» العالم حروف مخطوطة مرقومة في رقّ الوجود المنشور ، ولا تزال الكتابة فيه دائمة أبدا لا تنتهي « ابن عربي يعلّمنا درس ?مبرتو ?يكو ، أن » كلّ سرد هو تفكير عميق ومنظم بالأصابع « . أمّا الرواية ، أيّ رواية حديثة تراهن على المجيء من المستقبل بوصفها ذاكرة للغد وميراثا لم تسبقه وصية ، » ففرجة معرفية ، وواقعة كوسمولوجية « ، الأساس في تشكلّها وإقامة أعمدتها ليس الكلمات ، ولكن كيفية بناء العالم وتأثيثه ، أي التجسيد الفضائي والزماني للمعنى . جمع شمل هذه المعايير التي يمكن عدّها بمثابة دليل استعمال أو دفتر تحملات جمالي ، نلفيه حاضرا بقوة ومكتسيا بلحم الانجاز المتقن والبارع ، في » جيرترود« الرواية الثانية للكاتب المغربي حسن نجمي ، التي صدرت عن المركز الثقافي العربي في بيروت (2011) ، بعد انصرام خمسة عشر عاما على إطلاق روايته الأولى » الحجاب« (1996) في سماء النشر. فبالاتكاء على ذريعة طرسيّة ، تم إثباتها على مساحة صفحة وربع ضمن خطاب الحراسة الممهد للرواية ، وهي واقعة تاريخية حقيقية مجتزأة من سيرة جيرترود ستاين (1898-1946) المصيّغة على لسان صديقتها الحميمة أليس طوكلاس ، عمد صاحب » حياة صغيرة « إلى نسج سيرة بيوغرافية متخيلة ، عمادها التوليد والاختلاق والترميق ونسب المعلوم إلى المجهول التاريخي ، لبطله الرئيس محمد الطنجاوي في علاقته المشبوبة والدرامية بهذه الناقدة الأمريكية ذات الأصول اليهودية ، التي ذاع صيتها في مدينة » الجن والملائكة « بفعل احتضان صالونها لأفراد » الجيل الضائع « كما أورد ذلك ?رنست همنغواي بين سطور كتابه » الوليمة المتنقلة« ، وكذا بسبب اتخادها موديلا من قبل أيقونات الفن الصباغي العالمي ، لعل من أبرزهم بابلو بيكاسو الذي رسم بورتريها تكعيبيا لها بعد 87 جلسة » على انفراد « في عزلة محترفه . الفنان ذاته الذي كان كلفا بها وبقدرة القناع الإفريقي على تحرير وجهها الإنساني من ربقة جسدها السخي ، لدرجة وسمها ? » الكائن الرائع الذي كان يكفي أن تدخل إلى غرفة لكي تمتلئ الغرفة حتى ولو كانت فارغة « . ولأن الآنسة جيرترود عليها أن تدخل إلى رواية مغربية كاملة كي ???ها بالتفاصيل والوقائع ، انطلاقا من » وديعة محمد « المشكلة من شذراته وقصاصاته وصوره وأوراقه الشخصية المبعثرة ، فقد تكفل بتنضيد هذا الأمر سارد بديل ومضاعف ، محضه البطل ذخيرته ووصيته المستودعة ، وأعاره المؤلف اسمه » حسن « ، وأتاحا له بالمقابل ، في ما يشبه التناظر المزدوج ، تضفير حكايته الخاصة والموازية في علاقته بالأمريكية الأخرى ليديا ?لتمان . هذا السارد المقّنع سوف ينزل إلى ماضي » محمد الطنجاوي « ويعود منه ، ليطلع في كل مرة بغنيمة الذكريات المحبوسة في حلق بطل الرواية الذي غاب مثل وردة مجهولة نفقت في أصيص الزهور . يعلم السارد أنه صنو البطل منذور كي يكون مهجورا مثل قفاز بلا يد ، يشتركان معا في كمد مّا ، ربما خيبات الحياة التي تعادل مجازيا سكينا صدئا يطعن الروح ، أو على الأرجح في أضغاث النساء اللائي يكمنن كالقروح في مفارق السويداء بعد أن يذقننا » أذى كالحب « . لذا وطدّ اليراع على تدوين ذاكرة » آخر غيره « إذا ما شئنا استعارة هذا العنوان من خوسي ساراماغو . قرر أن يكتب الجنازة الداخلية لذلك الرجل المصنوع من خذلانات بلا حصر ، لأنه يؤمن بأن الموت وسط عبارة هو الانتصار الحقيقي على النسيان وعلى الوقت متى فرض عليك الالتحام بعزلتك والاختفاء عميقا داخل نفسك . لكن ، ترى هل كان يعلم السارد أنه منقاد في غفلة عن نفسه إلى الاستشفاء بدراما الشبيه ، لما انخرط في تقطّيب جرح ذاكرة رجل آخر بخيط الحكي ، وأنه بدوره سوف يقطّب عبر البوح كل الندوب المفتوحة التي كبلّت عمره وجعلت الحسرة تتبضع من داخله ؟... لا يمكن التيقن من أمر كهذا ، ?عني أمر الصائد الذي يؤول إلى اتخاذ سمت الفريسة ، بيد أن ما هو مؤكد أننا لا نهب ذكرياتنا جزافا ، بل نزرعها كالأشجار ليفيء الآخرون تحت ظلالها من لظى الأيام وشموسها الحارقة . الحكايتان معا، حكاية» محمد الطنجاوي« والسارد ، نظم حبكتهما متخيل ثر خبر قيادة حصانين مسرعين بيد واحدة . وقد اتخذتا على امتداد اللغة والمعمار والتشخيص صفة تلك النبتة التي تغور في باطن الثرى ، ولمّا تتبرعم تنتج جذورا متداخلة ومتحايثة . وبتحوير بسيط لمفهوم دولوز- غواتاري يجوز لنا أن نسميها » الجذمور الحكائي « . وهو في » جيرترود« يجعل من كل سبيل قابلا لأن يرتبط بسبيل آخر بعروة وثقى لا انفصام فيها . لتصير الرواية ، إذن ، بلا وسط ، ودونما محيط ، وغفلا من المخرج، لأنها أنابيب مترابطة تراهن على مقترح سردي قوامه الافتراضات غير النهائية لاشتباكات المصائر والحيوات . انطلاقا من هذا المعطى ، تجذّر رواية » جيرترود« نموذج الشخوص المكلومة بخيبات وإخفاقات الوجود ، بين فضائين جغرافيين متباعدين وهويتين متناقضتين . إذ تعاني الغربة والاستلاب واللااكتمال داخل كينونتها وداخل محيطها التاريخي والاجتماعي . إنها لا تتوق إلى إشهار عظمتها الإنسانية بأي نوع ، بل تفضح بنوع من السادية الملتذ بها عزلتها وانفصالها عن محيطها واستنفاذها لفردانيتها الشخصية في مشاريع ?نطولوجية خاسرة لا تغطي تكاليفها . كما يمكن الحدس ? بنوع من التنسيب وغياب الوثوقية ? أن استدراج حياة كاتبة أمريكية من قيمة جيرترود إلى لعبة سردية مدارها » مغربي صغير « ومجهول اسمه » محمد«، هو نوع من » الاستشراق المعكوس أو المضاد « كما ينعته الراحل ?دوارد سعيد . فبطل» جيرترود« هو المعادل النقيض لبطل رواية » السماء الواقية « لبول بولز أو لبطل رواية » مراكشالمدينة « لكلود أوليي . يقبل عبوديته طوعا وإن كان يضمر في أعماقه نزعة هي مزيج من الإعجاب والرغبة في الثأر من هذا الذي يفرض عليه بحضارته المتفوقة سوم هذه العبودية ، كما ينهار نظامه القيمي والأخلاقي بوصفه رجلا شرقيا متحدرا من محتد بدوي ، و تنمحي إرادته كليا عندما يجاسد امرأة غربية ? » الحشد « تمثل في لاوعيه المكبوث وضمن نطاق جوعه الجنسي التاريخي » صور النساء الممتلئات كالأفراس ، وهن يمشين متثاقلات على الرمل في الصحراء «. تعكس رواية » جيرترود« غنى » درج الخياط « والمعرفة المرجعية الثرية التي يمكن أن يتسلح بها الروائي . فتعددية الحقول التي نهل منها حسن نجمي ( تشكيل ، فوتوغرافيا ، أدب عالمي ، موسيقى ، تاريخ ....) أضفت » صبغة كرنفالية « بالمعنى الباختيني على الكتلة النصية للرواية ، التي جاءت مركبة ، غجرية ، محتفية بالهجنة والخلاسية ، تحقق التفات النوع الروائي وانكتاب عوالمه ا?سرارية في تلك المنطقة المستنقعية الملتبسة التي تختلط فيها مياه السرد بمياه الأجناس الأخرى . إنها نموذج مثالي لكتابة » تجربة الحدود « ، عندما تستضاف الوسائل فوق الروائية في فناء ما هو سردي ، وبعد أن تصير جزءا من قواعده وقطعة لا غنى عنها من ?جروميته ، تلعب دورا مركزيا في تجسيده كعمل فني متكامل ، وكذا في تحويل المؤلف من ( كاتب للرواية ) إلى ( مخرج للرواية ). وعلى ذكر الإخراج ، يتوجب ا?لفات إلى خصيصة مهمة في هذه الرواية الماتعة ، هي إمكاناتها المشهدية ومقوماتها البصرية الغنية مما يسهل انفتاحها على التعبير الفيلمي . فتوظيف حسن نجمي لتقنيات السيناريو ، ولمنهج الكتابة على منوال حركة الكاميرا، وللمقاطع الحوارية ، وللمونتاج السردي المتعاقب ، وللاستعارات الشعرية التي تحاكي المواقف والوقائع ، كلها مقومات تكفل » تبصير السرد « و القبض على » الزمن المسجل « كموضوع للإدراك البصري . فالرواية تجعل الزمن بلوريا ، مما يمكن من تمثل الماضي وهو يمر في الحاضر ، وإدراك مرور الحاضر وهو يخترق الماضي . بقي أن أشير ، أيضا ، إلى أن الكاتب لا يمكن أن يكون مثل حكيم رواقي يتحصن جيدا داخل قلعته الداخلية، ولا أن يظل بلا انفعالات أمام التبدلات والمنعطفات الروحية لشخوصه ، لذلك يتسرب شيء من حياته إلى الطبقات الرسوبية لمخلوقاته الورقية . من هنا لن نعدم وجود قسط من السيرذاتي لحسن نجمي ضمن تلافيف الرواية . لنقل ظلالا من مرارة السارد بوصفه لسان حال حسن نجمي الذي » لم يعد يثق في وفاء الكلاب « ويراوده الطموح » لتربية زوج من الذئاب « مما يتقاطع مع ذلك المقطع الشعري الشهير للكاتب الألماني كارل كراوس : » لاشك ، الكلب وفي . إنه فعلا وفي للإنسان ، وليس للكلاب « . الظلال عينها التي تغدو أكثر تجسيما كما في مسرح » النو « الياباني عند انتهاء الرواية بهذا المقطع الدال الذي يسوقه السارد : » أما أنا ، فقد غادرت مهنة الصحافة . تخلت عني جريدة كئيبة أصبحت فجأة ذات نزوع عائم وغامض ، وذلك حين » فشلت «(اقصد :رفضت) في أن ?صطف خلف مدير الجريدة ،وهو سياسي موبوء يحب أن يصطف وراءه الجميع ، وأن يقدم نفسه كزعيم مع ?نه ليس سوى رجل ضمير سابق ، مازلت ?كتب الشعر بشغف ، وإن كنت فقدت لذة نشره . لم أعد أحب القراء « . لكن ، المؤكد أن القراء سوف يحبون هذا العمل نكاية في مبدع » لك الأمارة أيتها الخزامى « ، وسيكتشفون في ما يقوله أو حتى في ما لا يقوله في غفلة من الكلمات ونواياها الصريحة ، وعيا رهيفا وتشخيصا دقيقا للحظة الإنسان المغربي ماضيا وحاضرا ، وكذا تجربة أدبية عميقة تذهب إلى حدوس الكتابة الحقيقية بأقدام لا تتعثر بأكياس الرمل ، فضلا عن مساهمتها في إعادة صياغة أسئلة وروح الرواية المغربية ، كي تتخلص من طابعا المحلي على صعيد الموضوعات التي تتناولها والتقنيات التي تتوسل بها ، وتنفتح بكل جدارة على ذلك» الأفق الكوني للرواية « كما يعمّده فيليب روث . وهو أفق كفيل بحمل المزيد من الماء والفاكهة إلى جسدها ، والذهاب بها إلى آماد ?بعد على صعيد التداول والتلقي والترجمة . خلاصة القول ورحيق الكلام : إن » جيرترود« عمل مغربي استثنائي بمواصفات كونية. كتابة ساحرة ، بديعة ، وممتعة...وكفى.