كان الرجل على « قد المقام»، كما يقول المصريون، لكن الصدف وحدها وضعته ضمن أهم الناشرين في مصر، وارتبط اسمه بكبار الكتاب، أمثال حسين هيكل ونجيب محفوظ، ووجد نفسه فجأة في حمأة اليسار المصري دون أن تكون له ناقة ولا جمل في أفكارهم التي دخلوا من أجلها إلى السجون الناصرية، ثم بعد ذلك على سجون السادات. ناشر مصر الكبير والأكثر شهرة الذي انطلق من مجرد صاحب «فرشة» في سور الأزبكية إلى ملاذ المثقفين العرب الذين كانوا يأتون إلى القاهرة حجا، كي تكتمل صفاتهم وألقابهم. عن 70 عاما، يرحل الناشر المصري الشهير محمد مدبولي هو الذي بدأ حياته كبائع جرائد قبل أن يتحول إلى بائع كتب على عربة متنقلة، لتدور الدورة الزمنية دورتها، حينما سيصبح من أشهر الناشرين المصريين بعد فتحه لدكة في سور الأزبكية أسماها «مكتبة مدبولي» التي أصبحت أشهر مكتبة بوسط البلد، في القاهرة المحروسة. لم يكن الحاج مدبولي يمتلك أي مستوى تعليمي، وكان بالكاد يقرأ ويكتب، غير أنه كان يؤكد باستمرار، في الحوارات التي أجراها مع صحافيين كانوا يأتون إليه، أنه كان يقرأ مثلا نجيب محفوظ وجمال الغيطاني وحسين هيكل، وأن هذا الأخير كان يأتي إليه ويزوره في المكتبة، قبل أن تنقطع السبل بين الرجلين، بسبب انشغالات هيكل وعلو قدره. لكن شباب اليسار المصري في ذلك الوقت هو من صنع مدبولي، ومن دفع به إلى الواجهة؛ ومنه وإليه، كانت تتسرب الكتب الممنوعة، حتى إنه ألف مداهمات شرطة الرقابة والبوليس المصري الذي كان يقوم، كل مرة، بتفتيش دقيق للمكتبة بحثا عن الكتب الممنوعة، ومن تلك كتب حسين هيكل التي عرضته للمتابعة القضائية أكثر من مرة. اهتم مدبولي بنشر موسوعات في الفلسفة والتصوف والتاريخ من دون أن ينحاز إلى شخص أو تيار، ومن أبرز الأمثلة نشر موسوعة تاريخية من ستة آلاف صفحة عنوانها «تاريخ مصر من بدايات القرن الأول الميلادي حتى نهاية القرن العشرين من خلال مخطوطة تاريخ البطاركة لساويرس بن المقفع». وكان حريصا على توفير الكتب المحظورة طبعاتها وتداولها في مصر، ومنها كتب لمحمد حسنين هيكل ورواية «أولاد حارتنا» للروائي المصري نجيب محفوظ التي ظلت تطبع في بيروت منذ الستينيات، لكنها كانت تتاح لمن يطلبها من “مكتبة مدبولي”. تعرض مدبولي عام 1991 لتهديد من متشددين إسلاميين بسبب توزيعه رواية عنوانها «مسافة في عقل رجل» وفي العام نفسه صدر حكم قضائي بسجنه للسبب نفسه، إذ وجهت إلى الرواية تهمة ازدراء الأديان. وتضامن المثقفون مع مدبولي حتى إن الرئيس المصري أوقف تنفيذ الحكم. وظل كثير من الكتب التي يصدرها مدبولي موضع شك من طرف السلطات. مسيرة جنب النخبة ولد مدبولي في الجيزة (جنوب غربي القاهرة) عام 1938. وبدأ رحلته المهنية في السادسة كبائع صحف متجول، بصحبة والده وشقيقه أحمد الذي شاركه سنوات تألقه في عالم نشر الكتب حتى بنى لنفسه حياة أقرب إلى الأسطورة. فالناشر الشهير الذي نشر ووزع ملايين الكتب لم يتلق تعليماً نظامياً في طفولته بسبب الفقر، لكنه تعلم الأبجدية العربية عن طريق كتاب أولي لتعليم الأطفال، ثم تعلم مفردات من لغات أجنبية عدة بفضل التواصل مع رواد مكتبته من الأجانب. في ستينيات القرن الماضي بدأ مدبولي خطواته الأولى مع النشر، مع نقل «كشكه» لبيع الصحف إلى ميدان طلعت حرب، وسط القاهرة، ليكون قريبا من النخبة الجديدة التي كان رموزها يجتمعون في المقاهي القريبة، وشكلوا النواة الأولى لجيل الستينيات الأدبي، وهو الجيل الذي أظهر شغفا بكتب الماركسية والفلسفة الوجودية ومسرح العبث، والتي كانت الأكثر مبيعا في تلك الفترة، مما دفع مدبولي إلى تكليف أحد زبائنه، وهو الدكتور عبد المنعم الحنفي، بتأليف كتاب عن «مسرح العبث»، هو أول كتاب في مسيرته كناشر. كما كان مدبولي الناشر الأول لأعمال يوسف القعيد وجمال الغيطاني وصلاح عيسى ومحمد عفيفي مطر وغيرهم من رموز هذا الجيل. ومن اللافت أن مدبولي الذي اعتبر نفسه «ناصرياً»، هو من نشر الكتاب الذي وجه أشد الانتقادات للتجربة الناصرية، وهو كتاب «تحطيم الآلهة» للمؤرخ الراحل عبد العظيم رمضان. ورغم أن مدبولي اعتبر لاحقا ان نشره هذا الكتاب «غلطة عمر»، لم يمتنع عن توزيع معظم الكتب التي نالت من الناصرية حفاظاً على حق القارئ في المعرفة، كما كان يقول، وللحفاظ أيضا على أرباح طائلة حققها من وراء الكتب التي قام مؤلفوها بهجاء عبد الناصر بعد هزيمة 1967. نشر مدبولي أشعار أحمد فؤاد نجم الغاضبة التي كانت وقود الحركة الطلابية، كما وزع معظم الكتب التي نالت من استقرار نظام السادات بعد توقيع اتفاق كامب ديفيد. ونشر مدبولي ووزع كتب نصر حامد أبوزيد، مما حرك ضده الإسلاميين. لكنه بعد أن قام بإتلاف كتابين للكاتبة نوال السعداوي، بدعوى خوفه من غضب الله، انعطف كناشر بنى صيته على تجارة الكتب الممنوعة والعداء للرقابة. محطات من تاريخ ناشر عصامي - نشر أعمال جمال الغيطاني ويوسف القعيد - وزع كتب دار الآداب اللبنانية وأعمال نزار قباني وغادة السمان وغيرهما من كتاب دار الآداب. - اضطر محمد حسنين هيكل إلى الاستعانة بمدبولي للحصول على الكتب من الخارج بعد أن استبعده أنور السادات من صحيفة الأهرام ومن جميع المناصب التي كان يشغلها. - تحصل الحاج مدبولي على علاقات اجتماعية كبيرة، وكان خبيرا بهم، وما إذا كان عليه أن يفتح لهم خزائنه السرية التي تتضمن الكتب الممنوعة في مصر. - أقيمت ضده 24 قضية أمن دولة بسبب توزيعه مثل هذه الكتب الممنوعة . - شيع جثمان مدبولي من مستشفى القوات المسلحة في ضاحية المعادي (جنوبالقاهرة)، وهو المستشفى الذي قضى فيه الرئيس أنور السادات وسيدة الغناء العربي أم كلثوم.