إرتفع في الأشهر الأخيرة نجم استراتيجية القاعدة، التي يتزعمها أسامة بن لادن، إذ أثبت هذا التنظيم أنه قادر على تنظيم نفسه، وتفعيل أدائه، والتحرك في منطقة واسعة جغرافيًا، دون أن تتمكن الأجهزة الأمنية على امتداد مجموعة من الدول من القضاء عليه أو إحباط بعض مخططاته، بل لم يزده التضييق الأمني الذي يمارس عليه داخل هذه الدول، إلا إصرارًا على توسيع دائرة المواجهة بعد أن عمد إلى إدخال تغييرات على تكتيكه. وجاء هذا التحول تحت وطأة الضربات الموجعة التي تلقاها، خلال الحرب الدولية ضد الإرهاب، إذ اضطر إلى تغيير نهجها الاستراتيجي عبر تأسيس ما بات يعرف بالخلايا العنقودية، حيث ينقسم أعضاء في التنظيم إلى خلايا مستقلة صغيرة أشبه ما تكون بعناقيد شجرة العنب، ولا تعرف بعضها البعض وتتلقى الأوامر من قادة مختلفين لا ينسقون فيما بينهم بشكل مباشر، إذ يمكن أن توجد عناصر الخلية في مكان واحد من دون أن تكون على معرفة بالخلية الأخرى أو عددها أو تخطيطها. "" ولجأت القاعدة إلى هذه الاستراتيجية لتفادي السقوط الجماعي للتنظيم في حال كشف أي خلية، وضبط عناصرها، وبذلك تكون قد غطت على تحركاتها، وفي كثير من الأحيان تعمل على تكوين خلايا نائمة غير نشيطة تنتظر التعليمات لتنفيذ أي مخطط إرهابي. ومكنت هذه الاستراتيجية من فسح الفرصة أمام القادة الكبار في التنظيم للعب بأكثر من خطة في وقت واحد، ومن الممكن أن تأتي بنتائج أكبر خاصة في حالة تسليط أعين أكثر من خلية عنقودية لتنفيذ مخطط واحد. كما قادت التجارب الحية العديدة، التي استفاد منها التنظيم خاصة في أفغانستان والعراق، من تطوير خطط القاعدة، إذ يعتبر القادة الجدد في تنظيم القاعدة، الذين خبر أغلبهم ساحات المعارك في أفغانستان، وجمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقا أصحاب خبرة وتكوين عال في مجال الخطط الإرهابية، وترجح عدد من التقارير الأمنية الغربية أنهم أشد شراسة من سابقيهم، وأصحاب عقيدة متشددة ضد أميركا ومن يدور في فلكها. غير أن هذه الورقة ليست الوحيدة التي يلعبها قادة التنظيم، إذ في الفترة الأخيرة وقفت الأجهزة الأمنية في بعض الدول، بعد تفكيك خلايا متفرقة، على حقيقة خطرة مفادها أنها كانت ضحية خطط اختراق محكمة من قبل القاعدة، ما جعل تحركاتها مكشوفة أمام أتباع أسامة بن لادن، الذين أخذوا "الوصفة الأمنية" لزرع مخبرين داخل القاعدة، وطبقوها بالحرف، لكن بشكل معكوس، حتى يستبقوا خطوات الاستخبارات في عدد من الدول. وتجسدت هذه الحرب المفتوحة بين الأمن والقاعدة في ملفين، الأول يتعلق بشبكة المهاجر عبد القادر بلعيرج، الذي فككت شبكته أخيرًا في المغرب، والثاني يهم خلية نائمة من جواسيس تنظيم القاعدة يعتقد بأنها اخترقت شرطة لندن. وبالنسبة إلى شبكة بلعيرج، فبعد أسابيع من الحريات فجرت الصحف البلجيكية قنبلة مدوية، بعد إعلانها أن هذا المهاجر المغربي يعمل مخبرًا لدى أمن الدولة في بلدها، قبل أن يشتعل الجدل حول ما إذا كان الأمن بلجيكي تمكن من اخترق القاعدة عبر زرع المخبر عبد القادر في صفوفها، أم أن تنظيم بن لادن نجح في قلب المعادلة وسخر بلعيرج للتسلل إلى أروقة الاستخبارات في بروكسيل، ليكون بذلك عميل مزدوج. أما في لندن، فإن مسؤولي جهاز الأمن الداخلي البريطاني (إم آي 5) يخشون من أن يكون أعضاء الخلية النائمة، وهم أربعة بريطانيين من أصول آسيوية يعيشون في المدينة المذكورة، على علاقة بمتطرفين إسلاميين في بريطانيا ومنظمات إرهابية عبر العالم، وجمعوا معلومات حساسة عن عمليات مكافحة الإرهاب. وفي هذا الإطار، قال محمد ضريف، الخبير المغربي في شؤون التنظيمات الإسلامية، "لا يمكن الحديث عن إمكانية مقارنة بين ما حدث في لندن وملف عبد القادر بلعيرج. فهذه الشبكة، إذا تأكدت الاتهامات الموجهة إليها، فسنكون أمام استراتيجية مضادة تحاول من خلالها الاستخبارات الأجنبية اختراق القاعدة، خاصة إذا علمان أن عبد القادر توجه إلى أفغانستان للقاء الرجل الثاني في التنظيم أيمن الظواهري، قبل أن يذهب في 2005 إلى معسكرات الجماعة السفية للدعوة والقتال في الجزائر". ومعروف أن القاعدة منذ البداية، يضيف الباحث محمد ضريف في تصريح ل "إيلاف"، تسعى إلى تجنيد واستقطاب أشخاص لا يثيرون انتباه السلطات العمومية والمواطنين، وبالتالي كان التنظيم يستقطب من له القدرة على تسهيل عملياتهم الإرهابية حسب أجندة القاعدة، كما في حدث في الولاياتالمتحدة الأاميركية وبريطانيا وإسبانيا. وأكد المختص في شؤون التنظيمات الإسلامية أن تنظيم أسامة بن لادن يعيش حاليًا حربًا مفتوحة من الأنظمة الغربية والعربية والإسلامية، مشيرًا إلى أنه يبتكر أساليب جديدة يتمكن من خلالها من القيام بعمليات إرهابية عبر دفع عناصر على الالتحاق ببعض مؤسسات الدولة بهدف اختراقها، سواء كانت أمنية أو غير أمنية. فالقاعدة، يوضح محمد ضريف، تسعى إلى الحصول على المعلومة، وهي تدرك أن حربها ضد الأنظمة هي حرب حول امتلاك المعلومة، إذ أن فعالية الأجهزة الأمنية في إحباط مخططات هذا التنظيم تأتي من عبر توفرها على مخبرين يزودونها بالأخبار، في حين تعلم القاعدة أنها لن تنجح في تنفيذ عملياتها دون تمكنها من زرع مخبرين يعملون داخل مؤسسات الدولة. وذكر أن هذين المثالين يجسدان ضراوة الحرب الدائرة بين أجهزة الاستخبارات وتنظيم القاعدة، الذي يبدو أنه استعان برجال شرطة في بريطانيا للحصول على معلومات تسهل عليه تنفيذ عمليات إرهابية بدقة. وكانت تحقيقات الأمن المغربي مع بلعيرج قادت إلى كشف أنه خطط إلى اختراق مؤسسات الدولة والأحزاب والمجتمع المدني، واغتيال مسؤولين ووزراء وضباط سامين في القوات المسلحة، إلى جانب مواطنين مغاربة يعتنقون الديانة اليهودية. ومكنت عمليات التفتيش، التي تلت تفكيك الشبكة، من حجز، لا سيما في مدينتي الدارالبيضاء والناظور، كميات مهمة من الأسلحة والذخيرة والشهب النارية (بنادق من نوع "كالاشنيكوف"، وكاتم للصوت ومسدسات رشاشة من نوع "سكوربيون")، بالإضافة إلى وسائل تستعمل لإخفاء شخصية مرتكبي الجرائم المخطط لها. وكانت وزارة الداخلية قد ذكرت أن الشبكة الإرهابية "ذات صلة بالفكر الجهادي"، وأنها نظمت ما بين سنتي 1992 و2001 عددًا من عمليات السطو أو حاولت ذلك، كما قامت سنة 1996 بمحاولة اغتيال استهدفت مواطنًا مغربيًا معتنقًا للديانة اليهودية في الدارالبيضاء، وعملت على التخطيط لاغتيالات أخرى سنوات 1992 و1996 و2002 و2004 و2005. وأنها عملت أيضًا على نسج علاقات مع مجموعات وتنظيمات إرهابية دولية، من ضمنها على الخصوص "القاعدة " و"الجماعة الإسلامية المقاتلة المغربية" و"الجماعة السلفية للدعوة والقتال الجزائرية"، التي غيرت اسمها إلى تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلام.