العمل في الصحافة مكلّف، يجعلك تؤجل اللقاء مع عشرات الكتب وتخلفها أحيانا، معوضا ذلك بقراءة الجرائد والمجلات، التي يمكن أن تحولك إلى شخص تافه وسطحي، مع رصيد محترم من الادعاء والغرور. لذلك كان كثير من الكتاب يهربون من الصحافة، وكان نيتشه يسميها: «بورنوغرافيا الفكر». تتبّع الجرائد ومطاردة الأخبار، يكون على حساب قراءة كتب أجمل، وتدبيج المقالات والأعمدة يأكل وقت القصائد والنصوص، بالنسبة للمدمنين على هذه «العادة السيئة». أحيانا تتذكر الكتب بلا سبب، وتشرع في تقليب ما في الرفوف. في العشرين من يوليوز 2008، كنت أتفقد كتبي المكدسة في خزانة البيت، وأتحسر لأنني لم أقرأ معظمها وألعن الصحافة التي استدرجتني إلى هذه «الحفرة» التي لا قرار لها. فجأة سقط كتاب على الأرض، وعندما التقطته وجدتها رواية «طفل الرخام» للكاتب المغربي محمد لفتح. وضعتها في محفظتي كي أشرع في قراءتها. بعد يومين، اتصل بي الصديق الشاعر محمد حمودان ليخبرني بأن صديقنا لفتح توفي... في اليوم نفسه الذي سقط كتابه من خزانتي، صعدت روحه بخفة إلى السماء. أحيانا تكون الصدف ماكرة حقا، هكذا يبدأ «طفل الرخام»: «كل شيء- أقصد المصادفة التي أدت إلى ولادة هذا النص، الطريقة التي رأت من خلالها الأحداث المسرودة النور وتشابكت، كما لو أنها نتاج حكي أكثر من كونها أحداثا حقيقية- كل شيء حدث في رمشة عين»... خمس سنوات كاملة مرت على رحيل محمد لفتح دون سابق إنذار، حين انسحب من الحياة بلا ضوضاء، تاركا وراءه مؤلفات غزيرة معظمها على شكل مخطوطات تملكها دار النشر الفرنسية «لاديفيرانس»، التي نشرت بعضا منها ومازالت تحتفظ بأخرى. ولأن لفتح ظل يأتي من جهات غير متوقعة، كان لا بد أن يغادر من مكان غير متوقع: القاهرة حيث عاش سنواته الأخيرة في بيت أخته، وحيث يرقد الآن إلى الأبد. مؤلف «آنسات نوميديا» لم يقرأ بعد، لا في فرنسا ولا في المغرب، ولعل حياته الحقيقية بدأت بعد رحيله، مثل كل الكتاب الكبار الذين يطلق عليهم عادة «الشعراء الملاعين». لغته الحادة مثل شفرة حلاقة، تذكرنا بمحمد خير الدين ومحمد البوعناني، صاحب «المستشفى»، وجرأته لا يضاهيه فيها إلا محمد شكري. لفتح كان واحدا من اولئك الذين يصعب الفصل بين حياتهم وبين أدبهم، حوّل حياته العريضة إلى قصيدة مليئة بالدهشة والأشياء غير المتوقعة، وظل يفاجئ العالم بكتاباته وشغبه حتى النهاية. تعرفت لأول مرة عليه بفضل صديقي الكاتب المغربي المقيم في باريس سليم الجاي، الذي قاده حسه النقدي إلى منح كتبه حياة ثانية. عام 2003، كان الجاي يهيئ «معجم الكتاب المغاربة»، عبارة عن أنطولوجيا فريدة للكتاب المغاربة بمختلف اللغات، بما فيها الهولندية والأمازيغية. بمجرد ما قرأ «آنسات نوميديا»، أول روايات لفتح الصادرة عن دار «لوب» الباريسية، قصد الناشر كي يطلب منه عنوان الكاتب الذي ألف «جوهرة» الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية، كما ظل الجاي يصف الرواية. لكن الناشر أخبره ببرود، أن مؤلف الرواية قد مات... فيما بعد، اكتشفنا أنها كانت مجرد حلية من الناشر كي يتخلص من كاتب مزعج ومشاغب، فضل ان «يقتله» كي يرتاح ! وعرفنا أن الكاتب تعرض لنكسة في حياته، جعلته يختار العزلة في القاهرة عند أخته. كنت مسؤولا عن البرامج الثقافية في القناة الثانية عام 2005، عندما كان الزميل عمر سليم يهيئ الحلقة الأولى من برنامجه «Arts et lettres» حول الرواية المغربية، واقترحت عليه أن يستضيف سليم الجاي. طوال البرنامج، لم يكف الجاي عن الحديث عن لفتح ووصف «آنسات نوميديا» بأجمل ما كتب في الأدب المغربي بالفرنسية، نكاية بالكتاب المكرسين. الصدف الماكرة شاءت أن يشاهد لفتح البرنامج من القاهرة على فضائية القناة الثانية، ويطلب من ابنته التي تسكن في ضواحي باريس أن تتصل بالجاي، كي تعطيه مجموعة مخطوطات مكدسة لديه... بمجرد ما استلمها سليم حملها الجاي إلى المرحوم جواكيم فيتال، صاحب «لاديفيرانس»، الذي لم يتردد في أن يجعل من لفتح أحد أهم كتاب الدار. هكذا عاد الكاتب من موته الأول، ونشر كتبا جديدة ستجعله يعيش طويلا، نكاية بموته الثاني، وعما قريب يتعرف قراء العربية على كتابه الذي أثار جدلا بشأن تعرضه للمنع في المغرب: «المعركة الأخيرة للقبطان نعمت»، بتوقيع من صديقه الشاعر محمد حمودان.