشرطة القضائية، وعبأت ممثلي الأحزاب لاستنكار «وقائع» يمكن أن يثبتها أو ينفيها القضاء، ولم تلتزم بالتحفظات المفروضة في التعامل مع وضعية معتقلين لم يبدأ بعد مسلسل مقاضاتهم فبالأحرى إدانتهم. والأدهى من ذلك، أن حل حزب البديل الحضاري حرم الحزب من حق الدفاع عن نفسه كحزب، وتنظيم أجهزة الحزب رسميا لشروط مؤازرة قائديه المعتقلين، والقيام بالاتصالات الضرورية كحزب في الداخل والخارج لجلب الدعم وتقديم وجهة نظر الحزب في ما جرى ويجري. وتحول وزير الداخلية إلى قاض يصدر حكما على حزب بأكمله، بناء على ملابسات وعناصر جزئية وغامضة وسابقة في التاريخ على ميلاد الحزب وتعود إلى سنين طويلة، ولم يكن هناك قط أي ظرف استعجالي يفرض حل الحزب وحجب رأيه عن عموم الناس عبر وسائل الإعلام الرسمية. وظهر توجه رسمي إلى تجريم التشكيك في الرواية الرسمية كما لو كانت مقدسة، بيد أن الاعتراف الرسمي بالتجاوزات الحاصلة بعد 16 ماي يبرر التخوف من وقوعها ثانية مع ملف آخر. ألم يكن هناك تسرع مثلا في التصريح بامتلاك أجهزتنا لوحدها مفتاح حل اللغز المتعلق بست جرائم قتل وقعت ببلجيكا، بدون أن يكون تبادل المعلومات والتنسيق مع أجهزة هذه الدولة قد وصلا إلى مستوى تكوين تلك القناعة لدى الطرفين؟ نستخلص من كل ما سبق أن هناك هشاشة في البناء الذي اعتمدت عليه الرواية الرسمية، ولهذا فإن اعتقال الرجال الستة، يفتح باب التكهن بوجود ثلاث رسائل محتملة ثاوية وراء الحدث: الرسالة الأولى، تهم حزبين هما البديل الحضاري وحزب الأمة اللذين تحملهما الدولة المسؤولية كحزبين. هذا يعني ربما رفض القبول بتنظيم «شيعي» في المغرب، أو يفترض أن درجة تعاطفه مع حزب الله هي أكثر مما لدى الأحزاب المغربية من تعاطف. بعد استشهاد مغنية، ربما تكون الحرب السابعة من أجل الثأر لهزيمة إسرائيل في لبنان قد انطلقت، وهناك من يتصور أن تطور التعاطف مع حزب الله خلال أطوار حرب جديدة قد يخلق مشاكل أمنية ويحرج حكامنا في علاقتهم مع أمريكا التي تعتبر حزب الله تنظيما إرهابيا. المطلوب إذن سد كل قنوات تصريف تيار التعاطف ومجاملة أمريكا بإظهار تشدد زائد إزاء المتعاطفين، ودفع مختلف الأحزاب والقوى المغربية إلى قطع علاقاتها مع حزب الله ومع كل ما هو «شيعي»، أو تحجيمها إلى أدنى مستوى ممكن. الرسالة الثانية، وتهم العدالة والتنمية والحزب الاشتراكي الموحد اللذين لا تحملهما الدولة المسؤولية كحزبين، ولكنها تعتبر أن لهما، وإن بشكل متفاوت، قدرة على تحديد مدى ومضمون «المعارضة» في مغرب اليوم. مطلوب من العدالة والتنمية بذل المزيد من «التنازلات» وعدم مقاومة أي مخطط لقمع إسلاميين آخرين، خاصة أن إمكان العمل بتعدد التيارات في هذا الحزب، قد يعزز حظوظ غلبة الاتجاهات داخله التي تقترب بعض أطروحاتها «الدستورية» من أطروحة اليسار المعارض. وبالنسبة للحزب الاشتراكي الموحد، فهناك من يؤاخذه على احتضانه لمؤتمري البديل والأمة في مقره الوطني بدون إذن أو إشارة، وتصليبه لجبهة مواجهة حركة السيد فواد عالي الهمة، وفي ذلك إنجاح لمخطط الاتحاد الاشتراكي، وتكثيفه لعلاقاته العربية مع اتجاهات يسارية وقومية وإسلامية كما ظهر في مؤتمره الأخير، ومعارضته لقمع الحركات الإسلامية من منطلق مبدئي، والتخوف من أن يتطور ذلك في اتجاه بلورة تحالف بين المعارضة اليسارية و»اليسار الإسلامي». والحال أن هناك من يريد مغربا بدون معارضة أو بمعارضة باهتة. والرسالة الثالثة، وتهم رجال الصحافة المغاربة في المؤسسات الإعلامية العربية والمغربية، مؤداها التحذير من تحول بعض المنابر إلى «لعبة» في يد «المعارضة الراديكالية». وهناك أيضا في تقرير وزارة الداخلية ما يشبه التنبيه الموجه إلى المجتمع المدني، من خلال القول بأن الشبكة الإرهابية خططت لاختراق المجتمع المدني أيضا. وخلاصة القول، أن المنطقة العربية قد تعرف هزات كبرى، وقد يعرف المغرب أحداثا اجتماعية مثل الزيادة في الأسعار وغير ذلك، ولذلك يتعين أن يكون الوضع العام على صعيد الأحزاب والإعلام والمجتمع المدني قادرا على تلقي الصدمات بدون ردود فعل قوية.